طعم الإيمان

 

عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ذاق طعم الإيمان مَن رضيَ بالله رباً، وبالإسلام دِيناً، وبمحمد نبياً رسولاً) [أخرجه مسلم] (1)

لعلَّ التاريخ لم يشهدْ عصراً أحوج من عصرنا إلى هذا الهدي النبويِّ الحكيم، فما أبعد الشقَّة اليوم بين الأسماء ومسمياتها!

ما أكثر المنتسبين إلى الإسلام والإسلام منهم براء، وما أكثر الملقبين بلقب الإيمان وأفئدتهم منه هواء!

فإن أحببت يا أخي ألا تكون من أولئك وهؤلاء، فتعال معي قبل كل شيء نعرض أنفسنا على أشعة هذا المصباح الكاشف، لنختبر بمعاييره مبلغ صدقنا، ومدى جدِّنا في دعوى الإيمان.

مجال الاختبار:

وأول ما يطالعنا من هذا التوجيه الرشيد أنه يحوِّل أبصارنا عن القشر إلى اللب، وعن المظهر إلى المخبر، وعن الصورة إلى الجوهر، إنَّه يعودُ بنا إلى طبيعة الإيمان في عناصره النقيَّة الأوليَّة، ولا يحدثنا عن شيء من آثاره وثمراته القريبة أو البعيدة.

فالإيمان في حقيقته ليس من فصيلة الأقوال أو الأعمال أو الظواهر التي تدركها الأسماع والأبصار، ولكنه شيء في جذر النفس مولده، وفي أعماقها منبته، ففي ذلك القرار المكين يستقر بذر الإيمان وينمو حتى يخرج نباته بإذن ربه، شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وكل مظهر من المظاهر لم ترسخ عروقه في هذا الحرز الحريز فإنَّه يظلُّ في مَهبِّ الرياح عرضة للتحوُّل أو الزوال، كشجرة خبيثة اجتُثَّت من فَوق الأرض ما لها من قَرار.

ونحن إذا رجعنا إلى نشأة الإيمان في النفوس البصيرة، نجده يُولد فيها غالباً من خلال نظرة فاحصة يلقيها المرء على الكون جملة، فإذا الوجود المادي في عينه هباء في هباء، قادم من العدم سائر إلى الفناء، وإذا العظمة والثبات والخلود، إنما هي للحق الغيبي الأعلى، الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، والذي لا يَسعُ الفطرة السليمة متى استيقظ وعيها إلا أن تخشع له، وتتطامن أمامه، فالإيمان المستنير يجيء في إثر هذا الموقف الخاشع الفطري، تقريراً له ومصادقة عليه، في انبعاثة اختيارية مُستقلة.

وبعد، فإنَّ هذا ليس كل الطريق وإنَّما هو بداية الطريق، فلو كان مقياس الإيمان المنشود، هو ذلك الإحساسُ الفطري بجلال الكون وجماله، وذلك الاعتراف الاختياري بعظمة بارئه ومصوره، إذاً لهان الأمر وسهل الحساب، وإذاً لاجتاز أكثر الناس هذا الاختبار بفوز ونجاح. 

نعم، أكثر الناس، حتى الغارقون منهم في حمأة التحلُّل والإباحيَّة، والخابطون منهم في ظلمات الخرافة والوثنيَّة، الذين لا يُؤمن أكثرهم بالله تعالى إلا وهم مُشركون، ولكن هيهات، فالامتحان دقيق مُتشعِّب، وقد عرفنا الآن طريقه ومكانه، ولكننا لم نعرف بعدُ شُعبه ولا مواده وأركانه، وهل يكفي الساعي إلى النجاح، أن يَعرف مكان الاختبار، دون أن يعرف مواد الاختبار، ويدرِّب نفسه على حسن الجواب عنها؟

مواد الاختبار:

فلننظر الآن في سياق النطق النبوي الكريم، نجده يجعل الحد الأدنى للفوز في هذا الاختبار الروحي، نجاحَ المرء في ثلاث مواد مجتمعة:

1 – الرضا بالله تعالى رباً.

2 – الرضا بالإسلام ديناً.

3 – الرضا بمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً رسولاً.

وهنا نقف وقفة يسيرة، نستمع فيها إلى بعض الهواجس التي تجول في خاطر القارئ إذا وصل معنا إلى هذا الموضع:

فكأننا به يقول في نفسه: إذا كانت هذه هي كل موادِّ الاختبار الذي نمتحن به إيماننا، فقد هانت المسألة، وانحلَّت المشكلة، ألسنا كلنا بحمد الله نرضى بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً رسولاً؟ أليس هذا الشعار الذي يعتنقه مئات الملايين من المسلمين؟

- لا تعجل بالحكم أيها القارئ الكريم قبل أن تستبين معاني القول، وتتحقق أهدافه ومراميه.

إنَّ العلامة التي وضعها الرسول الأمين صلوات الله عليه، وجعلها معياراً للإيمان، ليست هي أن (تعرف) الله تعالى وشريعته، ومحمداً صلى الله عليه وسلم ورسالته معرفة مجردة، ولكنها هي أن (يرضى) بذلك قلبك، وتطيب به نفسك.

وشتَّان بين تلك (المعرفة) العقلية، وهذا (الرضا) القلبي، ألست تعلم أنَّ قوماً كانوا يعرفون الحق كما يعرفون أبناءهم، ثم لم تغنهم هذه المعرفة شيئاً، لأنها كانت غصة في صدورهم، وشجاً في حلوقهم، فكفروا به، لا عن جهل أو ريبة في أمره، ولكن نفاسة على صاحب الدعوة، وحسداً أن يُنزل الله تعالى من فضله على من يشاء من عباده؟

أو لست تعلم أنَّ قوماً آخرين كانوا يرون آيات الله مبصرة نيرة واستيقنتها أنفسهم، ولكنهم مع ذلك جحدوا بها ظلماً وعلواً؟ 

فهذه ضروب من المعرفة العقلية المجردة، التي لم تصادق النفس عليها مصادقة طائعة مختارة، ولكنها نظرت فيها إلى الحقيقة نظرة ساخطة مُتبرِّمة، راغمة ناقمة، فكانت تتشهى زوالها، أو تتمنَّى أن لو لم تكن جاءت على الصورة المعينة التي ظهرت فيها، وما هكذا يكون الإيمان.

إنَّ الإيمان محبة الحق والأنس به سبحانه، والانضواء تحت رايته في طمأنينة وأريحيَّة، وفي هشاشة وبشاشة قلبيَّة، هذا هو معنى (الرضا). بل هذا لا يمثل من الرضا إلا نصف معناها، فحقيقة الرضا نصفان: (نصف) ارتياح وطمأنينة وسكون وركون إلى الشيء الذي تعرفه، و(نصف) قناعة واكتفاء به، وعدم تطلع إلى ما وراءه، فلو أنك استحسنت شيئاً وأحببته، ثم استحسنت وأحببت غيره كما تستحسنه وتحبه، أو كنت لغيره أشد استحساناً وحباً، لم تكن راضياً بالأول ولا قانعاً به.

ألا فاعلم أنَّ معيار الإيمان هو هذا الرضا بشطريه جميعاً، فلا يذوق طعم الإيمان إلا من كانت منزلة الحق عنده منزلة (حب) و (إيثار) معاً، ذلك أنَّ الحق تعالى غيور، يتطلب الانفراد، ولا يقبل المشاركة ولا المبادلة، يتطلب أن تكون له في نفس المؤمن المنزلة العُليا التي لا يحتلها ولا يزاحمه فيها غيره.

ومن ثَمَّ كان شأن المؤمن أن تسخو نفسه بأن يضحي بكل شيء في سبيل الحق، ولا تسخو نفسه بأن يضحي بالحق في سبيل شيء آخر كائناً ما كان، إلا حين تغشى سحابة الغفلة نور الإيمان فإذا انقشعت تلك السحابة – وسرعان ما تنقشع عن قلب المؤمن – عادت النفس إلى صفائها وقوتها في الانتصار للحق والتضحية في سبيله.

والآن وقد ضبطنا المعايير، وحرَّرنا الموازين، فهلمَّ بنا نضع أنفسنا في كفَّة الميزان أمامها:

هل كل من ينتمي إلى الإسلام في هذا العصر (يرضى) حقيقةً، رضا محبة وقناعة، بالله تعالى رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً رسولاً؟

إنها لحقيقة مُرَّة تلك التي تسفر عنها التجربة وما هو إلا أن تجول معنا جولة سريعة لتعرف موقف النفوس من هذه العناصر الثلاثة.

1 – الرضا بمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً رسولاً

هل كل المسلمين (الجغرافيين) ينعمون بنعمة هذا الرضا؟ أليست فينا فئة تعدُّ نفسها في عداد أهل الإسلام، وتزعم أنها تؤمن بنبي القرآن، ثم هي قد اتخذت بعده نبيَّاً دعيَّاً زعمت أنَّه يوحى إليه بما يعدِّل في الشرع ويبدل، ويحرِّم ويحلل، وينسخ ويمسخ؟ فهل قنع هؤلاء بمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً رسولاً؟ كيف وقد زعموا نبوَّة بعد نبوته ورسالة بعد رسالته؟ ألم يعلموا أنَّه هو اللبنة التي كان موضعها فراغاً في بيت النبوات، فكانت رسالته صلى الله عليه وسلم إكمالاً لهذا البنيان، وكان هو صلى الله عليه وسلم (خاتم النبيين) بنصِّ القرآن؟ 

فلينظر المعرضون عن هذا الحديث هل دخل الإيمان في قلوبهم؟ أم هل رشحت قطرة منه في حلوقهم؟ ثم لينظروا كيف يصنعون بتلك الكلمة الجامعة المانعة التي نطق بها الكتاب الذي يزعمون الإيمان به: [اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] {المائدة:3}. فليت شعري ماذا بعد الحق إلا الضلال؟ وماذا بعد الكمال إلا النقصان؟ [فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ] {المرسلات:50}.

2 – الرضا بالإسلام ديناً

تلك كانت فئة، فإليك نبأ فئات وفئات من المسلمين بل من المنتسبين إلى العلم والدين، تراهم لا يعتنقون شريعة الإسلام جملة، ولا يدينون لها كُلاّ ذا وحدة، ولكنهم يأخذون منها ويذرون، كأنهم يُؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، فما وافق أهواءهم، نوَّهوا بعدالته، وأشادوا بسموِّ حكمته، وما عارض مُيولهم وأذواقهم، رأيتهم يقفون منه مواقف شتى: فمنهم من يحاو ل تأويله بتحريف الكلم عن مواضعه عسى أن يجد فيه شاهداً له لا عليه، أو لعله لا يجد فيه شاهداً له ولا عليه، فيصبح في حلٍّ من أن يقول برأيه ما شاء في حكم مسكوت عنه. 

ومنهم من لا يجد في النص مجالاً للتأويل، فلا يجد أمامه حيلة إلا أن يشير بوقف تنفيذه مؤقتاً، نزولاً على ما يسميه ضرورات المدنيَّة العصريَّة، وعلم الله ما هي بضرورات ولكنها الشهوات والنزوات. 

(ومنهم) من لا يبالي بمُعارضة حكم الله جهاراً، فينادي بأنه تشريع وضع لبيئة غير بيئتنا، وعصر غير عصرنا، وأنَّه يجب تعطيله واتخاذ تشريع جديد غيره وفقاً للمصلحة، ولو أنصف لقال: وفقاً للهوى المتحكم، والمنفعة الزائفة العاجلة.

مسالكُ شتى، وأساليب متنوعة، ولكنها تصدر كلها عن وضع نفسي واحد، سافر أو مقنَّع، هو التبرُّم بشيء من شرائع الإسلام، والرغبة الملحَّة في التخلُّص من قيودها.

فمن كان يظن أنَّ أمثال هؤلاء ذاقوا طعم الإيمان فليستمع فيهم إلى حكم القرآن: [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا] {النساء:60-61}. 

[وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالمُؤْمِنِينَ(47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ(48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ(49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ(50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ(51)]. {النور}. 

[أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ] {المائدة:50}. 

[فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا] {النساء:65} 

غير أنَّ الناس أعداء ما جهلوا، ولو عرفوا حكم الله تعالى ودرسوه حق دراسته لتبدَّلت عداوتهم له محبة: [وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ] {سبأ:6}.

3 – الرضا بالله تعالى رباً

وهذا هو حجر الأساس في بنية الإيمان، فما هو مبلغ رسوخه في نفوس الناس؟

هنا تتكشَّف لنا التجربة عن مُفاجأة قاسية، أشد قسوة من سابقتها، ذلك أنَّ المصاب هنا ليس مصاب فئة ولا فئات، ولكنه وباء شامل، لا ينجو منه إلا قليل ممن عصم الله تعالى، فلننظر: كم منا معشر المسلمين من لا يتخذون من دون الله أرباباً يخشونهم كخشية الله أو أشد خشية، ويحبونهم كحبِّ الله أو أشد حباً؟

وحاشا لله أن أرمي واحداً منهم بعبادة الشجر والحجر وأشباههما؟ فتلك وثنيَّة غليظة يتقلَّص ظلها من الوجود رويداً رويداً، ويوشك أن تنقرض، ولكني أشير إلى أنواع كثيرة من الوثنيَّة الخفيَّة، وأخص منها بالذكر نوعين اثنين:

أحدهما: تعيش أوثانه تحت أعيننا وهي أوثان مُتحركة تأكل وتشرب، وتفكر وتنطق، كما نأكل ونشرب ونفكر وننطق، إنَّها من فصيلة البشر ولكنها امتازت بأنها أوتيت حظاً من المال أو الجاه أو القوة أو السلطان، فترى الناس يترامَون على أعتابها، مملوءة قلوبهم رغبة ورهبة، خاضعة أعناقهم لطاعتها في المعروف وفي المنكر، يُعلِّقون عليها آمالهم، ويشكون إليها آلامهم، واثقين بأنَّ في أيديهم حل كل مشكلة، وتفريج كل أزمة، فلو فتشت قلوبهم في تلك اللحظات لوجدت اسم الله تعالى لا يخاطر لهم على بال، ولوجدتهم قد غابت عنهم تلك الحقيقة الناصعة: [مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ] {فاطر:2}، [وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ] {يونس:107}.

تلك عبادة الأشخاص الزائلة، والظلال الآفلة، وإنها لعمري وثنية عمَّ بها البلاء، وعزَّ منها الشفاء، لكن الذين سبقت لهم الحسنى أولئك عنها مُبعدون.

النوع الثاني: يتخذ معبوده أصناماً لا يدركها الحسُّ، بل تكمن في داخل النفس، وهي على فرط دقتها وخفائها أشد تسلطاً واستعباداً للنفوس، تلك هي عبادة الأهواء والشهوات، ولعلها هي بداية الطريقة إلى سائر الوثنيات: [أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ] {الجاثية:23}. [وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ] {القصص:50}. إلا المنيب الأوَّاب الذي إذا عثر نهض، وكلما غفل تذكَّر: [إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ] {الأعراف:201}.

بينما رجل من أهل العلم والإيمان قائم يصلي وهو حاضر القلب يعي كل كلمة يقولها، إذا هو يتوقف فجأة عقب قوله: [إِيَّاكَ نَعْبُدُ....] {الفاتحة:5}، ثم يطول توقفه، ويبدو عليه الاضطراب والتململ، كأنه يريد الخروج من صلاته... ما بال الرجل؟ ماذا أصابه؟ 

إنه أخذ يحاسب نفسه على هذه الكلمة: [إِيَّاكَ نَعْبُدُ....].

أفي الحق أني لا أعبد قط إلا الله تعالى؟ 

ألم يستعبدني الهوى في حياتي ولو مرة؟ 

ألم تشتد بي الرغبة يوماً ولو في مباح، فجعلت أسخِّر لخدمتها عقلي وجوارحي، وأحشد لتنفيذها حيلتي وقوتي، مُطيعاً لأمرها، مُستسهلاً كل صعب في سبيلها؟ 

إذاً ما هذه الدعوى العريضة التي أناجي بها مولاي؟ أأجمع على نفسي هكذا بين نقيصتي القول والعمل: يستعبدني شيء غير الله تعالى، ثم أقول له: إني لم يستعبدني شيء إلا جلال وجهك؟!. 

ويهمُّ الرجل أن ينصرف من صلاته هرباً من هذا التناقض بين قوله وفعله، ولكنه لا يجرؤ على قطع الصلاة قبل تمامها، لأنَّه يسمع قول الله تعالى: [وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ] {محمد:33}. 

وبينما هو في هذا الوضع القلق يحاسب نفسه ويُعاتبها، إذا شعاع من نور الفهم يخرجه من ورطته، ويسوقه إلى إكمال عبادته، وهو مثلج الصدر قرير العين: لا يا رب! إني لست أكذِبُك عن نفسي، فإني لا أحدثك عما مَضَى من أمري، وما أريد أن أقوله هو أني أقطع العهد على نفسي منذ الساعة ألاَّ أذل لغيرك، ولا أعبد إلا إياك. 

مالي أفكر في آجل لا أدري ما أنت قاضٍ فيه؟ كلا إني لا أخبرك عن ماضٍ ولا مُستقبل، ولكني أنشئ الآن هذا العزم إنشاء، فتقبل مني إقبالي عليك وإخلاصي لك في ساعتي هذه، واعفُ عما سلف مني، ووفقني فيما بقي من عمري.

هذا لونٌ من أحاديث النفس، عند من ذاقوا طعمَ الإيمان، حينما يذوقون طعم الإيمان.

اللهم ربَّنا ورب كل شيء، رضينا بك رباً، ورضينا بالإسلام لك ديناً، ورضينا بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم عبدك نبياً رسولاً. اللهم ثبتنا على ذلك حتى نلقاك، آمين.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

 

المصدر: (مجلة لواء الإسلام، العدد التاسع، السنة التاسعة، جمادى الأولى 1375 ديسمبر 1955).

 

الدكتور محمد عبد الله دراز عضو جماعة كبار العلماء، وأستاذ الحديث والتفسير بكليات الأزهر، وفضيلته من أفذاذ العلماء في دينه وعلمه وخلقه، وقد تخرج في جامعة السوربون بدرجة دكتوراه الدولة برتبة الشرف الأولى في سنة 1947م.

(1) أخرجه أحمد في مسنده، ومسلم في صحيحه، والترمذي في جامعه، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وختام الحديث عند الترمذي: (وبمحمد نبياً) وعند مسلم: (وبمحمد رسولاً) أما الجمع بين النبوة والرسالة كما هنا فهو إحدى روايتي أحمد.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين