أيام في السماء

 

      اليوم، في ساعة ندية في الهزيع الأخير من الليل، وقبيل فجر ليلة من العشر الأواخر من رمضان، كانت الجواء الروحانية تسيطر على الزمان والمكان، كنت أسمع إلى قراءة الجزء الأول من كتاب الله بصوت الشيخ محمود خليل الحصري عليه رحمات الله، ذلك الصوت الرخيم الطليُّ، الذي تغلغل في ذاكرتي البعيدة عبر عشرات السنين، وكرّ بي الزمان ينقلني بجناحيه، يهوّم بي في ذكريات الطفولة، عندما كنت طالبا في مدرسة الكلتاوية بحلب صيف 1979، في أولى الدورات الصيفية، وكانت في شهر رمضان المبارك.. كنا نستيقظ قبيل الفجر، وبعد السحور، نتحلق في ساحة المدرسة، كلٌّ يحمل مصحفه مصغياً بإنصات إلى تسجيل لآيات من الذكر الحكيم بصوت الشيخ محمود خليل الحصري. كان الهدوء يخيم على المكان، فلا تكاد تسمع إلا حفيف الشجر تداعبه نسائم السحَر، وكان صوت الشيخ يقطع ذلك السكون بشجو آسر، وطلاوة ندية، فيسيطر عليك، حتى تعتقد أنك كلَّك أصبحت أُذنا مصغية، وقلبا مشرئبّا، وروحا رقراقا.

        يا لتلك الذكريات الجميلة! و يا لتلك الساعات البهيجة! و يا لروعة المشهد! و يا لسعادة الروح! ما زلت حتى هذه الساعة أتذكر روحانية الزمان والمكان وكأنها مشهد سينمائي يمرّ على مخيلتي، أراه بأم عيني، وأسمع حسيسه بأذني، وأتنسم عبيره بأنفي. 

        تخيل نفسك معي، وأنت على تلة الكلتاوية، ونسائم الشهباء العليلة تدغدغ جوارحك، وأزاهير الياسمين تنفح عبقها نديا بين جنبيك، والهدوء النقيّ يخيم على المكان. كنا أطفالا لم تعبث بنا الدنيا، ولم تكدر صفونا السنون، أحلامنا لا تغادر أسوار المدرسة، وأرواحنا ما زالت ملائكية، كأنها تستحم كل فجر في غدران البراءة.. ما زالت تلك الذكريات عالقة  في الوجدان، مغروسة في الذاكرة، كأنها شجرة الليمون أو التين المقدس، لم يمحُها تقادم الدهر، ولم يرنّق صفوها مرُّ السنين.

         

      إنها حقا كما أسماها ذلك الشيخ الأريب الأديب الذي عاشها معنا يوما بيوم، وساعة بساعة: "أيام في السماء"، وهي بصدق كانت كذلك، فما أروع تلك الأيام! وما أرق تلك الساعات! وما أجمل تلك الذكريات!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين