فتح مكة ومظاهر عفو رسول الله وسماحته مع أعدائه

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا ورسولنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين، وبعد ..

فقد كان صلح الحديبية الذي عُقِد في السنة السادسة للهجرة بين المسلمين ومشركي قريش ينص في أحد بنوده على أن من شاء من القبائل العربية الساكنة حول الحرم أن يدخل في عقد محمد صلى الله عليه وسلم وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وأن القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين تعد جزءاً من ذلك الفريق تلتزم ببنوده، وأي عدوان تتعرض له أي من تلك القبائل يعد عدواناً على ذلك الفريق‏‏، وحسب هذا البند دخلت خُزَاعَة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخلت بنو بكر في عهد قريش، وصارت كل من القبيلتين في أمن من الأخرى.

ولكن بعد مضي نحو سبعة عشر أو ثمانية عشر شهرا من عقد المعاهدة وإرساء الهدنة بين الطرفين قام بنو بكر( حلفاء قريش ) بالاعتداء على خزاعة، وبدلا من أن تكفهم قريش عن هذا الاعتداء الخارق لبنود المعاهدة أعانتهم بالسلاح، بل قاتل معهم رجال من قريش مستغلين ظلمة الليل ..

فلما كثر القتل في بني خزاعة فزعوا إلى المسجد الحرام ليحتموا به ؛فالقتال فيه محرم، ولكن بنو بكر المعتدين لم يراعوا للحرم حرمته، وأخذ من في قلبه ورع وخشية يقول لزعيمهم نوفل بن معاوية الديلي :‏يا نوفل، إنا قد دخلنا الحرم، إلهك إلهك( محذرين له ) فقال كلمة عظيمة‏ ( لا إله اليوم يا بني بكر) محرضا إياهم على مواصلة القتال داخل الحرم( انظر سيرة ابن هشام : ج5 ص 42 وما بعدها  )  .

فلما اشتدت وطأة القتال على خزاعة خرج أحد زعمائها وهو عمرو بن سالم الخزاعي سرا مع بعض أتباعه إلى المدينة؛ ليشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعلته بنو بكر وقريش بأهله، فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما حدث لحلفائه بني خزاعة غضب غضبا شديدا لهذه الجريمة الشنعاء؛ ففضلا عما فيها من نقض للعهد الذي أعطته له قريش، فإن فيها اعتداء على حرم بيت الله سبحانه وتعالى الذي جعله لكل المخلوقات أمنا وسلاما؛ لذلك قال صلى الله عليه وسلم :"والذي نفسي بيده لأمنعنهم مما أمنع منه نفسي وأهل بيتي ".. ثم نظر إلى عمرو وقال  :"نصرت يا عمرو بن سالم" (المقريزي: إمتاع الأسماع 13/ 373) .

وليكون وفيا بعهده بعث إلى زعماء قريش ـ كما ذُكر عن ابن عمر ـ رجلا يسمى ضمرة  يذكرهم بالعهد الذي كان بينهم، ويخيرهم بين إحدى ثلاث: أن يدفعوا دية قتلى خزاعة، وبين أن يبرءوا من حلف بني بكر، أو ينبذ إليهم على سواء ( أي يكون العهد معهم منتهيا )  فردوا عليه قائلين: "ننبذ على سواء ". (تاريخ الإسلام للذهبي ج1 ص 308  ).

وبعد هذا الرد لم يكن أمامه صلى الله عليه وسلم بدا من غزوهم؛ نصرة لحلفائه بني خزاعة ووفاء للعهد بينهم ..

ولم يتمهل كثيرا، وإنما دخل من فوره على زوجته عائشة ـ رضي الله عنها ـ وأمرها أن تجهزه وتخفي ذلك، ثم خرج فأمر الناس بالتجهز للخروج إلى الغزو، دون أن يحدد لهم الجهة التي يريدها..

 ثم بعث أناسا إلى القبائل العربية حول المدينة ينادون:"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحضر رمضان في المدينة " فاجتمع له من المجاهدين عشرة آلاف، وقيل اثنا عشر ألف مقاتل.

وأحست قريش بعد ذلك بالندم على فعلتها وسوء ردها، واستقر رأي زعمائها على أن يرسلوا أبا سفيان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليتعرف منه على ما يريد فعله بعد علمه بالاعتداء على حلفائه، فأتاه في المدينة يسأله تجديد العهد ،فلم يجبه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم ير من قريش الجادة،فكما نقضوا عهدهم أول مرة سينقضوه ثانية إذا رءوا منه صلى الله عليه وسلم اللين، ورجع أبو سفيان دون أن يعلم بما عزم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم أنه سعى حثيثا لاستكشاف الأمور من بعض الصحابة بما فيهم ابنته أم حبيبة زوج رسول الله  .

وفي العاشر من شهر رمضان المبارك سنة 8 هـ تحرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بجيشه بعد أن استخـلف على المدينة أبا رُهْم الغفاري‏، وفي الطريق أعلم الناس أنه سائر إلى مكة، ثم قال: "اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها "( السيرة لابن حبان: ج1 ص 315)..

وكان قصده صلى الله عليه وسام من كتمان الخبر ألا يعطي فرصة لقريش فتستعد للقائه؛ فيحقق النصر الذي يريده بأدنى خسارة من الطرفين.

وحدث أن  كتب أحد المهاجرين وهو "حاطب بن أبي بَلْتَعَة" كتابا إلى بعض أهل مكة يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، ثم أعطاه امرأة، وجعل لها جُعْلاً على أن تبلغه لهم، فجعلته في قرون رأسها ثم خرجت به، فأتي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم الخبرُ من السماء بما صنع حاطب، فبعث علياً والمقداد والزبير بن العوام وأبا مَرْثَد الغَنَوِي ـ رضي الله عنهم ـ وقال‏ لهم:‏"‏انطلقوا حتى تأتوا رَوْضَةَ خَاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب إلى قريش‏" فانطلقوا مسرعين حتى وجدوا المرأة في المكان الذي حدده رسول الله، فاستنـزلوها وقالوا: ‏معك كتاب‏؟ ‏فقالت‏:‏ ما معي كتاب، ففتشوا رحلها فلم يجدوا شيئاً‏، ‏فقال لها علي رضي الله عنه: ‏أحلف بالله، ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كذبنا، والله لتخرجن الكتاب أو لنجردنك‏، فلما رأت الجد منه قالت‏:‏ أعرض عني ( لكي لا يرى  شيئا منها وهي تكشف رأسها ) فحلت قرون رأسها، فاستخرجت الكتاب منها، فدفعته إليهم، فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه‏:‏‏"‏من حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش‏" يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطباً، فقال‏:‏"‏ما هذا يا حاطب‏؟‏‏" فقال‏: ‏لا تعجل على يا رسول الله‏ ‏، والله إني لمؤمن بالله ورسوله ،وما ارتددت ولا بدلت ،ولكني كنت امرأ مُلْصَقـًا في قريش ؛لست من أنفسهم ،ولي فيهم أهل وعشيرة وولد ،وليس لي فيهم قرابة يحمونهم ،وكان من معك له قرابات يحمونهم، فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يداً يحمون بها قرابتي‏".‏

وقد ظن هذا الرجل أن لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بقريش سيكون مجرد مواجهة تحصل بين الطرفين ويعود كل فريق إلى بلاده، فطمع في كسب ود قريش ليرفقوا بأهله في جوارهم؛ ولهذا عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسامحه، وعندما هم بعض الصحابة أن يعاقبه بتهمة الخيانة رفض صلى الله عليه وسلم‏ رأيهم وقال:‏‏"‏إنه قد شهد بدراً ،وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال:‏اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم‏ " ..

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن ممن ينسى للناس بلاءهم وفضلهم، ولم يكن ممن يعاقب أتباعه على كل عثرة يقعون فيها، وهكذا ينبغي أن يكون كل حاكم ومسئول مسلم يطمع في الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في التعامل مع رعيته، يقيل عثراتهم ويتذكر فضائلهم، ولا يسمح لأحد من مقربيه بالنيل منهم .

وقد اكتفى صلى الله عليه وسلم بما وجهه الله عز وجل  من عتاب لهذا الرجل في قوله تعالى "  يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ..." (سورة " الممتحنة " : آية 1) .

ويبدو أن خبر زحفه صلى الله عليه وسلم قد سبقه إلى مكة قبل أن يصلها، ولكن بعد فوات الأوان،فلم يكن أمام قريش فرصة لتستجمع قواها، وتعد خطة للدفاع، فبدأ يخرج إليه من كان يكتم إيمانه أو من كان مترددا ثم بدا له الحق..

وكان ممن خرج إليه عمه العباس بن عبد المطلب حيث لقيه بمكان يسمى " الجُحْفَة " هو وأهله، ثم جاءه ابن عمه أبو سفيان بن الحارث، وابن عمته عبد الله بن أبي أمية، وكان قد نزل بمكان يسمى "الأبواء " فلما استأذنا ليدخلا عليه أعرض عنهما أولا ؛لما كان يلقاه منهما من شدة الأذى والهجاء قبل الهجرة، فقالت له زوجته أم سلمة‏ رضي الله عنها :‏ يا رسول الله!ابن عمّك وصهرُك، فقال: " لا حاجة لي يهما ،أمّا ابن عمّي فهتك عرضي (يقصد هجاؤه بشعره ) وأمّا ابن عمّتي وصِهري فهو الذي قال بمكة ما قال  )يعني قوله له: واللّه لا آمنت بك حتى تتخذ سلما إلى السماء فتعرج فيه، وأنا أنظر ثم تأتي بصك وأربعة من الملائكة يشهدون أن اللّه أرسلك).( سيرة ابن هشام 2/ 400) ..

فقال أبو سفيان بن الحارث: والله ليأذنن لي أو لآخذنّ بيد ولدي هذا, ثم لنضربنّ في الأرض حتى نموت جوعاً وعطشاً، فرق لهما حينئذ، وعفا عنهما وسامحهما على كل ما بدر منهما من إيذاء خلال فترة الدعوة التي قاربت عشرين عاما؛ ليكون مثالا لكل مسلم في العفو عند المقدرة، ثم أذن لهما بالدخول عليه وأعلنا إسلامهما ..

وهذا الموقف النبيل  منه صلى الله عليه وسلم جعل قلبيهما يتحولان للضد، فصارا من خيرة الصحابة بعد ذلك، حتى قيل عن أبي سفيان بن الحارث أنه ما رفع وجهه في وجه رسول الله بعد إسلامه ؛حياء مما كان يفعله به من قبل ،وشهد له صلى الله عليه وسلم بالجنَّة،وقال:"أرجو أَن يكونَ خَلفاً من حمزة" ولما حضرته الوفاةُ، قال: لا تبكوا علىَّ، فواللهِ ما نطقتُ بخطيئة منذ أسلمتُ (ابن سيد الناس : عيون الأثر : ج2 ص 223).

وواصل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيره وهو صائم، والناس صيام،حتى إذا بلغ مكانا يسمى "الكُدَيْد " قرب مكة أفطر، وأفطر الناس معه ؛أخذا برخصة الفطر للمسافر أو المجاهد، ثم واصل سيره حتى نزل بمكان يسمى "مر الظهران " وقد  نزله عشاء، وهنالك أمر أفراد الجيش بأن  يوقد كل مقاتل النيران، فأوقدت عشرة آلاف نار في الساحة التي نزلوها، وذلك كي يبثوا الرعب في قلوب أهل مكة فلا يجرؤن على التصدي لهم .

وفي تلك الأثناء قد جاءه أبو سفيان بن حرب ـ سيد الوادي كما كان يقال ـ  وبديل بن ورقاء، وحكيم بن حزام؛ ليبايعوه على الإسلام بعد عداوة دامت عشرين سنة، فاستقبلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل ترحيب، وقد وسُر بمجيئهم ، ونسي ما كان بينه وبينهم، ولماذا لا ينسى؟! إنه ما عاداهم إلا من أجل إصرارهم على التصدي للإسلام ومناصرة البغي والاستبداد، أما وقد أسلموا فليمنحهم الحب والعطف والعفو والصفح الذي أودعه الله في قلبه.

وفي صباح اليوم التالي قسم صلى الله عليه وسلم جيشه إلى أربع فرق، فرقة جعل إمارتها تحت قيادة الزبير بن العوّام، وأمرها أن تدخل مكة من جهة المشرق، فرقة تحت قيادة أبي عبيدة بن الجراح، وأمرها أن تدخل من جهة الشمال، وفرقة تحت قيادة سعد بن عبادة، وأمرها أن تدخل من جهة الغرب، وفرقة تحت قيادة خالد بن الوليد, وأمرها أن تدخل من جهة الجنوب، وحدد لهم مكانا يلتقون فيه داخل مكة .

وقصد صلى الله عليه وسلم من ذلك ـ والله أعلم ـ أمرين :

 الأول: أن يقطع على قريش الأمل في التجمع لصده أو منعه من دخول مكة.

والثاني: هو إتاحة الفرصة لجنوده بالدخول دون تزاحم، وبذلك يتحاشى وقوع أي ضرر أ و إفساد قد ينجم عن تحرك الجيش الكثير العدد داخل شوارع مكة .

 كما أن تقسيم الجيش إلى فرق يسهل مهمة السيطرة عليها .

ثم وجه أمره لسائر الجنود بألا يريقوا شيئاً من الدماء، وألا يقاتلوا إلا من قاتلهم، أو من ارتكب جرائم ضد المسلمين تستوجب عقوبة القتل ( وهؤلاء قد سماهم بالاسم، ثم عاد فعفا عنهم ألا أربعة نفر ) .

وتحرك الجيش رافعا صوته بالتكبير والتهليل، تكبير الله عز وجل الذي رد نبيه صلى الله عليه وسلم إلى مكة بجيش عدد أفراده اثنا عشر ألفا، بعد أن أُخرج منها لا يرافقه إلا أبو بكر الصديق، وصدق الله وعده حيث قال له:" إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد "( القصص : 85  ) ..

وصار دخوله آية لكل مستضعف من أهل الحق على أن الله جاعل لنصرته معادا هو آت لا محالة، وإن بدا أمامه أن الكفر أو الشر لا سبيل لمواجهته، وإن ظهر أمامه أن الشرك أو الشر قوة لا تقهر، آية على أن المستضعف اليوم قد يمكن له في الغد .

وفي نشوة النصر تذكر بعض المسلمين ماضي زعماء قريش وعنادهم لرسول الله  صلى الله عليه وسلم، وتآمرهم على قتله، واضطهادهم للمسلمين، فانتظروا المصير المؤلم الذي قد يقع بهم، فقال سعد بن عبادة ـ رضي الله عنه ـ  وكان يحمل راية الأنصار: اليوم يوم الملحمة، اليوم تُسْتَحَلُّ الحُرْمَة، اليـوم أذل الله قـريشاً. (السنن الكبرى للبيهقي 9/ 203).

وصادف أن سمعه أبو سفيان فأسرع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ‏يا رسول الله أمرت بقتل قومك؟!! فإن سعدا زعم ومن معه حين مر بنا أنه قاتلنا، أنشدك الله في قومك !فأنت أبر الناس وأرحمهم وأوصلهم (ابن كثير: البداية والنهاية ج4 ص 290).

وأبو سفيان رغم أنه أسلم منذ قليل إلا أنه لم ينس قومه الذين جعلوه سيدا عليهم من قبل، لم ينس أن يسعى لحقن دمائهم وإن كانوا كافرين، ولم يكن أمثال القادة الذين يحتمون بشعوبهم فإذا دارت عليهم الدائرة طلبوا الأمان لأنفسهم وضحوا بجميع من تحتهم، ولم يكن رسول الله بأقل من أبي سفيان في حرصه على حقن دماء القرشيين أعداء الأمس، فقال صلى الله عليه وسلم لأبي سفيان:‏ "‏بل اليوم يوم تُعَظَّم فيه الكعبة، اليوم يوم أعز الله فيه قريشاً‏" ‏وأرسل من توه إلى سعد بن عبادة  ـ رضي الله عنه ـ فأخذ منه راية الأنصار، ودفعها إلى ابنه قيس بن سعد، وجعله الأمير خلفا له، ولم يشأ صلى الله عليه وسلم أن يجعلها في يد أحد غير ابنه فيحز ذلك في نفسه، وتلك أبلغ الحكمة في تصرف القائد في الأمور الحساسة الدقيقة .

وبعد ذلك أرسل صلى الله عليه وسلم أبا سفيان وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء  ـ رضي الله عنهم ـ  ليدعوا أهل مكة إلى الإسلام، ويطمئنوهم على أنه لن ينالهم من رسول الله مكروه إن هم تحاشوا الصدام معه، وخلوا بينه وبين دخول مكة, وأوصاهم أن يعلنوا حالة منع التجول لحظة دخول الجيش، حيث طلب منهم أن ينادوا في الناس: " أن من دخل دار أبي سفيان فهو آمن؛لأنها كانت بأعلى مكة، فيسهل أن يدخل بها أهل البوادي أو من خرجوا للرعي بالجبال، ويصعب عليهم العودة إلى مساكنهم، ومن دخل دار حكيم فهو آمن، وكانت بأسفل مكة، يدخل إليها القريبون منها، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن، ومن أغلق على نفسه داره فهو آمن (ابن كثير : البداية والنهاية (4/ 289).

واستجاب أهل مكة لدعوة أبي سفيان وحكيم وبديل، فخلوا الطرق لرسول الله، ولم يتصد لجيوشه الأربع سوى مجموعة من الأوباش، جمعهم صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل مع بني بكر، تعرضوا لخالد بن الوليد عند دخوله من أسفل مكة، حتى إذا اشتد عليهم القتال فروا من أمامه، وتفرقوا إلى ديارهم، فلما وصل الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال " يا خالد لمَ قاتلت وقد نهيتك عن القتال"؟ قال:هم بدءونا بالقتال، ووضعوا فينا السلاح، وأشعرونا بالنبل، وقد كففت يدي ما استطعت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قضاء الله خير"  (الكلاعي:الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والثلاثة الخلفاء 1/ 508)..

ونجحت خطة رسول الله المحكمة، إذ دخل مكة فاتحا بأقل خسارة، فلم يُقتل من المسلمين سوى رجلين ضلا الطرق وتاهوا عن جيش خالد، وأما المشركون فكان عدد من قتل منهم أمام جيش خالد بضعة وعشرين رجلا، وكانوا قد أصروا على المواجهة.

وكان دخوله صلى الله عليه وسلم لعشر بقين من رمضان (يناير سنة 630 م) دخولا يتلاءم مع عظمته وسمو أخلاقه، حيث علاه التواضع حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، وأحنى رأسه على دابته ؛ حتى إن شعر لحيته ليكاد يمس عنق الدابة،وأخذ يردد "اللّهم إن العيش عيش الآخرة" (محمد بن يوسف الصالحي: سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد 5/ 226) وعلي بن إبراهيم بن أحمد الحلبي: إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون3/ 122).

ونظر إليه في هذا اليوم رجل  ـ ولم يكن يعرفه من قبل  ـ فتخيل أنه كسائر الملوك، فأخذته الرعدة فقال له رسول الله:"هون عليك،فإنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد بمكة" وقال:" إنما أنا عبد( أي إنسان مثل سائر الناس ) آكل كما يأكل العبد، واجلس كما يجلس العبد".

ولم يجلس رسول الله بعد دخول مكة لاستقبال التهاني، ولم ينصب السرادق،  ويقيم الحفلات الساهرة، وإنما اتجه فور دخوله إلى المسجد الحرام، فطاف بالكعبة شاكرا الله على أن أتم عليه النعمة، وأخذ ينظر إلى الأصنام المنصوبة حولها ويقول: "جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً"( سورة " الإسراء " :الآية  81  ) .

وبعد أن فرغ صلى الله عليه وسلم من طوافه أتى الصفا فعلا عليه حتى نظر إلى البيت،ورفع يديه،وجعل يحمد الله ويدعو بما شاء أن يدعو،ثم دعا بعثمان  بن طلحة الذي كان يحمل مفاتيح الكعبة فأخذها منه، وأمر بالكعبة  ففتحت فدخلها، وأزال منها آثار الوثنية التي صنعها بها المشركون، وصلي بها ركعتين ‏‏ ثم دار فيها،وكبر في نواحيها ووحد الله، ثم خرج ووقف على بابها وخطب الناس فقال‏:‏

"‏لا إله إلا الله وحده لا شريك له ،صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده،....يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب ثم تلا هذه الآية‏:‏ ‏"يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير‏" (السهيلي : الروض الأنف 7/ 231)..

فإذا كانت قريش كانت ترى في الجاهلية أنها فوق العرب بمجاورتها للبيت الحرام، وإذا كان بعض الناس يرى نفسه بما أوتيه من مال أعلى من منازل باقي الناس، فإن الإسلام جعل الناس على اختلاف ألوانهم ولغاتهم وجنسياتهم وحالاتهم المادية سواسية؛ لأنهم جميعا يرجعون في النسب إلى أبٍ واحد، والله لم يفرق بينهم في أسلوب المعاش إلا ليتعاونوا ويتبادلوا المنافع، وأما في الآخرة فالمقياس الوحيد لمنازل الناس هو التقوى .

واستطاع صلى الله عليه وسلم بوحي الله أن يزيل الفوارق بين الناس على اختلاف طبقاتهم، وصار أبو سفيان سيد الوادي وبلال بن رباح العبد الحبشي سواء ،بل صار بلال بسبقه إلى الإسلام مقدما على أبي سفيان وغيره. 

ثم استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن استقر به الأمر بمكة مشركي أهلها  الذين اصطفوا حوله، وقال لهم :"يا معشر قريش !ويا أهل مكة !ما ترون أني فاعل بكم؟ " قالوا: خيراً،أخ كريم،وابن أخ كريم. فقال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"( تاريخ الطبري : 3/ 61)..

هذا هو الإجراء الذي اتخذه النبي العفوُّ الصفحُ السمحُ  تجاه أناس استعملوا في صده عن سبيل الله كل ما أوتوه من قوة،إنه إجراء لا يتخذه إلا العظماء الذين لا تستفزهم الأحداث، ولا يضمرون مثقال ذرة من غيظ لأحد .

وفي اليوم الثاني من دخوله مكة سمع أن خزاعة عدت على رجل مشرك من بني بكر ( كان قد قتل منهم رجلا عظيما في الجاهلية، قتله غيلة وهو نائم ) فغضب غضبا شديدا، وقال لخزاعة:"لقد قتلتم رجلا لأدينه " ودفع ديته مائة من الإبل، ثم قال صلى الله عليه وسلم محذرا:" فمن قُتل بعد مقامي هذا فأهله  بخيار الأمرين،إن شاءوا قدم قاتله وإن شاءوا فعقله " وقال : " إن أعدى الناس على الله من قتل في الحرم،أو قتل غير قاتله،أو قتل بذحول الجاهلية (ابن كثير : السيرة ج3 ص 57).

وبعد فراغه صلى الله عليه وسلم من حديثه قال:"أين عثمان بن طلحة" ؟فدُعي له فقال:"هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء" ثم ناداه بعد ذلك، وقال له: ألم يكن الذي قلت لك؟ وذكر أنه طلب منه قبل الهجرة أن يدخله الكعبة فرفض، فقال له صلى الله عليه وسلم: لعلك سترى هذا المفتاح في يدي أضعه حيث شئت، فقال عثمان: بلى. أشهد أنك رسول الله (ابن كثير:البداية والنهاية :ج4 ص 301).

وفي رواية أخرى أنه قال:«خذوها خالدة مخلّدة،إنّي لم أدفعها إليكم، ولكن الله- تعالى- دفعها إليكم، ولا ينزعها منكم إلا ظالم».(محمد بن يوسف الصالحي :سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد 5/ 244)..

ثم جاءه أهل مكة ليعلنوا إسلامهم، صغارا وكبارا، رجالا ونساء، فجلس لهم على الصفا، وعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يجلس أسفل من مجلسه، يأخذ على الناس، وبايعوه على السمع والطاعة للّه ولرسوله فيما استطاعوا، وجاء بينهم أبو قحافة (أبو أبي بكر الصديق )  وكان شيخا كبيرا، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " هلا تركتم الشيخ حتى جئت إليه أنا في بيته "ثم أجلسه بين يديه ومسح صدره؛احتراما لسنه؛ فتقدير كبار السن واحترامهم والاهتمام بهم ورعايتهم من أسمى تعاليم الإسلام؛ وذلك لأنهم أناس أفنوا حياتهم في تعمير الأرض وتربية الأولاد وخدمة المجتمع، فأقل شيء أن يعاملوا بالحسنى؛ ليشعروا أن كبر سنهم ووهن عظمهم ليس معناه أن المجتمع قد استغنى عنهم أو أنه سينساهم.

وقد نفى صلى الله عليه وسلم صفة الإيمان الكامل عمن لا يوقر كبير السن فقال:" ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا". وقال : " ليس منا من لم يرحم صغيرنا،ويعرف شرف كبيرنا "وقال: "ليس منا من لم يجل كبيرنا،ويرحم صغيرنا،ويعرف لعالمنا حقه". بل أمر صلى الله عليه وسلم بحسن معاملة كبار السن حتى في ساحات القتال،فكان إذا أرسل غزوة أو سرية قال لمن فيها:"لا تقتلوا شيخا فانيا،ولا طفلا صغيرا،ولا امرأة،ولا تغلوا".

ولما فرغ صلى الله عليه وسلم من بيعة من أسلم من رجال مكة اجتمعت عليه النساء ليبايعوه،وجاء نسوة من نساء قريش فيهن هند بنت عتبة ( زوجة أبي سفيان ) منتقبة متنكرة لكي لا يعرفها أحد؛لأن رسول الله قد أمر بقتلها عند الفتح ؛لما فعلته بجثمان حمزة ـ رضي الله عنه ـ  يوم أحد.

فلما دنون منه يبايعنه قال  صلى اللّه عليه وسلم: " بايعنني على أن لا تشركن باللّه شيئا ولا تسرقن " فقاطعته هند قائلة "واللّه إن كنت لأصيب من مال أبي سفيان الهنة والهنة، وما أدري أكان ذلك حلالا أم حرام، فقال أبو سفيان ـ وكان شاهداً لما تقول ـ:أما ما أصبت فيما مضى فأنت منه في حل - عفا الله عنك- فقال رسول اللّه:" وإنك لهند بنت عتبة " ؟! فقالت:أنا هند بنت عتبة ،فاعف عما سلف عفا اللّه عنك! ..فما أن قال صلى الله عله وسلم عفوت عنك حتى قالت:" يا رسول الله،ما كان مما على ظهر الأرض أحد أ أحب إليّ أن يذلوا من أهلك، ثم ما أصبح اليوم على ظهر الأرض أحد أحب إليّ أن يعزوا من أهل خبائك " وما قالت ذلك إلا لما رأته من عظمة أخلاقه .

إن هند لم تنس ماضيها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعرف جيدا حكم جرائمها في قوانين البشر وأعرافها؛ ولذلك تغير قلبها في الحال لما رأت من سمو عفوه وصفحه صلى الله عليه وسلم الذي لا يُحد .

ولا عجب بعد ذلك أن تسخر ما تبقى من حياتها في نصرة رسالة صاحب هذا العفو والصفح، فغدت بعدها تخرج في المعارك الإسلامية ،وتحض المجاهدين على القتال،وفعلت ما لم يفعله كثير ممن سبقنها في الإسلام .

ثم أكمل  صلى الله عليه أخذ البيعة من هؤلاء النسوة،فقال:ولا تزنين ،فقالت هند متعجبة:يا رسول اللّه هل تزني الحرة ؟فالمرأة الشريفة ذات الأصل العريق لا يمكن أن تقدم على الزنا وإن كانت كافرة،ذلك لأنها قبل أن تقدم تلك الفعلة الشنعاء تفكر كثيرا في سمعة أهلها،وما يلحقهم من عار بسبب ذلك،كما أن الناس ذوي الحسب الرفيع، دائما يحرصون على تربية بناتهم على بغض خلق التبذل والوقع في الفاحشة وإن كانوا غير مسلمين .

ثم قال صلى الله عليه وسلم:"ولا تقتلن أولادكن،ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن ،ولا تعصينني في معروف"فلما أقررن بما قال لهن استغفر لهن،ولم يصافحهن كما كان يفعل مع الرجال عند البيعة،لأنه صلى الله عليه وسلم  كان لا يصافح النساء،ولا يمس امرأة ولا تمسه امرأة إلا أزواجه وقريباته ممن يحرم عليه الزواج بهن.(وقصة تلك البيعة مفصلة في السيرة النبوية لابن كثير 3/ 603).

وبعد ذلك أمر مناديا ينادي بمكة من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنما إلا كسره،فكسرت الأصنام التي كانت في بيوتهم جميعها،والأصنام التي كانت حول الكعبة،كما  بعث رسول اللّه سرايا لكسر الأصنام المنتشرة حول مكة,وطهرت بذلك مكة من الأوثان والأصنام، وكل ما يعبد من دون الله تعالى، وصارت العاصمة المقدسة الأولى عند المسلمين ..

ووجود الأصنام داخل الكعبة وحولها من أعظم المنكرات التي يجب تغييرها، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم تركها حتى حانت الفرصة المناسبة، فلعنا نتعلم من ذلك أن تغيير المنكر ـ ونحن مأمورون به ـ يحتاج لتأن وتمهل؛ كي لا يجلب ضررا أشد منه ، وليس ما حصل لأمتنا نتيجة إقبال بعض المتحمسين لهذا الأمر عنا ببعيد؛ إذ جلب لأمتنا المشاكل التي لا تجد إلى الخلاص منها سبيلا .

وأما الذين أمر صلى الله عليه وسلم بقتلهم قبل الفتح فمن أُدرك منهم فقد قتل ( ولم يتجاوزا أربعة نفر، ومن اختفى منهم وأرسل يسأله العفو فقد عفا عنه،فما استشفع في أحد منهم قبل الوصول إليه إلا وعفا عنه،ومن جاءه مسلما قبل أن يعثر عليه عفا عنه أيضا، مع إن جرائمهم في حقه كانت من الفظاعة بحيث لا يمكن تناسيها،ولكنه رسول الله ونبي الإسلام الذي جاء ليعلم البشرية في طور نضجها كيف تعفو وتصفح، ولننظر إلى مواقفه مع بعض هؤلاء .

ـ هذا صفوان بن أمية كان من أشد الناس عداوة وأذية له والمسلمين، ودبّر أكثر من مؤامرة لاغتياله صلى الله عليه وسلم، فلما كان يوم الفتح اختفى، ثم خرج فارا إلي ساحل البحر الأحمر؛ ظنا منه أن ذلك أفضل من الوقوع في أيدي رسول الله، فذهب ابن عمه عمير بن وهب الجمحي إلى رسول الله، وقال: يا نبي اللّه إن صفوان سيد قومه، وقد هرب ليقذف نفسه في البحر،فأمنه فإنك أمنت الأحمر والأسود.

فقال له صلى الله عليه وسلم:"أدرك ابن عمك فهو آمن، فقال له: أعطني آية يعرف بها أمانك، فأعطاه صلى اللّه عليه وسلم عمامته التي دخل بها مكة، فلحقه بجدة وهو يبحث عن سفينة يركبها، فقال له صفوان:اغرب عني لا تكلمني، فقال: يا صفوان فداك أبي وأمي، جئتك من عند أفضل الناس، وأبر الناس، وأحلم الناس،وخير الناس، وهو ابن عمك عزه عزك وشرفه شرفك وملكه ملكك، قال:إني أخافه على نفسي، فقال عمير :هو أحلم من ذلك وأكرم، وأراه العمامة التي جاء بها، فرجع معه حتى وقف على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقال:إن هذا يزعم أنك أمنتني، فقال: صدق ..( الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والثلاثة الخلفاء 1/ 508)..

ولم يكتف صلى الله عليه وسلم بتأمينه والعفو عنه، وإنما ظل يترفق ويتودد به حتى يسل ما في قلبه ،فقد أعطاه بعد غزوة حنين ثلاثمائة من الإبل وأموالا أخرى ،وكان لذلك أبلغ الأثر في قلبه،حتى قال:إن الملوك لا تطيب نفوسها بمثل هذا، ما طابت نفس أحد قط بمثل هذا إلا نبي، أشهد ألا إله إلا اللّه وأشهد أن محمداً رسول اللّه، فأسلم وحسن إسلامه.

ـ وهذا عكرمة بن أبي جهل قد ورث العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيه، وظل في عناده حتى آخر ساعة قبيل فتح مكة، حيث كان ـ كما ذكرت من قبل ـ ممن جمع بواقي المشركين ليتصدى بهم لخالد بن الوليد عند فتح مكة، فلما دخل رسول الله مكة فر إلى اليمن، فجاءت زوجته بعد إسلامها إليه صلى الله عليه وسلم، وطلبت منه أن يعفو عنه، ويؤمنه فاستجاب لها، فَخرجت تبحث عنه حتى لحقت بهَ، وسألته أن يعود معها فرفض، فجعلت تلح عليه وتقول: ابن عم جئتك من عند أوصل الناس وأبر الناس وخير الناس،لا تهلك نفسك،فَقال: أخشاه على نفسي، فقالت:إني قد استأمنته لك، فقال: أنت فعلت؟قالت: نعم أنا كلمته فأمنك، فقال: وكيف يؤمنني وقد صنعنا به أنا وأبي ما صنعناه؟ فقالت:بلى .إنه خير الناس..

فرجع معها ولما دنا من مكة، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لأصحابه: يأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمنا مهاجرا فلا تسبوا أباه، فإن سب الميت يؤذي الحيّ ولا يبلغ الميت.. ( المقريزي:إمتاع الأسماع 14/ 5).

وفي مكة اتجهت به زوجه إلى حيث يقيم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي منتقبة، فاستأذنت عليه ودخلت فأخبرته بقدوم عكرمة فاستبشر صلى الله عليه وسلم، ووثب قائما على قدميه فرحا بقدومه،وقال لها :أدخليه فدخل فلما رآه قال: مرحبا بالراكب المهاجر، ثم جلس النبي صلى الله عليه وسلم وجاء عكرمة حتى وقف بحذائه، فقال: يا محمد إنّ هذه أخبرتني أنك أمنتني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"صدقت فإنك آمن" .

ولم ينتظر عكرمة بعد تلك الحفاوة أن يعرض عليه رسول الله الإسلام، وإنما أسرع قائلا: أشهد ألا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأنك عبد الله ورسوله، ثم طأطأ رأسه من الحياء، وقال:أنت أبرّ الناس وأوفى الناس ..

وكما فعل مع سلفه صفوان قال له:"يا عكرمة ما تسألني شيئا أقدر عليه إلا أعطيتكه "فترك عكرمة الدنيا التي طالما عاند من أجلها، وجعل همه طلب الآخرة فقال: استغفر لي كل عداوة عاديتكها أو مركب وضعت فيه أريد به إظهار الشرك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اللهم اغفر لعكرمة كل عداوة عادانيها أو منطق تكلم به أو مركب وضع فيه يريد أن يصدّ عن سبيلك "..

فقال: يا رسول الله مرني بخير ما تعلم فأعمله قال: قل أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله وجاهد في سبيله" . 

ولم يكن عكرمة بعد تلك المعاملة النبيلة من رسول الله يحتاج لأكثر من تلك النصيحة الموجزة ليتحول إلى طود شامخ في نصرة الإسلام؛ حتى قال:"أما والله ما تركت نفقة كنت أنفقها في صدِّ عن سبيل الله إلا أنفقت ضعفيها في سبيل الله، ولا قتالا كنت أقاتل في صدِّ عن سبيل الله إلا أنكيت ضعفه في سبيل الله" ووفي بما قال حتى قتل شهيدا يوم اليرموك بأجنادين في خلافة أبى بكر الصدّيق ـ رضي الله عنه ـ وقد وجدوا فيه بضعا وسبعين إصابة ما بين ضربة وطعنة ورمية.(حسين بن محمد بن الحسن الدِّيار بَكْري:  تاريخ الخميس في أحوال أنفس النفيس (2/ 92)..

وهذا سهيل بن عمرو أحد صناديد قريش الذي أصر على ألا تكتب عبارة رسول الله في صلح الحديبية، وأن يكتب فقط " محمد بن عبد الله " يقول: لما دخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مكة وظهر انقحمت بيتي (أي رميت بنفسي فيه ) وأغلقت عليّ بابي، وأرسلت إلى ابني عبد اللَّه بن سهيل أن اطلب لي جوارا من محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، فإنّي لا آمن أن أقتل، وجعلت أتذكر أثري عند محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه، فليس أحد أسوأ أثرا مني، وإني لقيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم الحديبيّة بما لم يلقه أحد،وكنت الّذي كاتبته مع حضوري بدرا وأحدا، وكلما تحركت قريش كنت فيها، فذهب عبد اللَّه بن سهيل إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا رسول اللَّه أبي تؤمنه؟ فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم :نعم .هو آمن بأمان اللَّه- تعالى- فليظهر...فخرج عبد اللَّه إلى أبيه فخبره بمقالة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال سهيل :كان واللَّه برا صغيرا وكبيرا..( إمتاع الأسماع 13/ 386)..

وبقي فترة من الزمن على شركه دون أن يتعرض له أحد ثم أعلن إسلامه ،وصار بعدها من أكثر الصحابة اجتهادا في العبادة؛ حتى قيل :"لم يكن أحد من كبراء قريش الذين تأخر إسلامهم فأسلموا يوم فتح مكة أكثر صلاة ولا صوما ولا صدقة ولا أقبل على ما يعينه من أمر الآخرة من سهيل بن عمرو، حتى إن كان لقد شحب وتغيّر لونه، وكان كثير البكاء، رقيقا عند قراءة القرآن، لقد رئي يختلف إلى معاذ بن جبل يقرئه القرآن وهو يبكي حتى خرج معاذ من مكة، فقال له ضرار بن الخطاب: يا أبا يزيد تختلف إلى هذا الخزرجي يقرئك القرآن؟ ألا يكون اختلافك إلى رجل من قومك من قريش؟ فقال: يا ضرار هذا الذي صنع بنا ما صنع حتى سبقنا كلّ السبق، اختلف إليه فقد وضع الإسلام أمر الجاهلية ،ورفع الله أقواما بالإسلام كانوا في الجاهلية لا يذكرون، فليتنا كنا مع أولئك فتقدمنا". (تاريخ دمشق لابن عساكر 73/ 56).

ولم يكن إسلامه لنفسه فقط وإنما كان ـ كأسلافه ـ خير وبركة على الإسلام، وقد ظهر ذلك في كثير من مواقفه، من ذلك ما رواه ابن عساكر عن أبي عمرو بن عدي بن الحمراء الخزاعي أنه قال: "نظرت إلى سهيل بن عمرو يوم جاء نعي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى مكة،وقد تقلّد السيف ثم قام خطيبا بخطبة أبي بكر التي خطب بالمدينة، كأنه كان يسمعها فقال:أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت، وقد نعى الله نبيكم إليكم، وهو بين أظهركم،ونعاكم إلى أنفسكم، فهو الموت حتى لا يبقى أحد، ألم تعلموا أن الله قال:"وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ"" كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ""كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ"فاتقوا الله، واعتصموا بذمتكم، وتوكلوا على ربكم، فإن دين الله قائم، وكلمة الله تامة، وإنّ الله ناصر من نصره،ومعزّ دينه،وقد جمعكم الله على خيركم. (تاريخ دمشق لابن عساكر 73/ 56 وما بعدها ).

ـ وهذا حويطب بن عبد العزى ظل يتنقل بعد الفتح من دار إلى أخرى؛ ليبحث له عن مكان آمن يختفي فيه، حتى انتهى إلى حديقة فاختبأ داخلها، وصادف أن دخل أبو ذر ـ رضي الله عنه ـ هذه الحديقة لحاجته، فلما رآه حويطب هرب فناداه أبو ذر: تعالَ أَنت آمِن، فرجع إليه فسلم عليه، ثم قال: أنت آمن إن شئت أدخلتك على رسول، وإن شئت فاذهب إلى منزلك، قال:وهل من سبيل إلى منزلي؟ ألقى فأقتل قبل أن أصل إلى منزلي، أو يدخل علي منزلي فأقتل ،فقَالَ أبو ذر:فأنا أبلغ معك منزلك، فبلغ معه منزله، ثم جعل ينادي على بابه: إن حويطبا آمن فلا يهجم عليه ..(مغازي الواقدي 2/ 849)..

واستجاب المسلمون لطلب أبي ذر لأن نبي الإسلام علمهم أن المسلمين يسعى بذمتهم أدناهم، بمعنى أن أي مسلم يعطي لغيره عهدا لابد أن يحترم عهده من كل المسلمين، ولو كان عبدا ،ثم انصرف أبو ذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :"أَوَ لَيْسَ قَدْ أَمّنّا كُلّ النّاسِ ..." .

ومواقفه صلى الله عليه وسلم في العفو والصفح التي ظهرت خلال هذا الفتح العظيم كثيرة يضيق المقال بذكرها، ولكني اقتصرت على هؤلاء النفر؛ لأنهم قد ارتكبوا من الجرائم العظيمة في كفرهم ما يستوجب القتل لكن حلم وعفو وصفح رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أعظم من جرمهم.

وفي الختام أسأل الله عز وجل أن يردنا جميعا إليه ردا جميلا؛ لنعلم ما غاب عنا من سمو رسالة الإسلام، وأن يرزقنا الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في العفو والصفح والتضحية بكل شيء في سبيل دينه، وأن يجعل ذكرى فتح مكة هذا العام بداية للتمكين للإسلام والمسلمين من جديد، بعد زوال الكرب الذي حل بنا نتيجة الاختلال في فهم رسالة الإسلام التي ظهرت بجلاء في هذا الفتح المبين .

المصدر: موقع التاريخ

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين