حدث في الحادي عشر من رمضان

محمد زاهد أبو غدة

 في الحادي عشر من رمضان من سنة 381، بويع في بغداد بالخلافة لأمير المؤمنين القادر بالله أحمد بن إسحاق، وعمره 45 عاماً، وقُدِرَ له أن تطول أيامه فبقي في الخلافة 41 عاماً، وكان حازماً صالحاً مهاباً. وقد أطلتُ هذه الترجمة لما فيها من تبيين لأمور تتعلق بالدولتين البويهية والفاطمية وعلاقتهما بالخلافة العباسية في بغداد.
كانت أمه أم ولد تسمى تمني، وكانت من أهل الفضل والدين، ومن العابدات الصالحات، وكان والده إسحاق أميراً من أمراء الدولة العباسية، وهو ابن الخليفة المقتدر، وتوفي والده سنة 377 عن 60 عاماً، وصلى عليه ابنه وهو إذ ذاك أمير.
وقد تولى القادر الخلافة وسط اضطراب حدث في بغداد قام على إثره السلطان البويهي بهاء الدولة بن عضد الدولة بن بويه بخلع الخليفة الطائع لله، بعد أن مضت عليه في الخلافة 24 سنة، واستشار بهاء الدولة فيمن يصلح للخلافة فأجمعوا على القادر بالله، وكان سبب خلع الطائع أن بهاء الدولة قلّت عنده الأموال وكثر شَغْبُ الجند عليه، وكان الوزير أبو الحسين بن المعلم قد غلب على بهاء الدولة وحكم في مملكته، فحسن له - من قبل - القبض على الطائع وأطمعه في ماله، وهوَّن ذلك عليه وسهَّله، فدخل بهاء الدولة في شعبان على الطائع مع أصحابه، فشحطوا الطائع بحمائل سيفه من السرير، ولفّوه في كيس، وأُخِذَ إلى دار السلطنة، وأكره بهاءُ الدولة الطائعَ على خلع نفسه، وأمر بالنداء بخلافة القادر بالله، واحتيط على الطائع بالله ثم أُخِذَ فيما بعد إلى دار عند القادر بالله فبقي فيها مكرماً محترماً إلى أن مات سنة 393، وله 73 سنة، وصلّى عليه القادر بالله، وشيّعه الأكابر. ومما يُذكر أن الخليفة المعزول الطائع لله كان قد تزوج أخت بهاء الدولة، وهو أمرٌ درج عليه كثير من الخلفاء لتوطيد العلاقة بين السلطان والخليفة بوشيجة الرحم، فما أفاد الطائع ذلك.
وحضر هذه الحادثة المخيفة الشريفُ الرضي فبادر بالخروج فسَلِمَ، وقال فيها أبياتاً منها:
أعجب بمُسكة نفسي بعد ما رُميت ... من النوائب بالأبكار والعونِ
ومن نجاتي يوم الدار حين هوى ... غيري ولم أخْلُ من حزمٍ ينجيني
مرقت فيها مروق النجم منكدراً ... وقد تلاقت مصاريعُ الردى دوني
وكنت أول طلاَّعٍٍ ثنيتها ... ومن ورائيَ شرٌّ غير مأمون
من بعد ما كان ربُّ الـمُلك مبتسماً ... إليَّ أدنيه في النجوى ويدنيني
أمسيتُ أرحم من قد كنت أغبطه ... لقد تقارب بين العز والهُونِ!
ومنظر كان بالسَّراء يُضحكني ... يا قرب ما عاد بالضراء يبكيني
هيهات أغترُّ بالسلطان ثانية ... قد ضلَّ وُلاّجُ أبواب السلاطين
من لي ببُلغة عيشٍ غير فاضلةٍ ... تكف عني أذى الدنيا وتكفيني
قالوا أتقنع بالدون الخسيس وما ... قَنعتُ بالدون بل قُنِّعتُ بالدون
إذا ظننا وقدَّرْنا، جرى قدرٌ ... بنازلٍ غير موهومٍ ومظنون
ولم يكن القادر في بغداد بل كان يقيم في البَطيحة منذ قرابة ثلاث سنوات هارباً من الطائع لله وفي حماية زعيمها - وهو كذلك صهر السلطان بهاء الدين البويهي - مهذبِ الدولة أبو الحسن علي بن نصر، المتوفى سنة 409 عن نيف وسبعين عاماً، وكان ذا كرم ووفاء، وكان الناس يلتجئون إليه في الشدائد، فيجيرهم ويقوم بأمرهم، ويبذل نفسه وماله دونهم، وكان السبب في هرب القادر إليه أنه لما توفي والده إسحاق بن المقتدر جرت بين القادر وبين أخته آمنة منازعة في ضيعة، واتفق أنه الطائع مرض مرضاً شديداً ثم شُفي منه، فكادت للقادر أختُه بأن قالت للطائع: إنه شرع في تقلد الخلافة عند مرضك، وراسل أرباب الدولة. فظن أن ذلك حق فتغير رأيه فيه، وأنفذ جماعة للقبض عليه، فعرف ما يراد به، وتخلص منهم، وانحدر القادر بالله إلى البطيحة، فأقام بها عند مهذب الدولة.
والبطيحة منطقة شمالي البصرة تغلّبَ الماءُ عليها ودخلها الناس بالسفُن فَرَأوا فيها مواضع عالية لم يَصِل الماءُ إليها فبنُوا فيها قرى وسكنها قوم وزرعوها الأرز، وتغلبَ عليها في أوائل أيام بني بُويه أقوام من أهلها وتحصنوا بالمياه والسفن عن طاعة السلطان، وصارت لهم كالمعَاقل الحصينة، وهي المعروفة اليوم بالأهوار.
ولما وصل رسول بهاء الدولة البويهي إلى القادر بالله يخبره باختياره للخلافة أجابه برسالة أثنى عليه فيها وأخذ في الاستعداد للرحيل إلى بغداد، وقام مضيفه مهذب الدولة بتجهيزه، وحمل إليه من المال والفرش أكثر شيء وأحسنه، وأعطاه طياراً - زورق سريع - كان بناه لنفسه، فلما وصل الخليفة إلى واسط اجتمع الجند الأتراك وطالبوه بمنحة البيعة، ومنعوه من الصعود إلا بعد إطلاق المال، وجرت معهم مماحكات انتهت إلى أن وعدوا بإجرائهم مجرى البغدادين فما يتقرر عليه أمورهم.
ولما جاء القادر بالله إلى بغداد جلس للناس ومدحه الشعراء، فمدحه الشريف الرضي فقال:
شرفُ الخلافة يا بني العباس ... اليوم جدده أبو العباس
ذا الطود أبقاه الزمانُ ذخيرةً ... من ذلك الجبل العظيم الراسي
وممن مدحه على بن الحسين بن جلباب التنوخي، من أهل معرة النعمان في سورية، فقال:
رأينا به العباس معنى وصورةً ... فما عُدَّ عنا غائباً وهو شاهدُ
فلا عوَّلت إلا على مجدك العلا ... ولا انتسبت إلا إليك المحامد
وبعد عشرة أيام من البيعة جُمع الأشرافُ والقضاة والشهود في مجلس القادر، ليسمعوا يمينه لبهاء الدولة بالوفاء، وخلوص النية ولفظَه بتقليده ما وراء بابه مما تقدم فيه الدعوة، وذلك بعد أن حلف له بهاء الدولة على صدقه والطاعة والقيام بشروط البيعة، وبعد شهرين من تعيينه في منصب الخلافة منح القادرُ بالله لقبَ غياث الأمة لبهاء الدولة، وخطب له بذلك على المنابر مضافاً إلى ألقابه، ولما كان الخليفة على جلالة منصبه قد أصبح في يد السلطان رأينا كثيراً من الخلفاء يقترنون بمن يلوذ بالسلطان من ابنة أو أخت، واتباعاً لهذه العادة تزوج القادر بالله في سنة 383 سكينة بنت بهاء الدولة على صداق مئة ألف دينار، ولكنها ماتت قبل الدخول بها، ومات بهاء الدولة سنة 403 عن 42 عاماً، وأوصى بالملك بعده لولده أبي شجاع.
جاءت خلافة القادر بالله في حقبة بلغ فيها الضعف مبلغه من الخليفة العباسي والسلطان البويهي على السواء، وكانت الدولة الفاطمية تسعى بكل الوسائل لتوسيع نفوذها في المشرق العربي وخراسان وأفغانستان كما سنرى، والاضطراب الذي أدى إلى خلافة القادر قام به الديلم والأتراك ضد الوزير أبي الحسن بن المعلم وزير السلطان بهاء الدولة البويهي، وكان قد استولى على الأمور فثقل على كبار الجند أمره، وقصَّر هو في مراعاة أمورهم، فخرجوا فأجابهم السلطان بتلطف ووعدهم بعزله، فأبوا إلا قتله وهددوا بالخروج على السلطان وخيروه بين بقاء أبي الحسن أو بقاء دولته، فقبض عليه حينئذ وقتله خنقاً.
وبقي ملوك بني بويه المسيطرون على العراق يستمدون شرعيتهم من الخليفة العباسي، ففي سنة 404 تولى عرش المملكة البويهية سلطان الدولة فناخسرو بن الملك بهاء الدولة، وهو صبيٌ في العاشرة، فأرسل إليه القادر بالله، خِلعَ الُملك إلى شيراز، وهي سبع ملابس، وعمامة سوداء، وتاج مرصع، وسيف، وسواران، وطوق، وفَرَسان، ولواءان عقدهما القادر بيده، وكتب إلىه عهداً أغدق عليه فيه الألقاب: عماد الدين، مشرف الدولة، مؤيد الملة، مغيث الامة، صفي أمير المؤمنين.
وفي سنة 416 تسلطن الملك فيروز خسرو بن بهاء الدولة، فلقبه القادر بالله: ركن الدين جلال الدولة، وحُمِلت إليه الخلع السلطانية واللواء والكتاب، وخرج القادر بالله يتلقاه في زورقه بدجلة لما أتى بغداد وهو أمر لم يسبق لخليفة أن فعله.
ومما ينبغي ذكره أن جلال الدولة البويهي كان موصوفاً بالرقة والرأفة والحنو على الكافة، والعفو عند المقدرة، وكان محافظاً على الصلوات في أوقاتها، يخرج الزكاة والصدقات، ويواصل الصلاة في المساجد الجامعة المشهودة والمشاهد المقصودة، محباً للصالحين كثير الزيارة لهم، وتوفي سنة 435 عن 52 عاماً.
وكثر في هذه الفترة ملوك النواحي الذين لا يخضعون للبويهيين، والذين راسلوا المقتدر يطلبون منه مراسيم التعيين وألقاب الملك، إضفاءاً للشرعية على مناصبهم، ففي سنة 387 طلب صاحب الموصل حسام الدولة، مقلد بن المسيب العقيلي خلعة التعيين من القادر بالله فأرسلها له، وفي سنة 388 جلس القادر بالله للرسولين الواردين من أبي طالب رستم بن فخر الدولة، وأبي النجم بدر بن حسنويه، وكنى أبا طالب ولقبه مجد الدولة وكهف الأمة، وكنى أبا النجم ولقبه نصر الدولة، وعهد لأبي طالب على الري وأعمالها، وعقد له لواء، وحمل إليه الخلع السلطانية الكاملة، وعهد لبدر على أعماله، وتصرف بالجبل، وعقد له لواء وحمل إليه الخلع الجميلة.
وفي سنة 390 كتب القادر بالله لمحمد بن عبد الله بن الحسن وقد ولاه بلاد جيلان كتاباً نورد بعض ما جاء فيه لإبراز شخصية القادر بالله في ما يوصي به عماله وولاته:
فقلده الصلاة والخطابة على المنابر والقضاء والحكم ببلاد جيلان أسودها وأبيضها، وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله، عليه توكُلُه وإليه في كل حال موئله، وحسب أمير المؤمنين الله ونعم الوكيل.
أمره بخشية الله، فإنها مزية العلماء، ومراقبته فإنها خاصة الأدباء، وتقواه ما استطاع، فإنها سكة من أطاع، وجُنة من تجاذبه الأطماع، وأن يأخذ لأمر الله أهبته ويعد له عدته، ولا يترخص فيه فيفرِّط، ولا يضيع وظيفة من وظائفه فيتورط.
وأمره بقراءة القرآن وتلاوته، والمحافظة عليه ودراسته، وأمره بمداومة الطهر فإنه أمان من الفقر، ولا يقنع به في الجوارح، أو أن يكون مثله فيما بين الجوانح، فإن النقاء هناك هو النقاء الذي يتم به البهاء، وحينئذ تكمل الطهارة، وتزول الأدران، وأمره بمراقبة مواقيت الصلاة للجمع، فإذا حانت سعى إليها، وإذا وجبت جمع عليها بالأذان الذي يُسمِعُ به مؤذنوه الملأ.
وأن يديم التصفح لأحوال البلاد التي ولي فيها ما وليه من قواعد الشريعة، وليقابل نعمة الله بشكر الصنيعة، فإن وجد فيها نافراً عن فريضة الدعوة الشريفة اجتذبه إليها بالموعظة الحسنة والدلالة الصريحة، فإن استبصر لرشده وراجع المفروض بجهده فقد فاز وغنم، وإن تشاوس وعَنِدَ استنفر عليه الأمم وقمعه بما يوجبه الحكم.
وأمره بصلوات الأعياد والخسوف والاستسقاء، وأمره أن يكون لأمر الله متأهباً، ولنزول الموت مترقباً ولطروقه متوقعاً، وأمره أن يتبع شرائع الإسلام، وأن يواصل تلاوة القرآن ويستنبط منه ويهتدي به فإنه جلاء للبصائر، ومنار الحكم، ولسان البلاغة.
وأمره أن يخلي ذهنه إذا انتدب للنظر، ويقضي أمامَه كل وطر، ويأخذ لجوارحه بحظ يعينها فإن القلب إذا اكتنفته المآرب يعرض له التعب، وأمره بالجلوس للخصوم في مساجد الجوامع ليتساووا في لقائه، وأن يقسم لحظه ولفظه بين جمهورهم، وأمره بالنظر في الأمور بالعدل، وأمره بانتخاب الشهود والفحص عن أحوالهم، وأمره بالتناهي في تفقد الأيتام، فإنهم أُسَراء الإسلام، وأمره بتعهد الوقوف وإجراء أحوالها على ما يوجبه التوقيف من أربابها.
وممن قدَّم ولاءه للخليفة القادر وطلب منه مرسوم التعيين السلطان محمود بن سُبكتكين الغَزنوي - نسبة إلى غزنة في شرق أفغانستان - وذلك في سنة 389، فأرسل إليه القادر بالله خلعة السلطنة، ولقَّبه يمين الدولة، وكان السلطان محمود من السلاطين الفاتحين، جعل دأبه غزو الهند مرة في كل عام، فافتتح بلادا شاسعة، وكان من الفقهاء والبلغاء، له كتاب التفريد في فروع الفقه الحنفي، وخطب، ورسائل وشعر، وكان ولاؤه للخليفة العباسي ولاءَ صدق لا ولاء مصلحة، كما يتجلى ذلك من مراسلاته وتقاريره المستمرة مع الخليفة.
ففي سنة 410 أرسل محمود بن سُبكتكين كتاباً إلى القادر بالله يذكر فيه ما افتتحه من بلاد الهند ووصل إليه من أموالهم وغنائمهم، فقال فيه: إن كتاب العبد - يعني نفسه - وصل من مستقره بغزنة والدين في أيام سيدنا ومولانا الأمير القادر بالله أمير المؤمنين مخصوصٌ بمزيد الإظهار، والشرك مقهورٌ بجميع الأطراف والأقطار، وانتدب العبدُ لتنفيذ أوامره العالية، وتمهيد مراسمه السامية، وتابع الوقائع على كفار السند والهند، وخرج العبد من غزنة بقلب منشرح لطلب الشهادة، ونفس مشتاقة إلى درك السعادة، ففتح قلاعاً وحصوناً، وأسلم زهاء عشرين ألفاً من عباد الوثن، وسلَّموا قدر ألف ألف درهم من الفضة، ووقع الاحتواء على ثلاثين فيلاً، وبلغ عدد الهالكين منهم خمسين ألفاً، ووافى العبد مدينة لهم عاين فيها زهاء ألف قصر مشيد، وألف بيت للأصنام، ولهم صنم معظم يؤرخون مدته لعظم جهالتهم بثلثمئة ألف عام، واعتنى العبد بتخريب هذه المدينة اعتناء تاماً، وعمَّها المجاهدون بالإحراق، فلم يبق منها إلا الرسوم، وحين وجد الفراغ لاستيفاء الغنائم حصل منها عشرون ألف ألف درهم، وأُفرِدَ خُمس الرقيق فبلغ ثلاثة وخمسين ألفاً واستعرض ثلثمئة وستة وخمسين فيلاً.
وفي سنة 420 قضى محمود بن سبكتكين على البويهين في الريّ - وهي اليوم طهران - وسجن ملكها مجد الدولة بن فخر الدولة بن بويه، وكان متشاغلاً بالنساء، ومطالعة الكتب ونسخها، وكانت والدته تدبر مملكته، فلما توفيت طمع جنده فيه، واختلت أحواله، وأخذ محمود بن سبكتكين من الأموال ألف ألف دينار، ومن الجواهر ما قيمته خمسمئة ألف دينار، ومن الثياب ستة آلاف ثوب، ومن الآلات وغيرها ما لا يحصى، وخُطِبَ له في أنحاء إيران، وأرسل محمود بن سُبكتكين كتاباً إلى القادر بالله جاء فيه: سلامٌ على سيدنا ومولانا الإمام القادر بالله أمير المؤمنين، إن كتاب العبد صادر عن معسكره بظاهر الري، وقد أزال الله عن هذه البقعة أيدي الظَلَمة، وطهرها من أيدي الباطنية الكفرة، وكانت الرَيُّ مخصوصة بالتجائهم إليها، وإعلانهم بالدعاء إلى كفرهم فيها، يختلطون بالمعتزلة والرافضة، ويتجاهرون بشتم الصحابة، ويسيرون على الكفر ومذهب الإباحة. ثم ذكر محمود ما عثر عليه من أموال وجواهر وفرش. وتوفي محمود بن سبكتكين بغزنة في سنة 421، وقد بلغ 60 سنة من العمر.
وفي سنة 391 قام أحد أحفاد الخليفة العباسي الواثق بالله بمحاولة جريئة ليصبح ولياً للعهد بعد الخليفة القادر بالله، والحفيد هو: عبد الله بن عثمان بن عمر بن عبد الرحيم بن إبراهيم بن الواثق بن المعتصم بن الرشيد بن المهدي بن المنصور، و يدعى الواثقي، وقَصَدَ هذا الحفيد بلاد ما وراء النهر واتصل بملكها هارون بن سليمان المعروف ببغراخان، وزوّر كتاباً عن لسان القادر بالله بأن يخطب له في بلاده بعد الخليفة وتلقب بالصادع بالحق، ووردت الأخبار إلى القادر فانزعج وخطب بولاية العهد لولده أبي الفضل محمد ولقَّبه الغالبَ بالله، وعمره إذ ذاك ثماني سنين، وجلس القادر جلوساً خاصاً لحجاج خراسان بحضور الأشراف والقضاة، والشهود، والفقهاء، وأعلمهم أنه قد جعل الأمير أبا الفضل ابنه ولي عهده، وكتب إلى الملك بإبعاد الواثقي، فأُبعِدَ فوصل بغداد مختفياً وبلغ القادر خبره فطلبه فانحدر إلى البصرة ومضى إلى فارس وعاود بلاد الترك وجاء إلى خوارزم وفارقها، وقصد الأمير يمين الدولة محمود بن سبكتكين فأخذه وسجنه في بعض القلاع إلى أن مات.
وفي سنة 400 مرض القادر بالله، واشتد مرضه، فأُرجِفَ بموته، فردَّ على ذلك رداً عملياً بأن جلس للناس في يوم جمعة بعد الصلاة وعليه البُردة وبيده القضيب، فدخل إليه الإمام أبو حامد الأسفراييني، فقال لابن حاجب النعمان: اسأل أمير المؤمنين أن يقرأ شيئاً من القرآن ليسمع الناس قراءته؛ فقرأ بصوت عال مسموع الآيات الثلاث من سورة الأحزاب ﴿ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ اْلمُنَافِقُونَ والَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ والمُرْجِفُونَ في المَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّك بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا * سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلًا ﴾، فبكى الناس وانصرفوا ودعوا له.
ذكرنا أن الدولة الفاطمية كانت تسعى حثيثاً لامتداد نفوذها وتوسيع رقعتها، ولتحقيق ذلك كان لا بد لها القضاء على الخلافة العباسية التي بقيت تمثل الشرعية الراسخة العتيدة، واتخذت محاولات الفاطميين أشكالاً مختلفة أهمها التحالفات السياسية مع المتمردين على الخلافة العباسية، ومنها استعادة إرث آل البيت تقوية لدعوى الفاطميين في نسبهم وشرعيتهم، ففي سنة 400 أرسل الحاكم بأمر الله رجلاً إلى المدينة المنورة ومعه أموال راتبة كان يرسلها للحسنيين والحسينيين وزادهم فيها، وأمره أن يحضرهم ويطلب منهم فتح دار جعفر بن محمد الصادق بالمدينة، والنظر إلى ما فيها من آثار جعفر، وأن يحمل ذلك إلى حضرته ليراه ويرده إلى مكانه، ووعدهم على ذلك الزيادة في البر، فأجابوه، ففتحت الدار، وكانت مغلقة منذ وفاة جعفر في عام 148، فوجد فيها مصحف وقعب من خشب مطوق بحديد ودَرَقة خيزران وحَربة وسرير، فجُمِعَ وحُمِلَ ومضى معه جماعة من العلويين، فلما وصلوا أطلق لهم النفقات القريبة ورد عليهم السرير وأخذ الباقي، وقال: أنا أحق به. فانصرفوا ذامين له.
وفي سنة 400 جاء إلى بغداد الحسين بن علي، المعروف بالوزير المغربي هارباً من مصر بعد أن قتل الحاكم بأمر الله أباه وعمه وأخويه، وأراد أن يلتحق بالملك فخر الملك البويهي، وبلغ القادر بالله أمرُه، فخشي أن يكون مكيدة من مكائد الحاكم، واتهمه بالورود في إفساد على الدولة العباسية، فخرج إلى الموصل، وبقي الوزير المغربي طيلة حياته إِلْباً على الحاكم يسعى في زوال دولته بما استطاع.
وكان أقوى نجاح للفاطميين هو في سنة 401 مع حاكم الموصل قرواش بن مُقَلَّد أمير بني عقيل، الذي ترددت عليه رسل الحاكم بأمر الله بالكتب والأموال تستميله وتمنيه، فانساق وراء ذلك، ناسياً أن الخليفة القادر بالله هو الذي أنفذ اللواء والخِلع إلى أخيه في سنة 387.
فجمع قرواش بن مُقَلّد أهل الموصل وأظهر عندهم طاعة الحاكم بأمر الله، ودعاهم إلى ذلك، وأعطى الخطيب نسخة ما يخطب به، وكان فيها في الخطبة الثانية بعد الصلاة على محمد: اللهم صلِّ على وليك الأكبر علي بن أبي طالب أبي الأئمة الراشدين المَهْديين، اللهم صل على السِّبْطَيْن الطاهرين الحسن والحسين، اللهم صلِّ على الإمام المهدي بك والذي بلَّغ بأمرك وأظهر حُجتَّك، ونهض بالعدل في بلادك هادياً لعبادك، اللهم صلِّ على القائم بأمرك، والمنصور بنصرك، اللذين بذلا نفوسهما في رضاك، وجاهدا عِداك، وصلِّ على المعز لدينك، المجاهد في سبيلك، والمُظْهِر لآياتك الخفية، والحجة العلية، اللهم وصل على العزيز بك، والذي تهذبت به البلاد، اللهم اجعل توافي صلواتك على سيدنا ومولانا، إمام الزمان، وحصن الإيمان، وصاحب الدعوة العلوية والملة النبوية، عبدك ووليك المنصور أبي علي الحاكم بأمر الله، أمير المؤمنين، كما صليت على آبائه الراشدين. اللهم أعنه ما وليته، واحفظ له ما استرعيته، وانصر جيوشه وأعلامه.
فَخُطِبَ للحاكم بأمر الله في أعماله كلها، وهي: الموصل، والأنبار، والمدائن، والكوفة وغيرها، وأثار ذلك استياء كثير من أهل هذه البلاد من علماء وأفاضل وعلويين وعباسيين فالتحقوا بالخليفة في بغداد، وأرسل القادرُ بالله القاضيَ أبا بكر محمد بن الطيب الباقلاني إلى بهاء الدولة يطالبه بقمع هذا التمرد الخطير، فأمر بهاء الدولة وزيره عميد الجيوش بالمسير إلى حرب قرواش، فسار إليه في جيشه فما كان من قرواش وقد رأى الخطر القريب يتهدده إلا أن أرسل يعتذر وقطع خطبة الفاطميين وأعاد الخطبة للقادر بالله.
ومن الجدير بالذكر أن عميد الجيوش الذي أرسله بهاء الدولة، واسمه أبو علي الحسين بن جعفر وتوفي في سنة 401 عن51 عاماً ، كان شديد الهيبة قوي السطوة مع عدل وإنصاف، جاء العراق في سنة 392 والفِتَن شديدة، واللصوص قد انتشروا ففتك بهم وغرَّق طائفة، وأبطل ما تعمله الشيعة يوم عاشوراء، وقيل: إنه وضع دنانير في صينية وأعطاها غلاماً له، فقال: خذها على يدك، وسر في بغداد من أولها إلى آخرها فإن عرض لك معترض فدعْه يأخذها، واعرف الموضع. فرجع في نصف الليل فقال: قد مشيتُ البلدَ كله، فلم يلْقني أحد. ودخل مرة كاتب المواريث وأحضر مالاً كثيراً، وقال: مات نصراني مصري ولا وارث له. فقال عميد الجيوش: نترك هذا المال، فإن حضر وارث وإلا أُخذ، فقال: فيحمل إلى خزانة مولانا إلى أن يتيقن المال؟ فقال: لا يجوز ذلك. ثم جاء أخو الميت فأخذ التركة. وفيه يقول الببغاء الشاعر:
سألتُ زماني: بمن استغيث؟... فقال: استغِثْ بعميد الجيوشِ
رجاؤك إياه يُدْنيك منه... ولو كنتَ بالصين أو بالعريشِ
وفي إطار هذا الصراع قام الخليفة القادر بمحاولة لنزع الشرعية الدينية من الفاطميين من خلال الطعن في انتسابهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصدر في سنة 402 منشوراً عاماً عن ديوان الخلافة يقدح في الخلفاء الذين بمصر في أنسابهم وعقائدهم، ووقع المنشور جماعة من كبار العلماء والأشراف منهم الشريف الرضيّ، وأخوه الشريف المرتضى، وابن الأزرق الموسوي، ومحمد بن محمد بن عمر بن أبي يَعْلَي وهؤلاء سادة علويون، والقاضي أبو محمد عبد الله بن الأكفانيّ، والقاضي أبو محمد أبو القاسم الجزري، والإمام أبو حامد الإسفرائينيّ، والفقيه أبو محمد الكُشفليّ، والفقيه أبو الحسين القُدوريّ الحنفيّ، والفقيه أبو علي بن حَمَكَان، وأبو القاسم بن المحسنّ التنوخيّ، والقاضي أبو عبد الله الصَيْمُريّ.
ومما جاء في المنشور أن الفاطمية: منسوبون إلى دَيْصَان بن سعيد الخُرّميّ، إخوان الكافرين، ونُطَف الشياطين، شهادةً يُتقرَّبُ بها إلى الله، ومعتَقَدُ ما أوجب الله تعالى على العلماء أن يبينوه للناس، شهدوا جميعاً أن الناجم بمصر وهو منصور بن نزار الملقب بالحاكم، حكم الله عليه بالبوار، والخزْي والنكال، ابن مَعَد بن إسماعيل بن عبد الرحمن بن سعيد، لا أسعده الله، وسيلة كفار وفُساق فُجار زنادقة، ولمذهب الثنوية والمَجُوسية معتقدون، قد عطلوا الحدود، وأباحوا الفروج، وسفكوا الدماء، وسبوا الأنبياء ولعنوا السلف، وادعوا الربوبية.
وهو ومن تقدم من سلفه الأرجاس الأنجاس، عليه وعليهم اللعنة، أدعياء خوارج لا نسب لهم في ولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأنتم لا تعلمون أن أحداً من الطالبيين توقف عن إطلاق القول في هؤلاء الخوارج أنهم أدعياء.
وبقي خطر الدولة الفاطمية المتربصة هاجساً عند القادر بالله لا يتساهل فيه أبداً، فقد نظم الشريف الرضي، محمد بن الحسين المتوفى عن 47 عاماً في سنة 406، قصيدة يهدد فيها بالرحيل إلى مصر والعيش في ظل الفاطميين، وقال فيها:
كم مُقامي على الهوان وعندي... مِقوَلٌ قاطع وأنفٌ حَميُّ
وإباء محلق بي عن الضيم... كما راغ طائرٌ وحشي
أي عذر له إلى المجد إن ذل غلام في غمده المشرفي
ألبَسُ الذل في ديار الأعادي... وبمصر الخليفةُ العلوي؟!
مَنْ أبوه أبي ومولاه مولاي إذا ضامَني البعيدُ القصيُّ
لف عِرْقي بعِرقه سيدا الناس جميعاً محمدٌ وعلي
إن خوفي في ذلك الربع أمنٌ... وأُوامي بذلك الوِرد رِيُّ
قد يذل العزيز ما لم يشمر... لانطلاق وقد يضام الأبي
كالذي يقبس الظلام وقد أقمر من خلفه الهلال المُضيُّ
ولما كتب أصحاب الأخبار بالأبيات إلى القادر، غاظه أمرها، واستدعى القاضي أبا بكر محمد بن الطيب، وأنفذه إلى والد الشريف الرضيِّ الشريف الطاهر أبي أحمد الموسوي، الحسين بن موسى المتوفى سنة 400 عن 97 عاماً، برسالة تقول: قد علمتَ موضعك منا ومنزلتك عندنا وما لا نزال من الاعتداد بك، والثقة بصدق الموالاة منك، وما تقدم لك في الدولة العباسية من خِدَم سابقة ومواقف محمودة، وليس يجوز أن تكون على خليقة نرضاها، ويكون ولدك على ما يضادها، وقد بلغنا أنه قال هذه الأبيات، فيا ليت شعرنا على أي مُقام ذلٍ أقام؟! وما الذي دعاه إلى هذا المقال؟! وهو ناظر في نقابة الأشراف وقائم على نيابة الحج، فيما هو أجلُّ الأعمال وأقصاها علواً في المنزلة، وعساه لو كان بمصر لكان كبعض الرعايا، وما رأينا - على بلوغ الامتعاض منا مبلغه - أن نخرج بهذا الولد عن شكواه إليك وإصلاحه على يديك.
فقال الشريف الطاهر: والله ما عرفتُ هذا! ولا أنا وأولادي إلا خدم الحضرة المقدسة المعترفون بالحق لها والنعمة منها! ثم استدعى الشريفُ ابنيه المرتضى والرضي، وعاتب الرضيَّ العتابَ المستوفي، فقال له: ما قلتُ هذه الأبيات ولا أعرفها. فقال له: إذا كنت تنكرها فاكتب خطك للخليفة بمثل ما كنتُ أنا كتبتُ به في أمر صاحب مصر، واذكره بما أذكره به من الادعاء في نسبه، فقال: لا أفعل، فقال له أبوه: كأنك تكذبني بالامتناع عن مثل قولي، قال: ما أكذبك، ولكني أخاف الديلم ومَنْ للرجل من الدعاة بهذه البلاد، فقال: ياللعجب تخاف من هو منك على بلاد بعيدة وتراقبه، وتُسخِطُ من أنت بمرأى منه ومسمع وهو قادر عليك وعلى أهلك! وتردد القول بينهما حتى غضب الأب من الابن، وآل الأمر إلى إنفاذ القاضي أبي بكر وأبي حامد الاسفرائيني، وأخذا اليمين على الرضي أنه لم يقل الشعر المنسوب إليه، ولا يعرفه.
وكان الشريف الرضي معروفاً باعتداده بنفسه وافتخاره بأصله، حتى إنه خاطب القادر بالله في إحدى قصائده، وهو يمدحه، فقال:
عطفاً أميرَ المؤمنين فإننا ... في دوحة العلياء لا نتفرقُ
ما بيننا يوم الفخار تفاوتٌ ... أبداً، كلانا في المعالي مُعرِق
إلا الخلافة ميزتك، فإنني ... أنا عاطل منها وأنت مطوَّق
وفي سنة 416 أرسل الخليفة الفاطمي في مصر الظاهرُ لإعزاز دين الله رسولاً إلى محمود بن سُبكتكين يدعوه إلى الولاء له وأرسل له خِلعة، فما كان من محمود بن سبكتكين إلا أن أرسلها إلى الخليفة القادر في بغداد، ومعها رسالة الظاهر وقد خرقها وبصق فيها، فجلس القادر بالله بعد أن جمع القضاة والشهود والفقهاء والأماثل، وأحضر الرسول فأدى رسالة محمود بن سبكتكين بأنه الخادم المخلص الذي يرى الطاعة فرضاً، ويبرأ من كل ما يخالف الدولة العباسية، ثم أخرجت الثياب والخلعة إلى باب النوبي، وحفرت حفرة وطرح فيها الحطب، ووضعت الثياب فوقه وحرقت بالنار، والعوام ينظرون، وجُمِع ما فيها من فضة فتُصِدقَ به على ضعفاء بني هاشم.
ومن مناقب محمود بن سبكتكين أن الحاكم بأمر الله أرسل مع رسوله بغلاً نفيساً، فأهدى السلطان محمود البغل إلى القاضي أبي منصور محمد ابن محمد الأزدي الشافعي شيخ هراة، وقال: كان هذا البغل يركبه رأس الملحدين، فليركبه رأس الموحدين.
وإلى هذه المنافسة مع الفاطميين أشار الشاعر أبو الحسن الشعباني، محمد بن محمد بن جمهور، في قصيدة مدح بها القادر:
يخافك مَنْ إسكندريةُ دارُه ... وأندلسُ القصوى ومن ضمَّه مصرُ
فما منهم من ليس منك بقلبه ... بلابل لا يخبو لجاحمها جمر
إضافة إلى الاضطرابات والفتن السياسية، كان زمن القادر مليئاً بالفتن بين السنة والشيعة في بغداد ومدن العراق، وهي فتن اختفى فيها أحياناً الطموح السياسي وراء المذهب الديني، ولكنها في بغداد كانت ذات طابع مذهبي صرف، ففي ذي الحجة من عام 397 تمادت الشيعة في نصب القباب والزينة وشعار الأعياد في يوم الغدير، وفي محرم عملوا عاشوراء باللطم والعويل وشعار الحزن، وأثار ذلك أهل السنة فعمد عوامهم وجهالهم كما يقول ابن الأثير في تاريخه: وأحدثوا في مقابلة يوم عيد الغدير، يوم الغار، وجعلوه بعد ثمانية أيام من يوم الغدير، وهو السادس والعشرون من ذي الحجة، وزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر، اختفيا حينئذ في الغار، وهذا جهل وغلط، فإن أيام الغار، إنما كانت بيقين، في شهر صفر، وفي أول ربيع الأول، وجعلوا بإزاء عاشوراء وبعده بثمانية أيام، يوم مصرع مصعب بن الزبير، وزاروا قبره يومئذ بمسكن، وبكوا عليه، ونظروه بالحسين، لكونه صبر وقاتل حتى قتل، ولأن أباه ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم، وحواريّه وفارس الإسلام، كما أن أبا الحسين، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وفارس الإسلام، ودامت السُّنّة على هذا الشِّعار القبيح مدّة عشر سنين.
وفي رجب من ذات السنة قصد بعض الهاشميين أبا عبد الله محمد بن النعمان بن المعلم شيخ الشيعة، وهو في مسجده، وتعرض به تعرضاً امتعض منه تلامذته، فثاروا واستنفروا أهل الكرخ، وصاروا إلى دار القاضي أبي محمد الأكفاني والشيخ أبي حامد الإسفراييني فسبوهما، وطلبوا الفقهاء ليوقعوا بهم، ونشأت فتنة عظيمة، وهتف الشيعة بالولاء للحاكم بأمر الله الفاطمي في مصر: يا حاكم يا منصور.
وأزعج هذا الهتاف القادر بالله فأنفذ فرساناً من حرسه لمعاونة السنة، وساعدهم الغلمان، فانكسر الشيعة وأحرق بعض أحيائهم، ثم اجتمع الرؤساء إلى الخليفة، فكلموه فعفى عنهم، وأخرج ابن المعلم عن بغداد، ووكل به، وضُرِبَ جماعة ممن قام في الفتنة وحُبِسَ آخرون، ومنع القُصَّاص من الجلوس، ثم سمح الخليفة لابن المعلم في العودة إلى بغداد وأذن للقصاص، بشرط أن لا يتحدثوا عن الفتن.
وفي سنة 408 بلغت الفتنة بين الشيعة والسنة في بغداد حداً وصل إلى أن قتل كل فريق من دخل أحياءه من الفريق الآخر، وعجز عن إيقافه وزير القادر بالله أبو الحسن الشيرازي، علي بن عبد الصمد، والذي كان له في هذا المنصب 19 عاماً، فجاء إلى دار الخليفة وقدم استقالته من العمل، وأشهد على نفسه بذلك في الموكب، فعهد القادر بحسم الفتنة إلى رئيس الشرطة أبي مقاتل، فأراد دخول الكرخ، فمنعه أهلها فأحرق بعضها فصارت تلولاً.
ثم أعاد القادر في سنة 409 الوزير المستقيل فأخذ بسياسة الشدة، وقتل الموسومين بالفتن من الشيعة والسنة، ونفى ابنَ المعلم فقيهَ الإمامية وجماعةً من الوعاظ وأهل السنة، ونسبهم إلى معاونة أهل الفتن، فقامت الهيبة وسكن البلد.
ومع هذه القلاقل اضطرب الأمن وزادت السرقات إلى حد أنه في سنة 410 صار اللصوص يكبسون دور الناس نهاراً وفي الليل بالمشاعل، وكانوا يدخلون على الرجل فيطالبونه بذخائره ويستخرجونها منه بالضرب كما يفعل المصادِرون، ولا يجد المستغيث مغيثاً.
وتكرر انعدام الأمن في سنة 416 عندما منع الجيش في بغداد جلال الدولة من الوصول إليها ونادوا بابن أخيه أبي كاليجار صاحب الأهواز سلطاناً، ولكنه كان مشغولاً بحرب مع عمه صاحب كرمان، فلم يستطع القدوم إلى بغداد، فصار الجنود الأتراك يصادرون الناس ويأخذون أموالهم، وأحرقت المنازل والدروب والأسواق، وطمع اللصوص فكانوا يدخلون على الرجل فيطالبونه بذخائره كما يفعل السلطان بمن يصادره، ووقعت الحرب سنة 417 بين العامّة والجند، فظفر الجند بهم، ونهبوا الكرخ وغيره، فلما رأى القوادّ وعقلاء الجند أن الملك أبا كاليجار مشغول عنهم، وأن البلاد قد خربت، وطمع فيهم المجاورون لهم من الأعراب والأكراد، ندموا على فعلهم، واعتذروا للخليفة القادر بالله من تصرفاتهم، وسألوه أن يرسل إلى جلال الدولة ليملكه بغداد ويجمع الكلمة، فأرسل وراءه وأتى إلى بغداد.
و قام القادر بالله بعدة محاولات لفرض المذهب السني في المناطق الخاضعة لنفوذه، ففي سنة 408 استتاب القادر بالله طائفة من المعتزلة والرافضة، وأخذ خطوطهم بالتوبة، وبعث إلى السلطان محمود بن سبكتكين، يأمره ببثّ السنة بخراسان، ففعل ذلك وبالغ، وقتل جماعة، ونفى خلقاً كثيراً من المعتزلة والرافضة والإسماعيلية والجهمية والمشبّهة، وأمر بلعنهم على المنبر.
وفي سنة 420 ألف القادر بالله كتاباً طويلاً في أصول الاعتقاد سمي بالاعتقاد القادري، وذكر فيه أخباراً من أخبار النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته، وما روي عنه في عدة أمور من الدين وشرائعه، وخرج من ذلك إلى الطعن على من يقول بخلق القرآن وتفسيقه، وتضمن الكتاب ذكر أبي بكر وعمر وفضائلهما، ثم فضائل الصحابة، واتبع في ذلك ترتيب مذهب أصحاب الحديث، وأورد في كتابه فضائل عمر بن عبد العزيز، ثم ختمه بالوعظ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان الكتاب يُقرأ كل جمعة في حلقة أصحاب الحديث بجامع المهدي ويحضر الناس سماعه.
ولما ألف الخليفة الكتاب جُمِعَ العلماء والأعيان ببغداد له، فقرئ عليهم، ثم أرسل الخليفة إلى جامع براثا، وهو مقر الشيعة، من أقام الخطبة على السنّة، فخطب وقصرّ عما كانوا يفعلونه في ذكر عليّ رضي الله عنه، فرموه بالآجُرِّ من كل ناحية، فنزل وحماه جماعة، حتى أسرع بالصلاة، فتألَّم القادر بالله، وغاظه ذلك، وكاتب السلطان جلال الدولة البويهي ووزيره ابن ماكولا، الحسن بن جعفر المتوفى سنة 422 عن 56 عاماً، يطالبه بمعاقبة الشيعة، وقال له في الرسالة: وإذا بلغ الأمير أطال الله بقاءه ما جرى في الجمعة الماضية في مسجد براثا، الذي يجمع الكفرة والزنادقة، ومن قد تبرّأ الله منه، فصار أشبه شيء بمسجد الضرار، وذلك أن خطيباً كان فيه، يقول مالا يخرج عن الزندقة، فإنه كان يقول، بعد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: وعلى أخيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، مكلم الجمجمة، ومحيي الأموات، البشريّ الإلهيّ، مكلِّم أهل الكهف.
وكان القادر بالله متقشفاً في معيشته بعيداً عن البذخ، ومن الطريف أن الطائع لله، وكان سجيناً لديه كما ذكرنا، كان يتذمر من التقشف ويعيبه على القادر بالله، فقد أرسل إليه يوماً القادر بالله عَدَسية، فقال: ما هذا ؟ فقالوا: عدس وسلق، فقال: أو قد أكل أبو العباس من هذا؟ قيل له: نعم؛ قال: قل له عني: لـمّا أردت أن تأكل عدسية لِـمَ اختفيت، فما كانت العدسية تعوزك، ولِـمَ تقلدتَ هذا الأمر؟ فأمر حينئذ القادر أن تفرد له جارية من طباخاته تطبخ له ما يلتمسه كل يوم؛ فأقام على هذا إلى أن توفي.
كان القادر بالله يعتمد على مجموعة من الكتاب وعلى رأسهم أبو الحسن علي بن عبد العزيز المعروف ابن حاجب النعمان، وهو كاتب بليغ أريب توفي سنة 423 عن 63 عاماً قضى منها أربعين سنة في خدمة الخلفاء وكتب كتاباً في أصول الخدمة وعمل الدواوين، وقد حدث أن أعفاه القادر في سنة 388 فلم يستطع أن يستغني عنه، فأعاده بعد حوالي شهرين.
كان القادر بالله على صلة بالصالحين في عصره يبرهم ويكرمهم، ولما توفي في سنة 419 المحدث محمد بن محمد بن إبراهيم بن مخلد أبو الحسن التاجر، وكان غنياً فافتقر، فلما مات لم يوجد له كفن، فأرسل له القادر بالله ما يكفن فيه.
وكان أبو بكر الدَينوري الزاهد، محمد بن علي نزيل بغداد، عابداً قانتاً، خشن العيش، منقبضاً عن النّاس، ولكنه كان كثير الدّخول على القادر بالله، وكان القادر بالله كذلك يتردد إلى أبي الحسن القزويني، علي بن عمر المتوفى سنة 442 عن 82 عاماً.
وكان الخليفة القادر بالله أبيض كث اللحية طويلها، يخضب شيبته، وكان من أهل الستر والصيانة وإدامة التهجد، وكثرة البر والصدقات، وكان حليماً، كريماً، خيّراً يحب الخير وأهله، ويأمر به، وينهى عن الشر ويبغض أهله.
وكان حسن الاعتقاد، تفقه على العلامة أبي بشر أحمد بن محمد الهروي الشافعي، المتوفى سنة 385 عن 57 عاماً، وعدّه الشيخ تقي الدين ابن الصلاح من الفقهاء الشافعية، وأورده في طبقاتهم.
وكان القادر بالله على صلة بالإمام أبي الحسن الماوَردي صاحب الكتاب المشهور في الأحكام السلطانية، علي بن محمد بن حبيب المتوفى سنة 450 عن 86 عاماً، قال ياقوت الحموي في معجم الأدباء: قرأت في مجموع لبعض أهل البصرة: أن القادر بالله طلب من أربعة من أئمة المسلمين في أيامه في المذاهب الأربعة، أن يصنف له كل واحد منهم مختصراً على مذهبه، فصنف له أقضى القضاة الماوردي الإقناع على مذهب الشافعي، وصنف له أبو الحسين القُدُوري مختصره المعروف على مذهب أبي حنيفة، وصنف له القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن محمد بن نصر المالكي مختصراً آخر، ولا أدري من صنف له على مذهب أحمد، وعُرِضت عليه، فخرج الخادم إلى أقضى القضاة الماوردي وقال له: يقول لك أمير المؤمنين: حفظ الله عليك دينك، كما حفظت علينا ديننا.
وبينما القادر يمشي ذات ليلة في أسواق بغداد إذ سمع شخصاً يقول لآخر: قد طالت دولة هذا الخليفة المشؤوم، وليس لأحد عنده نصيب، فأمر خادماً كان معه بالتوكل عليه، وأن يحضره بين يديه، فما شك الرجل أنه يبطش به، فسأله عن صنعته فقال: إني كنت من السُعاة - المخبرين- الذين يستعين بهم أرباب هذا الأمر على معرفة أحوال الناس، فمذ وَليَ أمير المؤمنين أقصانا، وأظهر الاستغناء عنا، فتعطلت معيشتنا وانكسر جاهنا، فقال له: أتعرف مَنْ في بغداد من السعاة مثلك؟ قال: نعم، فأحضر الخليفة القادر كاتباً، وكتب أسماءهم، وأمر بإحضارهم، ثم أجرى لكل واحد منهم راتباً معلوماً، ونفاهم إلى الثغور القاصية، ورتبهم هناك عيوناً على أعداء الدين، ثم التفت إلى من حوله وقال: اعلموا أن هؤلاء ركَّب الله فيهم شراً، وملأ صدورهم حقداً على العالم، ولا بد لهم من إفراغ ذلك الشر، فالأَوْلى أن يكون ذلك في أعداء الدين، ولا ننغص بهم

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين



التعليقات