في فريضة الزكاة-3-

 

السؤال التاسع: هل فُرِضت الزكاة على أشياء أخرى في عهد الخلفاء الراشدين غير ما كان مفروضاً أثناء عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟ وما هي المبادئ التي اتبعت في إضافة هذه الأشياء إن وجدت وفي تعديلها؟

الجواب: نعم فرضت الزكاة في عهد الخلفاء الراشدين على أشياء وجدت في عهدهم ولم تكن موجودة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كانت الزكاة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مفروضة في خمسة أنواع من الأموال: 

1 – الذهب والفضة. 2 – عروض التجارة. 3 – السوائم من الإبل والبقر والغنم. 4 – الزروع والثمار. 5 – ما يعثر عليه في باطن الأرض من كنوز ومعادن.

والأحاديث التي وردت في الزكاة ومقدار النصاب المفروضة فيه، ومقدار الواجب في كل نصاب، كلها في هذه الأنواع الخمسة من الأموال.

ولكن في عهد الخلفاء الراشدين وجدت أنواع من الأموال قضت العدالة والمصلحة بأن تفرض فيها الزكاة، ففي عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فرضت الزكاة على ما يخرج من البحر من عنبر ولؤلؤ ومرجان وغيرها من الحلي، وفرضت الزكاة على الصادرات والواردات، ونصب لها العَاشِرُ في كل ثغرٍ من ثغور البلاد الإسلاميِّة، وفرض الخراج على الأرض الزراعية في عدة ولايات إسلاميَّة.

والقاضي أبو يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة فصَّل ما فعله عمر رضي الله عنه في هذه الأنواع الثلاثة في كتاب الخراج الذي ألَّفه إجابة لطلب أمير المؤمنين هارون الرشيد، وأنا أورد ما قاله، ومنه نتبين المبادئ التي اتَّبعها عمر رضي الله عنه في فرض الزكاة في هذه الأنواع.

1 – فيما يخرج من البحر – قال أبو يوسف: وسألتَ يا أمير المؤمنين عمَّا يخرج من البحر من حلية وعنبر، فإنَّ فيما يخرج من البحر من الحلية والعنبر الخُمس، فأما غيرهما فلا شيء فيه، وقد كان أبو حنيفة وابن أبي ليلى رحمهما الله يقولون: ليس في ذلك شيء لأنه في منزلة السمك، وأما أنا فإني أرى في ذلك الخمس وأربعة أخماسه لمن أخرجه، لأنا قد روينا فيه حديثاً عن عمر رضي الله عنه، ووافقه عليه ابن عباس رضي الله عنهما فاتبعنا الأثر، ولم نرَ خلافه: حدثني الحسن بن عمارة عن عمرو بن دينار عن طاوس عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنهما استعمل يعلى بن أمية على البحر، فكتب إليه في عنبرة وجدها رجل على الساحل، فسأله عنها وعمَّا فيها، فكتب إليه عمر رضي الله عنه: (إنه سيْب من سيْب الله، فيها وفيما أخرج الله جلَّ ثناؤه من البحر الخمس) قال: وقال ابن عباس رضي الله عنه: وذلك رأيي). [كتاب الخراج لأبي يوسف ص 83 طبعة المطبعة السلفية].

2 – في الصادرات والواردات – قال أبو يوسف: إنَّ عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه وضع العشور، فلا بأس بأخذها إذا لم يتعدَّ فيها على الناس، ويؤخذ أكثر مما يجب عليهم، وكل ما أخذ من المسلمين من العشور فسبيلُه سبيل الصدقة، وكل ما أُخذ من أهل الذمة وأهل الحرب فسبيله سبيل الخراج، حدثني إسماعيل بن إبراهيم عن مُهاجر قال: سمعت أبي يذكر قال سمعت زياد بن حدير قال: أول من بَعث عمر بن الخطاب على العشور أنا، قال: فأمرني أن لا أفتش أحداً، وما مرَّ علي من شيء أخذت من حساب أربعين درهماً، درهماً واحداً من المسلمين، ومن أهل الذمَّة من كل عشرين درهماً، درهماً واحداً، وممن لا ذمة له العشر، قال: وأمرني أن أغلظ على نصارى بني تغلب. 

وحدثني عاصم بن سليمان عن الحسن قال: كتب أبو موسى الأشعري إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إنَّ تجاراً من قِبلنا من المسلمين يأتون أرض الحرب فيأخذون منهم العشر) قال: فكتب إليه عمر رضي الله عنه: (خذ أنت منهم كما يأخذون من تجار المسلمين، وخذ من أهل الذمة نصف العشر، ومن المسلمين من كل أربعين درهماً درهماً، وليس فيما دون المائتين شيء، فإذا كانت مائتين ففيها خمسة دراهم وما زاد فبحسابه) [كتاب الخراج ص160].

3 – الخراج في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه: فتح الله للمسلمين العراق والشام ومصر، وقد أراد الفاتحون أن تقسم أرض البلاد التي فتحوها بينهم لأنها غنيمة، والغنيمة خمسها لله ولرسوله ولذي القربى واليتامى والمساكين وأربعة أخماسها للفاتحين، تقسم بينهم للراجل سهم وللفارس سهمان، ولكن عمر رأى أنَّ قسمة هذه الأرضين بين الفاتحين يحرم أهل البلاد من موارد الرزق، ويحرم الدولة من موارد مالية تقيم بها المصالح العامة، ويجعل الأرض الزراعيَّة تنتقل بالإرث من يد الفاتحين إلى ورثتهم وذريتهم خاصة، لهذا عدل عن قسمتها بين الفاتحين، وتركها في أيدي أهلها، وفرض عليهم فيها الخراج لتنفق منه في مصالح المسلمين، وقد دارت بينه وبين بعض أصحابه رضي الله عنهم مناقشة في هذا أرى أن أوردها بنصها لتتجلى روح الشورى بين المسلمين وتتبين وجهة نظر عمر رضي الله عنه فيما صنع.

قال أبو يوسف: وحدثني غير واحد من علماء أهل المدينة قالوا: لما قدم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه جيش العراق من قبل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه شاور أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في تدوين الدواوين، وقد كان اتبع رأي أبي بكر رضي الله عنه في التسوية بين الناس، فلما جاء فتح العراق شاور الناس في التفضيل ورأى أنه الرأي فأشار عليه بذلك من رآه، وشاورهم في قسمة الأرضين التي أفاء الله على المسلمين من أرض العراق والشام، فتكلم قوم فيها وأرادوا أن تقسم لهم حقوقهم وما فتحوا، فقال عمر رضي الله عنه: فكيف بمن يأتي من المسلمين فيجدون الأرض بعلوجها قد اقتسمت وورثت عن الآباء وحيزت؟ ما هذا برأي، فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: فما الرأي؟ ما الأرض والعلوج إلا مما أفاء الله عليهم، فقال عمر رضي الله عنه: ما هو إلا كما تقول، ولست أرى ذلك، والله لا يفتح بعدي بلد فيكون في كبير نيل، بل عسى أن يكون كلاً على المسلمين، فإذا قسمت أرض العراق بعلوجها، وأرض الشام بعلوجها فما يسدُّ به الثغور، وما يكون للذرية والأرامل بهذا البلد وبغيره من أهل الشام والعراق؟ فأكثروا على عمر رضي الله عنه وقالوا: أتقف ما أفاء الله علينا بأسيافنا على قوم لم يحضروا ولم يشهدوا، ولأبناء القوم ولأبناء أبنائهم ولم يحضروا؟ فكان عمر رضي الله عنه لا يزيد على أن يقول: هذا رأي، قالوا: فاستشر، قال: فاستشار المهاجرين الأولين فاختلفوا، فأما عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فكان رأيه أن تقسم لهم حقوقهم، وأما عثمان وعلي وطلحة وابن عمر رضي الله عنهم فقد رأوا رأي عمر.

فأرسل إلى عشرة من الأنصار: خمسة من الأوس، وخمسة من الخزرج من كبرائهم وأشرافهم، فلما اجتمعوا حمد الله تعالى وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: إني لم أزعجكم إلا لأن تشركوا في أمانتي فيما حملت من أموركم، فإني واحد كأحدكم، وأنتم اليوم تقرون بالحق، خالفني من خالفني ووافقني من وافقني، ولست أريد أن تتبعوا الذي هو هواي، معكم من الله كتاب ينطق بالحق، فوالله لئن كنت نطقت بأمر أريده ما أريد به إلا الحق، قالوا: قل نسمع يا أمير المؤمنين قال: قد سمعتم هؤلاء القوم الذين زعموا أني أظلمهم حقوقهم، وإني أعوذ بالله أن أركب ظلماً، لئن كنت ظلمتهم شيئاً هو لهم وأعطيته غيرهم لقد شقيت! ولكن رأيت أنه لم يبقَ شيء يفتح بعد أرض كسرى، وقد غنمنا الله تعالى أموالهم وأرضهم وعلوجهم، فقسمت ما غنموا من أموال بين أهله، وأخرجت الخمس فوجهته على وجهه، وأنا في توجهه، وقد رأيت أن أحبس الأرضين بعلوجها، وأضع عليهم فيها الخراج، وفي رقابهم الجزية يؤدونها، فتكون فيئاً للمسلمين المقاتلة والذرية، ولمن يأتي بعدهم. 

أرأيتم هذه الثغور لابدَّ لها من رجال يلزمونها؟ أرأيتم هذه المدن العظام، كالشام والجزيرة والكوفة والبصرة ومصر، لابدَّ لها من أن تشحن بالجيوش وإدرار العطاء عليهم، فمن أين يعطى هؤلاء إذا قسمت الأرضون والعلوج؟ فقالوا جميعاً: الرأي رأيك، فنعم ما قلت وما رأيت! إن لم تشحن هذه الثغور وهذه المدن بالرجال وتجري عليهم ما يتقوون به رجع أهل الكفر إلى مدنهم. 

قال عمر رضي الله عنه: قد بان لي الأمر، فمن رجل له جزالة وعقل يضع الأرض مواضعها، ويضع على العلوج ما يحتملون؟ فاجتمعوا له على عثمان بن حنيف رضي الله عنه، وقالوا: تبعثه إلى أهم ذلك فإن له بصراً وعقلاً وتجربة. 

فأسرع إليه عمر رضي الله عنه فولاه مساحة أرض سواد العراق، فأدت جباية سواد الكوفة قبل أن يموت عمر مائة ألف ألف درهم، وكان وزن الدراهم يومئذ وزن المثقال.

قال أبو يوسف: (والذي رأى عمر رضي الله عنه من الامتناع من قسمة الأرضين بين من افتتحها عند ما عرفه الله تعالى ما في كتابه من بيان ذلك توفيقاً من الله تعالى كان له فيما صنع، وفيه كانت الجزية لجميع المسلمين، وفيما رآه من جمع خراج ذلك وقسمته بين المسلمين عموم النفع لجماعتهم) [كتاب الخراج ص 29-32].

ومن هذا تتبين المبادئ والأسس التي بني عليها الفرض في هذه الأشياء.

فالفرض فيما يخرج من البحر من حلي وعنبر بني على أنه سيب، أي: عطاء وفضل من الله تعالى، فهو كالكنوز والركاز وما يعثر عليه في باطن الأرض من سائل وجامد، ولهذا فرض فيه الخمس كما فرض في الركاز الخمس، والفرض على الصادرات والواردات بني على مبادلة المعاملة بالمثل، ولهذا قال عمر رضي الله عنه لأبي موسى رضي الله عنه خذ من تجارهم مثل ما يأخذون، ولم يفرض على تجارة المسلم أكثر مما فرض عليه في زكاة ماله أي ربع العشر.

 وفرضُ الخراج على الأرض الزراعية بني على رعاية المصالح العامة وكفالة ما يحفظ النفوس ويقوي الجيوش ويدبر شؤون الأمة، وقد ذكر الله تعالى من مصارف الزكاة: [وَفِي سَبِيلِ اللهِ] {التوبة:60}، وهذا يقضي بالصرف في سبيل كل مصلحة عامة للأمة، لأن المصلحة العامة لا يكون الصرف في سبيلها صرفاً في سبيل فرد من الناس، بل هو صرف في سبيل الناس جميعهم، فينسب إلى ربهم.. 

ولعل هذا هو أساس ما ذهب إليه بعض الأئمة من أنه إذا زادت حاجات الجنود، أو نفقات المصالح العامة عما في بيت المال فللإمام أن يفرض على الموسرين ما يسد به الحاجات والنفقات الضروريَّة العامة.

السؤال العاشر: هل تجب الزكاة على العملة المصنوعة من النيكل وغيره من المعادن دون الذهب والفضة المعتبرين عملة رسمية؟ وهل تفرض الزكاة على العملة غير المستعملة في البلاد أو على العملة الناقصة التي فقدت قيمتها أو العملة الأجنبية؟

الجواب: كل ما تتعامل به الأمَّة على أنه نقد يباع ويشترى به من أي معدن كان من الذهب أو الفضة أو النيكل أو البرنز أو النحاس، فهو نقود في الأمة وتجب في الزكاة لأنه مال نامٍ، وكذلك إذا تعاملت الأمة بالورق أو الجلد أو أي شيء فهو نقود في الأمة وتجب فيه الزكاة لأنه مال نامٍ، وأما العملة غير المتداول استعمالها في البلاد، والعملة الأجنبية، فهذه تعتبر من عروض التجارة إذا كانت تتداول بالصرف تجب فيها الزكاة باعتبار قيمتها، وأما إذا كانت تقتنى لغير التجارة فيها ومبادلتها صرفاً فلا تجب فيها الزكاة، ما لم تكن من الذهب أو الفضة، فإن كانت منهما وجبت فيها الزكاة لأننا قدمنا أنَّ الزكاة تجب في الذهب مضروبين وغير مضروبين.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة لواء الإسلام، العدد الخامس، المجلد الرابع، محرم 1370، أكتوبر 1950).

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين