رحمةُ الرسول صلى الله عليه وسلم في قِيادة الأمَّة

 

جعلَ اللهُ تعالى رسالةَ محمَّد صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين فقال جلَّ شأنه: [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] {الأنبياء:107}.

وجعل الله تعالى رسولَه محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة في ذاته أهداها إلى عباده فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا رحمةٌ مُهْداة)، وكانت رسالته صلى الله عليه وسلم رحمة لمن آمن به ورحمة لمن لم يؤمن به، فعن سعيد بنِ جُبير رضي الله عنه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (من تَبِعه كان له رحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يتبعه عُوفي مما كان يُبتلى به سائر الأمم من الخسف والمسخ والقذف) [رواه الطبراني في الكبير. وقال الهيثمي في المجمع: فيه أيوب بن سويد وهو ضعيف جدا وقد وثَّقه ابن حبان بشروط فيمن يروي عنه، وقال: إنَّه كثير الخطأ، والمسعودي قد اختلط].

ولم تكن رحمتُه صلى الله عليه وسلم قاصرة على المؤمنين به، وإنما كانت رحمته شاملة لكل البشر حتى إنَّه كان يحزن أشدَّ الحزن على الذين لم يهتدوا إلى الحق الذي جاء به ولم يؤمنوا بما يتلو عليهم من آيات الله تعالى والحكمة، حتى قال له ربه مُشفقاً عليه: [فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَفًا] {الكهف:6}، وقال جلَّ شأنه: [لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ] {الشعراء:3}.

أي: لعلك قاتل نفسك حزناً على عدم إيمانهم وما عليك أن تكلف نفسك هذا العناء: [فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ] {فاطر:8} 

وهذه تسلية من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم في عدم إيمان من لم يؤمن به من الكافرين، وقد ساقَ الله سبحانه له من الآيات ما يخفف حزنه على هؤلاء المعرضين عن الحق المعاندين له، فأخبره الله تعالى أنَّه قادر على أن يسوقهم إلى الإيمان سَوْقاً ويرغمهم عليه فقال: [إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ] {الشعراء:4}. أي: لو نشاء لأنزلنا آية تضطرهم إلى الإيمان قهراً ولكنا لم نفعل لأنا لا نريد من أحد إلا الإيمان الاختياري: [وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ] {يونس:99}. 

وما كان أسف رسول الله صلى الله عليه وسلم وحزنه على من لم يؤمن برسالته إلا من منطلق الرحمة بهم والخوف عليهم من عذاب يوم القيامة، وهذه الرحمة أفاض بها الله تعالى قلب رسوله ومُصطفاه صلى الله عليه وسلم حتى جعله رحمة للعالمين.

ومن يتبع سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم يجد الرحمة سمة ظاهرة في حياته وتصرفاته كلها سواء أكانت هذه التصرفات على المستوى الفردي مع الضعفاء أو النساء أو الأطفال أو الأعراب الذين لا يَفْقهون إلا قليلاً، أم كانت على المستوى العام في قيادة الأمَّة وسياسة الدولة.

فرحمته مع الضعفاء تتجلى في حُبِّه مجالستهم والتحدث إليهم، حتى إنَّه صلى الله عليه وسلم لم يقبل من سادة قريش اقتراحهم بأن يجعل لهم يوماً وللضعفاء يوماً حتى يؤمنوا بدعوته، فقد أمره ربُّه أن يَصْبِرَ نفسه مع هؤلاء الضعفاء الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، فعن عبد الرحمن بن سهل بن حَنيف قال، نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بعض أبياته: [وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ] {الكهف:28}، فخرج يَلتمسهم فوجد قوماً يذكرون الله تعالى منهم ثائر الرأس، وجاف الجلد وذو الثوب الواحد، فلما رآهم جلس معهم وقال: (الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أصبر نفسي معهم) [رواه ابن ماجه وغيره]، ولقد أسعدهم بقوله: (اللهم أحييني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين).

للنساء والأطفال: 

أما رحمته صلى الله عليه وسلم بالنساء فكانت تتجلى في حسن مُعَاشرته لأزواجه ومساعدتهنَّ في شؤون البيت وما كان يشقُّ على إحداهنَّ بمطلب يجهدها أو يتعبها، وكان يوصي أتباعه بالنساء خيراً ويقول: (استوصوا بالنساء خيراً) ويعلمهم أنَّ خير الرجال من كان في بيته رحيماً خَيِّراً كريماً، فيقول: (ما أكرم النساء إلا كريم وما أهانهنَّ إلا لئيم) ويقول: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي).

ورحمته بالأطفال كانت موضع العجب من بعض من لا يعرف الرحمة ولا يتصوَّر أن تكون ملاطفة الصغير والحنو عليه إحدى مظاهر هذا الخلق الكريم، فقد روي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبَّل الحُسَين رضي الله عنه وهو طفل صغير، فقال الأقرع بن حابس: إنكم تقبِّلون أولادكم وإنَّ عندي عشرة من الأولاد ما قبَّلت منهم واحداً فقال له نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم: (من لا يَرحم لا يُرحم) وفي رواية أنَّه قال له: (وماذا أملك لك وقد نزع الله الرحمة من قلبك).

وكان يوصي أصحابَه إذا جاءهم سبي ألا يفرِّقوا بين الأمِّ وولدها، حتى لا يجمع عليها ألم السبي وألم فراق وليدها، وقد ركب الحسن رضي الله عنه فوق ظهره صلى الله عليه وسلم وهو ساجد فأطال السجود إلى أن نزل الصبي فلما سئل عن سبب إطالة سجوده قال: (ارتحلني ابني) وسمع بكاء طفل وهو في صلاة الفجر فخفَّف الصلاة فلما سأله أصحابه عن سبب ذلك قال: (سمعتُ بكاء طفل فخشيت على أمِّه أن تشغل به) أو كما قال.

ومع جُفاة الأعراب:

ورحمته بالأعراب الذين نادَوه من وراء الحجرات في ساعة القيلولة وصياحهم باسمه مجرداً مُنادين (يا محمد اخرج إلينا) فمع كراهته ذلك لم يُعنِّفْ أحداً منهم ولم يظهرْ الضيق لهم حتى نزل القرآن مُؤدِّباً لهم ولغيرهم ومُرشداً في مخاطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الله تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ(4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(5) ]. {الحجرات}، وكانوا وفداً من أعراب بني تميم من الذين لا يحسنون مخاطبة الناس لجفائهم وغلظ طباعهم.

وكان صلى الله عليه وسلم جالساً في المسجد مع أصحابه فجاء أعرابي إلى ناحية من المسجد وبال فيها، فلما همَّ الصحابة أن يمنعوه أمرهم الرسول الرحيم بتركه وقال: (لا تقطعوا عليه بولته)، فلما انتهى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذَنوب – دلو كبير – من ماء فصبَّه على مكان البول ثم علَّمه في رفق بالغ ورحمة حانية: (إنَّ هذه المساجد لا تصلح لشيء من ذلك) فأين هذا الرفق وهذه الرحمة من دعاةٍ غِلاظ القلوب والأقوال!

هذا جانب من رحمته صلى الله عليه وسلم مع الأفراد.

رحمة القائد:

أما رحمته صلى الله عليه وسلم في قيادة الأمة فحدث عنها – ولا حرج – بكل الفخر والإعزاز والتكريم والانبهار بخُلُق هذا النبي الذي أدَّبه ربُّه فأحسن تأديبه، والذي قال عنه ربُّه: [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] {القلم:4}، ففي كل موقف من المواقف العصيبة التي تَستدعي في نظر الناس استعمال العنف والقسوة والمؤاخذة نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج الموقف في رفق ورحمة بمن أخطأه الصواب، أو وقع في معصية المخالفة، أو كان من المعتدين، وأقدر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم عليه فرحمه وعفا عنه.

1 – أخطأ حاطب بن أبي بلتعة خطأ جسيماً يُعتبر خيانة للدولة في العرف السائد لدى نظم الحكم كلها، وذلك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عَزمَ على فتح مكة لما نقض أهلها العهد، فأمر المسلمين بالتجهُّز لغزوهم وقال: (اللهم عمِّ عليهم خبرنا) فعمد حاطب هذا فكتب كتاباً إلى أهل مكة يعلمهم بما عزم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعث الكتاب مع امرأة من قريش إلى أهل مكة، وأطلع الله تعالى على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث علي بن أبي طالب والزبير والمقداد في إثر هذه المرأة فأخذوا الكتاب منها وجاءوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا حاطب ما هذا ؟) قال: (لا تعجل عليّ إني كنت امرأ مُلصقاً في قريش ولم أكن من أنفسهم، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم بمكة، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ فيهم يداً يحمون بها قَرابتي، وما فعلتُ ذلك كفراً ولا ارتداداً عن ديني ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه صدقكم، فقال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّه قد شهد بدراً وما يدريك لعلَّ الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم).

وهكذا استوعبت رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الخط الخطير الذي يضرُّ أمن الدولة ويفشي سِرَّها عند الحرب من أجل مَصْلحة خاصة تتعلق بصاحب الكتاب وكان الجزاء العادل فيما أراد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يفعله، ولكن رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم فوق العدل تأسو الجراح وتعفو عن المذنبين.

موقف في أحد:

2 – وقع الرُّماة في غزوة أحد في معصية مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي من المعاصي التي أوعد الله أصحابها بالعذاب الأليم في قوله تعالى: [فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] {النور:63}. فقد انتخب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصيلة من الرماة الماهرين وأعطى قيادتها لعبد الله بن جبير بن النعمان الأنصاري الأوسي البدري، وأمرهم بالتمركز على جبل عُرِفَ فيما بعد بجبل الرماة، وأصدر إليهم أوامره في كلمات حاسمة فقال لقائدهم: (انضح الخيل عنا بالنبل، لا يأتونا من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك لا نؤتينَّ من قِبَلك) وقال للرماة: (احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نُقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا قد غَنمنا فلا تشركونا).

ومع هذه الأوامر الحاسمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم قائد المعركة فقد ترك الرماة مكانهم لما رأوا المسلمين انتصروا بادئ الأمر على المشركين وغلبت عليهم أثارة من حب الدنيا وقال بعضهم لبعض: الغنيمة الغنيمة، ظهر أصحابكم فما تنتظرون؟

وذكَّرهم قائدهم عبد الله بن جُبير رضي الله عنه بأوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يستجيبوا له ولم يبقَ معه سوى تسعة من أصحابه، وانتهز خالد بن الوليد رضي الله عنه وكان على فرسان المشركين هذه الفرصة السانحة فاستدار بسرعة خاطفة وأباد عبد الله بن جبير وأصحابه، ثم انقضَّ على المسلمين من خلفهم، وكان ما كان من تطويق جيش المسلمين وهزيمتهم في أُحُد.

ماذا يستحقُّ الذين خالفوا أمرَ رسولهم وقائدهم وكانوا السبب في هذه الهزيمة التي لم يكن يتوقعها المسلمون بعدما أراهم الله تعالى ما يحبون من النصر على أعدائهم؟ إنه لو شكلت لهم محكمة عسكرية تحاكمهم بتهمة الخيانة وتعطيهم جزاءهم عليها ما كان ذلك بعيداً عن العدل في شيء، ولكن الرسول الرحمة المهداة يعالج الموقف ويأسو الجراحَ ويلمُّ الشمل بالرفق واللين والرحمة بالمخالفين، ويسجِّل القرآنُ الكريم له هذا الموقف: [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ] {آل عمران:159}. فرحمته صلى الله عليه وسلم منحة من الله تعالى منحها إياه جعلته لَيِّن الجانب رحيمَ القلب بأصحابه وهو يَراهم قد استغرقهم الحزن والهمُّ على ما حدث منهم، ثم أمره الله تعالى أن يزيدهم قرباً منه وأن يعفو عنهم وأن يستغفر الله تعالى لهم إذ في الاستغفار لهم تأكيد للعفو عنهم وتشجيع لهم على الطاعة والاستجابة لأمره، وأن يشاورهم في أمر الحرب وغيره تطبيباً لنفوسهم، ورفعاً لأقدارهم، وشحذاً لهمتهم وتفكيرهم لتجتمع كلمتهم وتتوحَّد اتجاهاتهم في ذلك الخير وتحقيق المصالح لجماعة المسلمين.

يوم الرحمة:

3 – ولما توجَّه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه في جيش قوامه عشرة آلاف مقاتل لفتح مكة ووصلوا إلى مرِّ الظهران وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه العباس رضي الله عنه أن يحبس أبا سفيان رضي الله عنه بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها، ففعل.

وكانت راية الأنصار مع سعد بن عبادة فلما مرَّ بأبي سفيان قال له: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحلُّ الحرمة، اليوم أذلَّ الله قريشاً، فلما حاذى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان أخبره بما قاله سعد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل اليوم يوم تعظَّم فيه الكعبة، اليوم يوم أعزَّ الله فيه قُريشاً وسمي بذلك يوم الرحمة، ثم أرسل إلى سعد فنزع منه اللواء ودفعه إلى ابنه قيس، ورأى أنَّ اللواء لم يخرج عن سعد.

لقد تجلَّت رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في نزع اللواء من سعد الذي ظهر منه العزْم على القسوة والانتقام وعالج الأمر بمنتهى الحكمة إذ أعطى اللواء لابنه قيس حتى لا يكون في نفس سعدِ بن عبادة رضي الله عنه شيء من نزع اللواء منه، والموقف كله موقف حرب وقتال ليس غريباً أن يكون فيه العنف والقتل والإثخان، ولكن رحمة النبي صلى الله عليه وسلم الرحيم تظلل مواقف الحرب كما تظلل مواقف السلم، وتحاصر العنف وتجعله في أضيق الحدود.

4 – ويدخل جيش المسلمين مكة وجاء نصر الله والفتح، فماذا فعل القائد المنتصر بالمهزومين الذين آذَوه وعذَّبوا أصحابَه وأخرجوهم من ديارهم وأموالهم وأذاقوهم صنوف العذاب، ماذا فعل القائد المنتصر بالمهزومين وقد أمكنه الله تعالى منهم وأقدره عليهم، لو أنَّه انتصر لنفسه ولأصحابه لكان انتصاره منهم في موازين العدل عند الله تعالى والناس، ولكن الرحمة التي هي من فيض رحمة الله تعالى على نبيِّه تأبى إلا أن يعفو الرسول الكريم عن هؤلاء الذين آذوه وأخرجوه من بلده وتآمروا على قتله، ويقف فيهم خطيباً ويقول: (يا معشر قريش، إنَّ الله قد أذهب عنكم نخوةَ الجاهليَّة وتعظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب)، ثم تلا قولَ الله تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ] {الحجرات:13}.

ثم قال: (يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته: [قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ] {يوسف:92}. اذهبوا فأنتم الطلقاء).

وهكذا أسدلت الرحمة والعفو الستار على ما كان من القوم واطمأنَّت النفوس الخائفة وعرف المعاندون السابقون عظمة الإسلام وعظمة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومدى حبه للعفو عن المسيء، والرحمة عند المقدرة على من آذاه، وانتهت معركة فتح مكة نهاية سعيدة كريمة رحيمة لم تستطعْ معركة غيرها في دنيا الناس أن تسجِّل مثل هذه النهاية التي سجَّل سطورها النبي القائم: (إنَّما أنا رحمة مُهداة)

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة منبر الإسلام، السنة الحادية والخمسون، ربيع الآخر 1413 - العدد 4).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين