الإسلام دين الحجة والبرهان

 

الإسلام دين الحجَّة والبرهان، دين الأمن والسلام، دين التعاون والتَّآخي، ودين التعمير والبناء، وهو لا يَعدل عن الحُجَّة ما وجد منها سبيلاً إلى هدفه، وهو إقرار الحق في نصابه، وتمتع الناس بحريتهم الطبيعيَّة، وثمار العدل والمساواة، فإذا ما التوت بالعقول السبل، واختلس الإنسان من سكان الكهوف والمغاور أخلاقهم وطيشهم، فعيث بالحياة، وأراق الدماء، وسخَّر الضعفاء، وتحكم بجبروته في الحقوق، وانقضَّ على الهادئين فزلزل عليهم أمنهم، وعلى المالكين فاغتصب حقوقهم، وانتزع منهم أوطانهم وفتنهم في دينهم ودنياهم.

فهنا، وهنا فقط حفظاً لعرض الإنسانية من أن يثلم، ولحكمة الله تعالى في خلق الإنسان أن تذهب، لا يجد بداً من ارتكاب الصَّعب وهو خوض معامع الحرب والقتال، فيأذن بها لأهله حتى يردَّ أهل البغي والعناد، وليحترموا حقوق الإنسانية المكرَّمة: [وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ] {البقرة:251}.

الإسلام دين الواقع:

وما كان للإسلام وهو دين عملي واقعي أن يتجاهل سنة الاجتماع البشري التي كثيراً ما يندفع بها الناس إلى التنازع وارتكاب المظالم والتنكُّر للحق، والاعتداء على الحريات: [كَلَّا إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى] {العلق:6-7}، على هذا اعترف الإسلام بالحرب واتخذها حيث لا تنفع الحجَّة والبرهان وسيلة عملية لمكافحة البغي، ورد العدوان، وإزالة العقبات، والقضاء على المفاسد والطغيان: [فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ المُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا] {النساء:84}. [فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا] {النساء:91}.

اعترف الإسلام بالحرب في تلك الدائرة وجعلها ذِروة سَنامه، وأفرغ عليها صبغة الجهاد في سبيل الله، يقيم بها العدل والميزان ويُمهِّد بها سبل الحياة الطيبة السعيدة، وحينما يصل المسلمون بالحرب إلى هذه الغاية أوجب أن تضع أوزارها، وأوجب الكفَّ عنها: [فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ] {البقرة:193}. [فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا] {النساء:90}.

وهو إذ يقرِّرُها ويدعو إليها وسيلة لإقامة العدل والميزان، يحوطها بالتشريع الذي من شأنه أن يحقق هدفها، وهو إخضاع قوى الشر والفساد، والذي من شأنه في الوقت نفسه أن يخفف من ويلاتها، ويضمِّد من جراحها، ولا يترك أهله يفتحون بابها على الناس: أبواب الجحيم من كل جانب، لا يترك لهم أن يبقروا فيها بطون الحبالى، ولا أن يُمَثِّلوا بجثث الشيوخ والرضَّع.

هذا الجحيم الذي نرى دعاة الحضارة والمدنية يدقون ناقوسه بسبب ولغير سبب، ويوقدون نارَه في جميع الآفاق، فلا تلبث أن تَلتهم المشرق والمغرب، ويصيرُ الناس فيها كمثل قوم في سفينة، أخذتها الأعاصير من كل جَانب، واضطربت بهم في بحر لُجِّيٍّ، يغشاه موجٌ من فوقه موج، من فوقه سَحَاب، ظُلمات بعضها فوق بعض، يكاد اليمُّ يبتلعها بمن فيها. 

أو كمثل قَوم حُوصروا بالنار ذات الوقود في بيت مُغلق النوافذ، وقد تقطَّعت بهم أسباب النجاة، فجمدوا في أماكنهم، شاخصة أبصارهم، يشهدون التهامَ النار متاعهم ونفائسهم وأموالهم وأبناءهم وأنفسهم ثم لا يستطيعون أن يحرِّكوا ساكناً، أو يلتمسوا طريقاً للخلاص من هول ما هم فيه سوى العَويل والصياح، والاستغاثة من الخطر الذي دهمهم، وحلَّ بهم وبدارهم إلى أن تخمدَ أنفاسهم ويصيروا جثثاً هامدة تحت أنقاض البيوت وعروش العمائر!

حرب المدنية:

هذه هي مَدنيَّة القرن العشرين: مدنيَّة العلم الذي أنعم الله تعالى به على الإنسان ليسعد به الإنسانيَّة فأشقاها، ويحييها فأماتها، هذا هو حربها وهذا هو سلامها الذي يتغنى به الخرَّاصون الأفَّاكون، والذي نسجوا من اسمه أحبولة يَكيدون بها للسلام الحق بها، يفسدون حِكْمة الله تعالى في خلق الإنسان، هذا هو السلام الذي يحتفل الأفَّاكون بعيده كل عام، ويزعمون أنَّهم يَنتسبون إلى رسوله صلى الله عليه وسلم الذي جاء عنه قوله تعالى: [قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آَتَانِيَ الكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا(30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا(31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا(32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا(33)]. {مريم}. 

عناصر الانتصار:

أقَرَّ الإسلامُ الحرب طريقاً للسلم، وتحقيقاً لهذا الهدف السامي أرشد القرآن الكريم إلى عناصر النصر الذي يردُّ العدوان، ويكافح الظلم والطغيان، أرشد إلى القوة الماديَّة، وإلى جملة من أصول التنظيم لعمليَّة الحرب، وأرشد إلى الروح المعنويَّة الذي به تعمل الحرب عملها وتصل إلى أهدافها.

القوة الماديَّة:

أرشد إلى القوة المادية ونزلت فيها آية محكمة: [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ] {الأنفال:60}. والقوة كلمة تتسع لكل ما عُرف ويعرف من آلات الحرب بريَّة وبحريَّة وجويَّة، والرباط كلمة تتسع لكل ما عُرف ويعرف في تحصين الثغور، ومداخل الأعداء وقوى الدفاع الظاهرة والكامنة، ويعلن في الآية أنَّ فائدة هذا الإعداد العام الشامل ليست هي النصر في المواقع الحربيَّة فقط، وإنما هي قبل ذلك وسيلة قوية لإقرار الحق ومنع الأعداء من التفكير من زلزلته والطغيان عليه: [تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ] {الأنفال:60}. ومن هذا الجانب تكون القوَّة المادية عاملاً من عوامل السلم، تحفظ الحقوق وتقيها شر الاعتداء وينشر على العالم ظلال الأمن والاستقرار.

وكما يرشد القرآن إلى القوَّة الماديَّة من جهة العدد والآلات، يرشد أيضاً في دائرة القوة الماديَّة أن تكون الأمَّة كلها جنداً مُدرَّباً على السلاح، مُدافعاً عن الحوزة ولا يستثني القرآن من ذلك سوى أرباب الأعذار التي تحول بينهم وبين القيام بهذا الواجب، وفي ذلك يقول: [لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى المَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا للهِ وَرَسُولِهِ...] {التوبة:91}، ولكن المسلمين فيما انتابهم من عصور الضعف والانحلال تحلَّلوا من هذا الواجب، وعوَّلوا على حماية غيرهم لهم فوجدوا فيهم لقمةً سهلة لَيِّنة، فمضغوها وهضموها وكانت أثراً بعد عين.

أهملوا الجنديَّة وجعلوها صورة هزليَّة، ومظهراً من مظاهر السلطان الفاسد، ولوناً من ألوان الخدمة لكبار الدولة المأجورين، فقصروها على الفقراء الذين لا يستطيعون دفع البدل النقدي، وأخرجوا من صفوف المجاهدين حملة القرآن والعلم وأبناء الأغنياء والوزراء وأرباب الوظائف الإدارية، وبذلك صارت الجنديَّة في أذهاننا وفي أوضاعنا عنوان الذِّلَّة والضَّعَة.

وإني لأحمد الله تعالى الذي هيَّأ لهذه الأمَّة من وضع الجنديَّة في مكانتها، ورفع من شأنها، وأحمده مرَّة أخرى إذ تلقَّت الأمَّة هذا الوضع الجديد بإيمان قوي، وصدر ممتلئ بمعنى العِزَّة والكرامة، وستسير أمتنا في طريق المجد إن شاء الله بعد هذه اليقظة الواعية، مُستلهمة أحكام الله وشرعه، وبه يكون النصر المؤزر، والكلمة العالية.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة الأزهر، جمادى الآخرة 1382 - العدد 218).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين