شعار المؤمن (السمع والطاعة للحق والعدل)

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ البَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] {البقرة:208-209}.

آيتان محكمتان، صدرت بهما طائفة من الآي الكريمة، هي في جملتها رسالة الرحمة، توجهها السماء إلى أهل الأرض، مُناشدة إياهم أن يَفيئوا من السلام إلى ظل ظليل، يمحو من بينهم أسباب النزاع والخصام، ومذكرة إياهم برباط الوحدة الإنسانية، التي تسمو على فوارق الأحساب والأنساب، والأجناس والألوان [كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً] {البقرة:213}.

ولقد كان من بالغ الحكمة وجميل التلطف في أسلوب هذه الدعوة، أنها قبل أن ترقى إلى هذا الأفق العالمي الرفيع، صعدت إلى مُنتصف الطريق، فاختارت من بين الأسرة العالمية الكبرى، أسرة كبيرة هي أحق بالترابط والتراحم فيما بينها، تلك هي أسرة المؤمنين بالأديان السماوية، الذين يجمعهم مبدأ الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر، نظمتهم الآية الكريمة في سلك واحد، وجعلت تناشدهم أن يلموا شعثهم، ويضموا صفوفهم تحت لواء السلام الشامل: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً] {البقرة:208}.

***

أول ما يعني الباحث ها هنا، هو الكشف عن حقيقة هذا السلام الشامل الذي يدعو القرآن الكريم إليه أهل الإيمان.

فنحن نفهم في العادة من كلمة (السلم) معنى: كف الأذى، وترك الشغب والفتنة ونبذ الحروب والخصومات، وبالجملة معنى المسالمة في معاملة الناس بعضهم بعضاً، وهذا معنى صحيح في ذاته، غير أنَّه لا يمثل من السلام إلا عنصره السلبي، ولا يصور منه إلا قشرته السطحيَّة، ومظهره الخارجي، وكثيراً ما كان هذا المظهر طلاءً خادعاً، يخفي وراءه الداء الدفين، والضغن الكمين، وإنما السلام الحقيقي هو الذي يتقرَّر في الآراء والعقائد، قبل أن تحرر مواثيقه في صكوك المعاهدات، وقبل أن تطبق قواعده في البر والبحر.

وكلنا نعلم أنَّ القرآن الكريم ليس رسالة مدنيَّة فحسب، وأنه ليس كل همه تنظيم صور الحياة ومظاهرها، وإنما هو قبل كل شيء تربية للعقول بالعقائد السليمة، وتزكية للقلوب بالمبادئ الفاضلة، التي متى نبتت بين الجوانح، أينعت ثمراتها الطيبة على اللسان والجوارح. 

أجل إنَّه ليس من سنة القرآن أن يكتفي في معالجة الأمور بذلك النوع من العلاج السطحي الجانبي، ولكنه دائماً يأتي البنيان من قواعده ويسوس الأمر من باطنه وأعماقه: يُمَكِّن للخيرات والفضائل بغرس بذورها، ويكافح الشرور والرذائل، باقتلاع جذورها.

السلام الذي يدعو إليه القرآن ها هنا، هو إذاً شيء آخر، أعمق من كل هذه المظاهر الماديَّة، إنَّه فكرة حيَّة، وحقيقة روحيَّة، هو عقد وميثاق بين المرء وقلبه، يلتزم فيه كل امرئ أن يكون مُتجاوباً حقاً وصدقاً مع المثل العليا التي يؤمن بها، بحيث لا يثور تمرداً على تلك المبادئ، إذا خالفت هواه، ولا يعرض عنها كلما تعارضت مع ميوله ورغائبه.. 

فالدخول في السلم هو الثبات تحت راية الحق في خضوع واستسلام، والانقياد لقانون العدل، في طاعة ونظام: [وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ] {النساء:125}. [وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى] {لقمان:22}.

هذا هو لبُّ المعنى وجوهره في لغة العرب، وهذا هو حقيقة السلم، وحقيقة الإسلام، في لغة القرآن، وهذا هو الدين الذي دعا إليه جميع الأنبياء، وهذا هو الطريق الوحيد لنشر لواء الأمن والسلام بين الأمم والأفراد.

ذلك أنه لا يستقر أمن إلا في ظل الألفة والترابط، ولا تدوم ألفة إلا على أساس مبدأ واحد ثابت، ولا وحدة ولا ثبات إلا لمبدأ الحق الذي لا يتحوَّل ولا يتعدد، وبضدها تتميز الأشياء، فليس على وجه الأرض فتنة وخصومة، إلا كانت وليدة اختلاف، ولا اختلاف يورث الخصام إلا أن يكون مبعثه تشعب الأهواء وتناقضها، ولا تتشعب الأهواء وتتناقض إلا بمقياس بعدها عن جادة الحق، وطريقه القويم: [وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] {الأنعام:153}. [وَلَوِ اتَّبَعَ الحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ] {المؤمنون:71}.

هذا ولقد علمتنا التجربة والملاحظة المتكررة أنَّ كثيراً ممن عنده أصل الإيمان، لا يعوزهم اعتناق المبادئ، ولكن يعوزهم الثبات عليها، وأنهم لا ينقم عليهم رفض مبادئهم والارتداد عنها، بقدر ما يؤخذ عليهم تجزئة هذه المبادئ وتفتيتها، وتركهم الميول والأهواء تعترض سبيلها، وتقيم الحواجز أمام تطبيقها على عمومها: [يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللهُ] {التوبة:37}.

من هنا يعرف السر في أنَّ القرآن الكريم لم يكتفِ بمجرد الدخول في السلم، بل طلب أن يكون (كافة) عامة، وأن يكون الإذعان لأمره إذعاناً كلياً، شاملاً كاملاً، لا قيود له ولا حدود، ولا التواء فيه ولا استثناء، فتلك هي أنصاف الحلول التي يأباها القرآن الكريم، وذلك هو مناط الذم، الذي وجهه إليه كثير من أهل الأديان، فنحن نراه - حين يضرب الناس أمثالهم – يعرف لنا المؤمنين الصادقين بأنهم هم الذين يعتنقون الحق جملة واحدة، يؤمنون بالكتاب كله ولا يفرقون بين الله ورسله، وهم الذين إذا شرعت لهم القوانين العادلة لم يتبرموا بها، ولو كان فيها ما تكرهه نفوسهم، ولم يتهربوا منها، ولو كان من ورائها نقص شيء من حظوظهم وأمانيهم: [إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا] {النور:51}. وفي ذلك يقول الرسول الكريم:(على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية).

أما الذين في قلوبهم زيغ، فقد وصفهم القرآن بأنَّ كل شيء عندهم منقسم، عقائدهم، ومعاملاتهم، وأحكامهم، فأما في عقائدهم فإنَّه يؤمنون ببعض الحق، ويكفرون ببعضه، وكلما جاءهم داعي الحق بما لا تهوى أنفسهم استكبروا، ففريقاً كذَّبوا، وفريقاً يقتلون، وأما في مُعاملاتهم فإنهم إذا لزمهم الحق لم يؤدوه إلا مكرهين: [وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ] {النور:49}. 

وأما في حكمهم على الأشياء وعلى الناس، فإنهم لا يحمدون إلا الناحية التي يهب عليهم منها ريح الغنيمة: [فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ] {التوبة:58}.

على أنَّ الذي يُذعن للحق فيما يرضيه، ويعرض عنه فيما يسخطه، ليس في الحقيقة مذعناً له في واحدة منهما، ولكن مُستسلم لهواه في كلتا الحالتين.

ومهما يكن من أمر، فإنَّ التمرُّد على الحق كلاً أو بعضاً، لا يمكن أن يكون نزعة من نزعات الإيمان، وإنما هو نزغة من نزغات الشيطان، لا جرم حذرنا الله منه أشد تحذير، حيث قال جلَّ شأنه: [وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] {البقرة:168}. فكان صدر الآية تبصيراً بطريق الهداية، وعجزها تحذيراً من طرق الغواية.

وهكذا كل قيادة حكيمة، تبدأ بالبيان والإرشاد، وتثني بالنصح والتحذير، فإذا أصرَّ الناس على العناد بعد أن تبين لهم الرشد من الغي، لم يبقَ إلا أن يُؤخذوا بالحزم والعزم، وآخر الدواء الكي: [فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ البَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] {البقرة:209}. وصدق الله العظيم.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة الأزهر، المجلد الرابع والعشرون، صفر 1372 - الجزء 2).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين