مصر بين مَنْ بَنَيَ ومَنْ باع

لن نذهب بعيدا في عمق التاريخ ، فقط سنعود ما يقرب من مئة وخمسين عاما لننظر لخريطة مصر في عهد الخديوي إسماعيل.

سنجد خريطة مصر تضم السودان كاملة ومعظم أوغندا وأجزاء واسعة من إثيوبيا وإريتريا والصومال وأجزاء من كينيا والكونغو .

وكان الجزء الممتد من جنوب السودان حتى بحيرة ?يكتوريا يُعرف بمديرية خط الاستواء.

وكانت ممتدة بطول نهر النيل من المنبع للمصب ، وبطول الساحل الغربي للبحر الأحمر حتي جنوب باب المندب .

بالنظر للخريطة تدرك مباشرة أن الخديوي إسماعيل كان يخطط لجعل مصر قوة إقليمية ومركزاً للتجارة ولخطوط مواصلات العالم من خلال إنشائه لقناة السويس بالتوازي مع مد سلطانه بطول ساحل البحر الأحمر متجاوزا باب المندب إلى ساحل المحيط الهندي في الجهة الأفريقية ، مع تأمين نهر النيل من المنبع للمصب .

في سبيل تنفيذ تلك الخطة الاستراتيجية قام بتقوية الجيش وأسطوله البحري ومعداته الحربية ، ومن جانب آخر أدرك أن تحديث مصر هو أهم عنصر في تنفيذ الخطة ، فقامت في عهده نهضة تعليمية وعلمية وثقافية وعمرانية تم خلالها إنشاء العديد من المدارس والمراكز العلمية والثقافية والتطوير العمراني ، وتم في عهده إنشاء نواة أول مجلس نيابي .

مع بداية إرسال حملته العسكرية عام 1869 أصدر الفرمان التالي : ( تؤلف حملة لإخضاع النواحي الواقعة جنوب "غوندوكورو" لسلطتنا.-"غوندوكورو" تقع أقصى جنوب السودان الجنوبي حالياً-. وذلك لنشر المدنية وإبطال تجارة الرقيق ، والمساعدة لإقامة حكومة ثابتة، وفتح طريق الاتصال بالبحيرات العظمى الواقعة جنوب خط الاستواء، وإقامة نقاط عسكرية ومستودعات للتجارة يبعد بعضها عن بعض مسافة ثلاثة أيام للماشي في أنحاء أفريقيا الوسطى ابتداء من "غوندوكورو" ).

وبالفعل قامت الحكومة المصرية بخدمات جليلة لتمدين هذه المناطق وفتح طرق التجارة بينها وبين مصر ، ومن ثم العالم الخارجي ، وقامت بإدخال زراعات جديدة لم تكن معروفة في تلك المنطقة ، فضلاً عن أعمال الري والبحوث الجغرافية والزراعية .

وقد نجحت خطة الخديوي في بسط سلطان المملكة المصرية على هذه البلاد ، فقد كتب الضابط "وود" إلى السير "إليوت" سفير إنجلترا بالأستانة عام 1875 : (إن تنازل الباب العالي عن "زيلع" إلى مصر واستيلاء مصر على"بربرة" يجعلان ساحل البحر الأحمر كله في قبضة مصر، ولا ريب أن تلك المناطق التي كانت مستوحشة لا يأنس بها أحد، نجح المصريون بوصلها بالعالم المتمدين.)

واتخذت الإدارة المصرية "بربرة" (ضمن حدود الصومال) مركزاً تنطلق منه، فأرسلت مركباً حربياً من أسطولها للإقامة الدائمة أمام ميناء "بربرة" لحفظ الأمن بها. 

وكان يقيم بهذا المركب الحربي فرقة من المهندسين المصريين قاموا برسم خرائط وافية للمنطقة وقاموا خلال خمس سنوات بتصميم وإنشاء مدينة كاملة في "بربرة" تم الانتهاء منها عام 1877 .

وتحولت "بربرة" التي كانت قبل قدوم الحملة المصرية عبارة عن مجموعة من العِشَش يقطنها صيادو السمك إلى ميناء يفوق ميناء عدن -تحت حكم الإنجليز-، وقد اعترف بذلك "هنتر" قنصل إنجلترا في الصومال في رسالة عام 1884 : (أنجز المصريون في بربرة من العمران ما يصح أن تفاخر به أية إدارة).

وامتدت سلطة المملكة المصرية إلى "كيسمايو" في الصومال، وإلى "هرر" في أثيوبيا.

كانت مدينة "هرر" في هذا الوقت يقطنها ثلاثون ألفاً غالبيتهم العظمى من المسلمين، دخلها "محمد رؤوف باشا" عام 1875، وعمل على إعادة الأمن وتعبيد وتأمين الطريق الذي يصل "هرر" ب"زيلع" لتسهيل طرق التجارة وأنشأ عليه نقاط عسكرية .

وعني رؤوف باشا بتشجيع الصناعة المحلية فكان هو وكبار الموظفين المصريين يلبسون ملابس من صنع أهل "هرر" ليقتدي بهم السكان.!!

وساهم مع "مختار بك" في إنشاء مدينة "جلديسا" عند تقاطع طرق هرر وشوا وزيلع.

وقد دون رحالة إيطالي مشاهداته لمدينة "هرر" عام 1881 : ( المصريون في هذه البلاد تبدو عليهم سيماء الفاتحين الرافعين لواء الحضارة، إذ يعلمون الأطفال القراءة والكتابة، ويعلمون الفتيان الصلاة وأحكام الشريعة...).

هكذا كانت مصر قبل مئة وخمسين عاماً .

ومن السخرية أن هذا الرجل الذي تآمرت عليه الدول الاستعمارية وانتزعت فرمان عزله من السلطان الضعيف وطردوه خارج مصر ومات في المنفي ، علمونا في الكتب المدرسية أنه خرب مصر وأغرقها في الديون وجلب لها الاحتلال.

بينما من تقلصت وتقزمت علي أيديهم مصر بالتنازل والهزائم والبيع تكللهم كتب التاريخ بأكاليل الغار .

ملحوظة : مراجع هذا المقال ( مديرية خط الاستواء في ثلاث مجلدات تأليف الأمير عمر طوسون - مصر في أفريقيا الشرقية (هرر وزيلع وبربرة) للدكتور "محمد صبري". - عصر إسماعيل في مجلدين لعبد الرحمن الرافعي هــــنا

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين