من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله تعالى

 

عن عائشة رضي الله عنها أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من التمس رضا الله بسَخَط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رِضَا الناسِ بسخَط الله سَخِط اللهُ عليه وأسخط عليه الناس) رواه ابن حِبَّان (276) في البر والإحسان.

المعنى:

إنَّ رضا الناس غايةٌ لا تدرك، أما رضا الله فغاية سهلة ميسورة؛ ذلك لأنَّ الناس من طبعهم اللؤم والبخل: [قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا] {الإسراء:100}، والله تعالى من صفاته الكرم والجود.

والناس من طبعهم الجحود والإنكار: [وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا] {الإسراء:67}، والله تعالى متصف بالرحمة والإحسان، قال تعالى: [كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ] {الأنعام:54}. وقال تعالى: [وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ] {الأعراف:156}.

والناس إذا رضي منهم فريق سخط فريق، ورضا بعضهم إنما هو في سخط بعض.

فمن طلب رضاهم بسخط الله تعالى سخط الله عليه وأسخطهم أيضاً عليه، فإنَّه سبحانه مقلِّب القلوب، قال الله تعالى: [وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ] {الأنفال:24}. 

ثم أيُّ غرض للعبد في إرضائهم وإيثار سخط الله تعالى على حمدهم ورضاهم وهو لا يزيده حمدهم رزقاً ولا أجلاً، ولا ينفعه رضاهم يوم فقره وفاقته وهو يوم القيامة؟

بل كيف يطمع العبد فيما في أيدي الناس بسخط الله سبحانه، وهو يعلم أنَّ الله تعالى هو المسخر للقلوب بالمنع والإعطاء، وأنَّ الخلق مضطرون إليه: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ] {فاطر:15}.

فلا رازق إلا الله تعالى، ومن طمع في الخلق لم يخلُ من الذلِّ والخيبة، وإن وصل إلى المراد لم يخل عن المنَّة والمهانة، فكيف يترك ما عند الله سبحانه برجاء كاذب ووهم باطل قد يصيب وقد يخطئ؟! وإذا أصاب فلا تفي لذتُه بألم مِنَّته ومذلته.

فالعباد كلهم عجزة لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً.

قال صلى الله عليه وسلم فيما يَرويه عن ربه: (واعلم أنَّ الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعَت الأقلام وجَفَّت الصحف).

وقال تعالى: [مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ] {فاطر:2}.

فالعبد إذا تيقَّن أنه لن يصيبَه إلا ما كتب الله تعالى من خير وشر، ونفع وضر، وأنَّ اجتهاد الخلق كلهم على خلاف المقدور غير مفيد البتَّة، وعلم أنَّ الله سبحانه وحدَه هو الضار النافع، المعطي المانع، أوجب ذلك على العبد توحيد ربه عزَّ وجل، وإفراده بالطاعة، وحفظ حدوده، فإنَّ المعبود إنما يقصد بعبادته جلب المنافع ودفع المضار، ولهذا وجب أن يقدِّم طاعة الله تعالى على طاعة الخلق جميعاً، وأن يتقي سخطه ولو كان في سخط الخلق جميعاً، وأن يُفردَهُ بالاستعانة به والسؤال له: [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] {الفاتحة:5}، وإخلاص الدعاء له تعالى  في حال الشدة وحال الرخاء.

فإنَّ الله سبحانه يحب أن يُسأل ويُرغب إليه في الحوائج ويُلَحَّ في سؤاله، ويغضب على من لا يسأله ويتوجه إلى العباد يسألهم.

قال وهب بن منبِّه لرجل كان يأتي الملك: ويحك تأتي من يغلق عنك بابه، ويظهر لك فقره، ويُواري عنك غناه، وتدع من يفتح لك بابه نصف الليل ونصف النهار، ويظهر لك غناه، ويقول: ادعني أستجب لك!؟

وكتب معاوية رضي الله عنه إلى عائشة رضي الله عنها: أن اكتبي لي كتاباً توصيني فيه، ولا تكثري عليَّ. فكتبت عائشة رضي الله عنها إلى مُعاوية رضي الله عنه: سلام عليك: أما بعد فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مُؤنة الناس، ومن التمس رضا الناس بسَخط الله وكله الله إلى الناس) والسلام عليك  رواه الترمذي في الزهد (2414) وورده بإسناد آخر إلى عائشة رضي الله عنها موقوفاً.

وعندما قال شاعر بني تميم في وفدهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (أي محمد أعطني فإنَّ حمدي زَين، وذمّي شَين، قال النبي صلى الله عليه وسلم (ذاك الله).

وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أحبَّ الله العبد نادى جبريل: إنَّ الله يحب فلاناً فأحبَّه، فيحبه جبريل فينادي في أهل السماء: إنَّ الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في أهل الأرض).

ومحبة الله تعالى عبدَه كنايةٌ عن رضا الله عنه.

فمن أكبر سِمات المؤمن الصادق أنه لا يخشى في الله لومة لائم، لعلمه أنَّ من حمده الله سبحانه فهو المحمود، ومن ذَمَّه الله تعالى فهو المذموم، قال تعالى: [الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ] {آل عمران:173-174}.

ومن أظهر مواطن طلب رضا الناس مع سخط الله تعالى هو السكوت على المنكر، وممالأة المفسد، ومعاونة الظالم، ومُشاركة الطاغية، فإنَّ في هذا دليلاً على خلو القلب من عظمة الله تعالى وهيبته، وامتلاء النفس بخشية الناس والحرص على رضاهم.

فقد كان السلف الصالح يعظون في شجاعة وقوة إيمان، وينكرون المنكر، ويصارحون أهل الجور بجورهم، ويقاطعون أهل البغي ببغيهم، في غير ما خوف ولا وجل، فرضي الله عنهم وأرضاهم، وغرس محبتهم في القلوب، وإجلالهم في النفوس.

قال الله تعالى في وصف المؤمنين: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] {المائدة:54}. وقال صلى الله عليه وسلم: (أفضل الجهاد كلمة حق عند إمام جائر). 

ذكر الغزالي في كتابه (الإحياء) أنَّ هشام بن عبد الملك قدم حاجاً إلى مكة فلما دخلها قال: ائتوني برجل من الصحابة، فقيل: يا أمير المؤمنين قد تفانوا، فقال: من التابعين، فأتِي بطاووس اليماني، فلما دخل عليه خلع نعليه بحاشية بساطه ولم يسلم عليه بإمرة المؤمنين، ولكن قال: السلام عليك يا هشام، ولم يكنه! وجلس بإزائه، وقال كيف أنت يا هشام؟ فغضب هشام غضباً شديداً حتى همَّ بقتله، فقيل له: أنت في حرم الله وحرم رسوله ولا يمكن ذلك.

فقال له: يا طاووس ما الذي حملك على ما صنعت؟ قال: وما الذي صنعت؟

فازداد غضباً وغيظاً، وقال: خلعت نعليك بحاشية بساطي، ولم تقبِّل يدي، ولم تسلم عليَّ بإمرة المؤمنين، ولم تكنني، وجلست بإزائي بغير إذني، وقلت: كيف أنت يا هشام؟

قال: أمَّا ما فعلتُ من خلع نعلي بحاشية بساطك فإني أخلعهما بين يدي رب العزة كل يوم خمس مرات ولا يعاقبني ولا يغضب عليَّ!

وأما قولك لم تقبل يدي فإني سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: لا يحل لرجل أن يقبل يد أحد إلا ولده من رحمة.

وأما قولك لم تسلم عليَّ بإمرة المؤمنين فليس كل الناس راضين بإمرتك فكرهت أن أكذب.

وأما قولك لم تكنني فإنَّ الله تعالى سمَّى أنبياءه وأولياءه فقال: يا داود، يا يحيى، يا عيسى، وكنَّى أعداءه فقال: [تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ] {المسد:1}.

وأما قولك جلست بإزائي فإني سمعت أمير المؤمنين علياً رضي الله عنه يقول: إذا أردت أن تنظر إلى رجل من أهل النار فانظر إلى رجل جالس وحوله قوم قيام.

فقال له هشام: عظني. فقال: سمعت من أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يقول: (إنَّ في جهنم حيات كالقلال وعقارب كالبغال، تلدغ كل أمير لا يعدل في رعيته) ثم قام.

ودخل أعرابي على سليمان بن عبد الملك فقال: تكلم يا أعرابي فقال: يا أمير المؤمنين إني مكلمك بكلام فاحتمله وإن كرهته، فإن وراءه ما تحب إنْ قبلتَه. فقال: يا أعرابي، إنا لنجود بسعة الاحتمال على من لا نرجو نصحه ولا نأمن، فكيف بمن نأمن عيشه ونرجو نصحه؟

فقال الأعرابي يا أمير المؤمنين لقد اكتنفك رجال أساءوا الاختيار لأنفسهم، وابتاعوا دنياهم بدينهم، ورضاك بسخط ربهم، خافوك في الله تعالى ولم يخافوا الله سبحانه فيك، حرب الآخرة سلم للدنيا فلا تأتمنهم على ما ائتمنك الله تعالى عليه، فإنهم لم يألوا في الأمانة تضييعاً، وفي الأمة خسفاً وعسفاً، وأنت مسؤول عما اجترحوا وليسوا بمسؤولين عما اجترحت، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك، فإنَّ أعظم الناس غبناً من باع آخرته بدنيا غيره!. 

فقال له سليمان: يا أعرابي أما إنك سللت لسانك وهو أقطع من سيفك!

قال: أجل يا أمير المؤمنين ولكن لك لا عليك.

وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تزال هذه الأمة تحت يد الله وكنفه ما لم يعظم أبرارُها فجَّارها، ويداهن خيارُها شرارَها) [قال الحافظ العراقي: رواه أبو عمر والداني في كتاب الفتن من رواية الحسن مرسلاً ورواه الديلمي في مسند الفردوس من حديث علي وابن عمر، وسندهما ضعيف].

ويروى أنَّ معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه لما نصب يزيد لولاية العهد أقعده في قبة حمراء فجعل الناس يسلمون على معاوية ثم يَميلون إلى يزيد، حتى جاء رجل ففعل ذلك ثم رجع إلى معاوية رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين اعلم أنَّك لو لم تُوَلِّ هذا أمورَ المسلمين لأضعتها! والأحنف جالس.

فقال له معاوية رضي الله عنه: ما بالك لا تقول يا أبا بحر؟ 

فقال: أخاف الله إن كذبتُ، وأخافكم إن صدقتُ، فقال: جزاك الله عن الطاعة خيراً، وأمر له بألوف.

فلما خرج الأحنف لقيه الرجل بالباب فقال: يا أبا بحر إني أعلم أن شر مَن خلق الله هذا وابنه، ولكنهم قد استوثقوا من هذه الأموال بالأبواب والأقفال، فلسنا نطمع في استخراجها إلا بما سمعت.

فقال له الأحنف: يا هذا أمسِك، فإن ذا الوجهين خليق ألا يكون عند الله وجيهاً!

عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً، تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا) [أخرجه الترمذي، وقال: حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه].

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة لواء الإسلام العدد العاشر، السنة السابعة، 1373هـ، 1954م).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين