رمضان شهر الوسطية القصد والاعتدال

 

القصد والاعتدال والوسطية، منهج رباني، تعبّدنا الله سبحانه وتعالى به، في كل شأن من شؤون حياتنا، فالتوسط والاعتدال، هو الكمال، وكلما انحرف الإنسان عن الوسط، اتجه إلى النقص والابتعاد عن الكمال فالتوازن هو قانون الحياة الرشيدة، التي أرادها الله لنا، والمسلم الحق: هو المسلم المتوازن في كل مجالات الحياة، فالتزام منهج الله في التوسط والاعتدال فيه نجاح الإنسان، وراحته وسعادته، وكلّ خروج عن هذا المنهج وشطط في أي ناحية من مناحي الحياة، نتيجته الفشل والمعاناة والبؤس قال تعالى: {ولا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِكَ ولا تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا (29)}الإسراء 29.

وشهر رمضان شهر يتدرب فيه المسلم على هذا المنهج القويم، في التوازن والاعتدال وعدم الإسراف، على عكس ما نراه اليوم من كثير من المسلمين، إذ يجعلون من هذا الشهر المبارك شهراً للخروج عن منهج الله في الاعتدال، وذلك في الإسراف في الطعام والشراب، والاستهلاك للحاجات الضرورية وغير الضرورية، ومما لا شك فيه أن زيادة الاستهلاك تعني: مجاوزة الحد المباح إلى المحظور، الذي حرمه الإسلام قال تعالى: {والَّذِينَ إذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا ولَمْ يَقْتُرُوا وكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)} الفرقان 67، أي حداً وسطاً، ويقول سبحانه: {وكُلُوا واشْرَبُوا ولا تُسْرِفُوا إنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ (31)}الأعراف 31، وعلى هذا سارت السنة النبوية المطهرة، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "كلوا واشربوا وتصدقوا ما لم يخالطه إسراف أو مخيلة" رواه البخاري وابن ماجه والنسائي.  ، فالزيادة في استهلاك المواد الغذائية وغيرها في شهر رمضان تعد من الإسراف المنهي عنه، وهي أسوء استخدام للنعم التي أنعم الله بها على العباد، ليحسنوا الانتفاع بها، وهي من العادات السيئة الدخيلة على المسلمين، في شهر رمضان المبارك، حيث نرى أن أكثر الأسر الإسلامية يزداد استهلاكها لهذه المواد، فتصرف عليها ضعف ما تصرفه في الأشهر الأخرى، وربما زاد، فيكون هذا الشهر لديهم نوماً وكسلاً وطعاماً وشراباً واستهلاكاً، ولو بحثنا عن سبب زيادة الاستهلاك في رمضان، وما الذي يدفع المسلمين إلى هذا الإسراف البيّن في المطعم والمشرب والملبس لرأينا أن السبب الرئيس في هذا هو: 

أولا: ضعف الإيمان، والبعد عن المنهج، وتهافت الوازع الديني عند بعض الناس، مع توفر المال، وقلة التدبير والتعقل، فالمال بيد ضعيف الإيمان، البعيد عن منهج الله، أصل كل الشرور والفساد، يغري المرء بالفسق والفجور، لأنه يمكنه من كل ما تميل إليه نفسه الأمارة بالسوء، فينغمس فيما تشتهيه، ويتعود الترف والإسراف، وتسيطر عليه الشهوة والأثرة، فلا تطيق نفسه جهاداً ولا عبادة، ولا صبراً على مشتهياتها. 

ثانياً: التقليد الأعمى لدى بعض ضعاف الإيمان، الذين ينظرون إلى غيرهم، ممن غرقوا في مهاوي الترف، والسرف والرفاهية، وتناسوا سر المنهج الإلهي واستعاضوا القشرة باللبّ، وأوضحت العادات عندهم مقدمة على العبادات، وأصبحت العبادات عندهم طقوساً ومظاهر جوفاء، فينقلب شهر رمضان لديهم من شهر عبادة، وجهاد، وتلاوة للقرآن، وصلاة، وقيام، وبر، وتراحم، وإيثار، وصدقات، إلى شهر أكل، وشرب، وسهر وأنس، ومتاع، ولباس ونعيم، وشهوات. 

ثالثاً: التأثر بالإعلانات التجارية، التي تمارس دوراً كبيراً في خداع الناس ودفعهم إلى المزيد من الشراء لأشياء كثيرة فائضة عن حاجاتهم الأساسية، وهذا هو الإسراف المنهي عنه بعينه، والإعلانات اليوم، تمارس دوراً كبيراً في التلاعب بعواطف الناس، وتنمّي لديهم حبّ الظهور والتميّز والزهو، وما إلى ذلك من خلجات النفس، التي تسعى الإعلانات لإثارتها وتكون هذه النفس مهيأة للوقوع في هذا الفخ، نتيجة بعدها عن المهج الرباني في استخدام المال، وعدم الإسراف فيه، فتقع الأسرة في هذه الدائرة الاستهلاكية، فتضغط الزوجة لشراء المزيد، لتباهي أترابها وجيرانها، ويلح الأولاد في مطالبهم، مسايرة لرفاقهم، ويقع رب الأسرة نفسه في هذا الوهدة إرضاءً لحاجات نفسه الشرهة للشراء من جهة ولحاجات أسرته التي تلح من جهة ثانية. 

ولا يمكن في حال من الأحوال أن يكون شهر رمضان بهذا الشكل البعيد عن منهج الله في الصيام، ولا يمكن في حال من الأحوال أن تكون هذه صورته وحقيقته، فحقيقة شهر الصيام: تكمن في كبح النفس عن شهواتها وترويضها على الاعتدال، وأخذها بالشدة لامتثال أوامر الشرع القاضية بالتوازن، وعدم الإسراف في الإنفاق، وترشيد الاستهلاك وخفضه. 

وسأقف عند صورة واحدة من صور تخفيض الاستهلاك، وترشيده في شهر رمضان، لنرى نتائجها الإيجابية على الأمة، هذه الصورة هي اختصار وجبات الطعام اليومية من ثلاث وجبات إلى وجبتين اثنتين، وهذه فرصة طيبة لخفض مستوى الاستهلاك، ورفع مستوى الاقتصاد في الأسرة وفي الأمة. 

تصور أن مدينة ، يقطنها أكثر من مليوني نسمة، إذا استطاعت أن توفر ثمن وجبة واحدة للفرد في كل اليوم، ولنقل مثلاً: إن ثمن الوجبة الواحدة للفرد المتوسط ، مئة ليرة، فنكون قد وفرنا في اليوم الواحد (100×2مليون=200مليون)، فإذا ضربنا هذا العدد بثلاثين عدد أيام شهر رمضان (200×30=600مليون)، وتصور معي، كم يبلغ الرقم إذا ضربناه بعدد سكان سوريا مثلاً، ثم بعدد سكان العالم الإسلامي؟.. إن هذه المبالغ الهائلة، إذا استطاع المسلمون توفيرها لنهضوا باقتصاد بلادهم المتدني في أكثر بلدان العالم الإسلامي، أو لصرفها لإعداد العدة لمواجهة أعدائهم، ولأمكنهم استخدام هذه المبالغ الطائلة في دعم مواقفهم المقاومة للاستعمار والظلم بكل أشكاله. 

هذه صورة واحدة من صور ترشيد الاستهلاك والإنفاق في شهر رمضان، فإذا أضفنا إليها المبالغ الهائلة التي تصرف في أمور يمكن الاستغناء عنها، ولا ضرورة لها كالإنفاق المتزايد في المأكل والمشرب والملبس، لتوسع وعاء هذا الفائض الممكن الاستفادة منه في رفع مستوى المعيشة في البلدان الإسلامية، ولكن بشرط أن يرتبط بالمنهج الإلهي القائم على عدم الإسراف والبعد عن التقتير، قال الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُوا واشْرَبُوا ولا تُسْرِفُوا إنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ (31)} الأعراف31. 

فهل تتنبه الأمة؟.. وتسلك طريق القصد والوسطية وتجعل من شهر رمضان فرصة ومجالاً لامتلاك الإرادة القوية، التي تمكنها من الوقوف في وجه العادات السيئة في الإسراف المؤدي إلى مزيد من النهم والشراهة للأطعمة والأشربة، وتحقق في الوقت ذاته منهج الله تعالى في شهر الصيام، هذا المنهج القائم على الاعتدال والوسطية في الإنفاق، المتمثل بقوله تعالى: {ولا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِكَ ولا تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا (29)}الإسراء 29، كما تتحقق في الوقت نفسه الهدف المنشود لإصلاح اقتصادنا ورفاهية أمتنا انظر الإسلام والتوازن الاقتصادي بين الإفراد والدول د: محمد شوقي الفخري ص 21-22 المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية العدد 46 القاهرة 1999، والمال في الشريعة الإسلامية د:أحمد يوسف ص21.  

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين