رمضان شهر الإرادة

 

في العاشر من رمضان وقعت غزوة فتح مكة ، وعادت أم القرى إلى حضن الإسلام ، وأخذت مكانها بين حصونه وقلاعه ، وراحت إلى جانب المدينة المنورة تصدر الخير وتبعث رسائل النور إلى أرجاء العالم .

وحين يقرأ الإنسان في كتب السيرة والتاريخ أحداث تلك الغزوة وغيرها من الغزوات الرمضانية على وجه التحديد كغزوة بدر والقادسية والزلاقة وعين جالوت وحطين… يداخله فخر خصيب وشعور عجيب وزهو ليس بالغريب يتشارك في صنعه أقلام الكتاب وبيان الشعراء وألسنة الخطباء .

على أن ذلك الشعور لا يجدي صاحبه نفعا… ولا يهب الأمة في سعيها نحو الحضارة دفعا…  ولا يكسبها بين الأمم علوا ولا رفعا… ومتى كانت المشاعر تبني حضارة?  ومتى كانت الأحاسيس ترفع للأمة بين الأمم منارة… دون عمل صادق وتخطيط حكيم? .  

إن النوم في العسل والتغني بالأمجاد…  والعيش في نشوة انتصارات الأجداد…  لن ينفع الأبناء ولا الأحفاد .

إن الفتى من يقول هاأنذا * ليس الفتى من يقول كان أبي 

إننا اليوم مدعوون ونحن نرى تقهقر المسلمين وتراجعهم في شتى الميادين وعلى كافة الصعد… حضاريا وأخلاقيا وصناعيا… مدعوون إلى الأخذ بزمام المبادرة وتتبع الأسباب التي مكنت أسلافنا من سدة الحضارة وأجلستهم على عرشها قرونا متطاولة وآمادا بعيدة .

اليوم لا ينفعنا التغني بالبطولات…  ولا التطاول بالأمجاد…  ولا ينتشلنا من واقعنا المر الأليم التباكي عليه…

اليوم لا ينفعنا إلا العمل والعمل وحده ..العمل على تحقيق ذواتنا… العمل على رفع سويتنا العقلية والتفكيرية والنفسية والأخلاقية… العمل على إيجاد مكان لنا هناك… حيث لا يثبت إلا القوي ولا ينتصر إلا ذو بأس شديد…

 

إن المتأمل في تفوق أسلافنا والباحث في أسبابه يطالعه أول ما يطالعه سبب جِدّ مهم وعامل غاية في التأثير في عملية النصر واستجلابه ألا وهو (الانتصار على الذات في ميدان الملذات)… التمكن من النفس وصرعها أرضاً… وهو ما يشير إليه الهدي الإلهي والقانون الرباني البارز في سورة محمد عليه الصلاة والسلام في الآية السابعة منه :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ …} 

هذا القانون الذي يضع المسلمين أمام حقيقة لا مفر منها… وقانون يحكمهم في كل زمان ومكان… أن النصر المنشود مرهون بنصر شريعة الله وتحكيمها في نفسك واهوائك ورغباتك… أداة شرط وفعله وجوابه… إن تنصروا الله بالتزام شريعته والانسياق وراء كتابه وهدي رسوله وحمل النفس على ذلك تستحقون النصر الموعود… من قدم المهر يحرز العروس… أما إذا أسلمتم القياد لأنفسكم وتركتم لها الحبل على الغارب فإن الهزيمة واقعة لا محالة… لأن النفس لا تحب الكريهة، ولا تألف التكاليف ، ولا ترضى بالتضييق عليها، وهي فرس شَموس تحتاج إلى ترويض حتى تسلم لك قيادها ، فإذا تمكنت منها ذهبتَ بها حيث تريد وجُلتَ بها في كل ميدان.  

يقول الأستاذ سيد قطب عن تفسير قوله تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ }:( وكيف ينصر المؤمنون الله، حتى يقوموا بالشرط وينالوا ما شرط لهم من النصر والتثبيت؟ 

إن لله في نفوسهم أن تتجرد له، وألا تشرك به شيئا، شركا ظاهرا أو خفيا، وألا تستبقي فيها معه أحدا ولا شيئا، وأن يكون الله أحب إليها من ذاتها ومن كل ما تحب وتهوى، وأن تحكمه في رغباتها ونزواتها وحركاتها وسكناتها، وسرها وعلانيتها، ونشاطها كله وخلجاتها.. فهذا نصر الله في ذوات النفوس. 

وإن لله شريعة ومنهاجا للحياة، تقوم على قواعد وموازين وقيم وتصور خاص للوجود كله وللحياة. ونصر الله يتحقق بنصرة شريعته ومنهاجه، ومحاولة تحكيمها في الحياة كلها بدون استثناء، فهذا نصر الله في واقع الحياة). 

 

وقد وعى الصحابة هذا القانون... وأحلوه من حياتهم المحل الأسمى… ورعوه حق رعايته وأسسوا له تمام التأسيس…  فتحققت لهم الانتصارات…  ودانت لهم الأمم والملوك… وكانوا دائما ما يذكّرون بعضهم البعض به… فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه… كتب إلى سعد بن أبي وقاص- رضي الله عنه - ومن معه من الأجناد فقال :

" أما بعد؛ فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال؛ فإن تقوى الله أفضل العدّة على العدوّ ، وأقوى المكيدة في الحرب . 

وآمرك ومن معك أن تكونوا أشدّ احتراسا من المعاصي ، منكم من عدوّكم ، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوّهم ، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوّهم لله ، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة ؛ لأن عددنا ليس كعددهم ، ولا عدّتنا كعدّتهم ، فإذا استوينا في المعصية ، كان لهم الفضل علينا في القوة ، وإلا ننصر عليهم بفضلنا ، لم نغلبهم بقوتنا. 

إذن إذا انتصرت على نفسك… اذا قدتها أنت ولم تقدك هي…  توالت انتصاراتك وتتابعت مسيرتك المظفرة…  وتهاوت أمامك حصون الأعداء وتساقطت قلاعهم…

وإذا كان العكس… وكنت خائر القوى ضعيف الحيلة أمام نفسك فأنت خاسر من الجولة الأولى… 

إذا أنت كنت عن هزيمة نفسك عاجزا فعن هزيمة غيرها أعجز… وإذا عن إلجامها كنت ضعيفا فأنت عن التغيير في محيطك الضيق والواسع أكثر ضعفاً… وتذكر دائما أن(  فاقد الشيء لا يعطيه)… 

إذا كنت لا تصبر عن سيجارة ولعت بها… أو هاتف تعلقت به…  أو متعة صرفت إليها… فأنت ضعيف الإرادة… بحاجة إلى تقويتها… إلى إعادة إحيائها… إلى تفعيلها… 

وها هو رمضان الذي نستظل بظله اليوم يقدم لك خدماته الجليلة في هذا الباب ويقيم لك دورة تدريبية في تقوية الارادة… كيف ذلك ? 

أنت تصوم طوال النهار عن سيجارتك… وتصبر الساعات الطوال عن حاجة بطنك وفرجك… أليس كذلك ? إذن أنت تقدر…أنت تريد… الأرضية موجود… القابلية والامكانات متوفرة… ما عليك إلا أن تحاول… وتفعل دوران عجلتها وتعديَها إلى مجالات أخرى… فتنتصر على شهواتك… فليس ذلك بالمستحيل… 

لقد كنت دائما ما أقول لمن يقول : الألمان شعب لا يعرف المستحيل… المسلم هو فقط من لا يعرف المستحيل… بحكم قوة إرادته ووثوقه بربه ثم بنفسه… 

فهلم أيها المسلم… صحّح المسار… وقوِّ إرادتك… تحظَ بالانتصار… بعون العلي الغفار… 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين