تهمة الإرجاء !!

 

إذا اتهموك بالإرجاء فاعلم أن هذا المصطلح قد عاد إلى الساحة الشامية مجدداً عودة فكر الأزمة !! وإن كان حضوره هذه المرة أقل منه في أزمة العراق سابقاً !

والحقيقة أن الأستاذ محمد قطب - رحمه الله - هو أول من أثاره في الفكر الإسلامي المعاصر, ليتلقفه منه تيار السلفية الجهادية (مرحلة التسعينيات تحديدًا) والتيار السروري .. 

وكان من نتاج ذلك كتاب (ظاهرة الإرجاء) للشيخ  سفر الحوالي, ليصبح أشهر مرجع في بابه .

 لكن عند قراءتي للكتاب المذكور وجدته حين يتكلم عما يسمى ( إرجاء الفقهاء - الأحناف !! ) كانت مراجعه الأساسية إما مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية (وهو طرف) وإما من كتب الملل والنحل (وهي محايدة على أقل تقدير) ولم يرجع إلى كتب الحنفية مطلقا رغم أن كتابه بالأصل اطروحة جامعية !!

وأثناء بحثي عن شرح حديث (من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا , فهو المسلم , له ذمة الله وذمة رسوله , فلا تخفروا الله في ذمته ) وجدت شراح البخاري من الحنفية هم أكثر من تناوله بالتفصيل على خلاف غيرهم ممن شغلهم حكم الذبائح فقهياً !

 

فمثلاً الإمام بدر الدين العيني, رحمه الله, في كتابه (عمدة القاري) أطال النفس في الكلام عن الإيمان وأقسامه وتصنيفاته ..

لكن ما استفدت منه كثيراً هو كتاب (فيض الباري) – القيم جدااا - لأنور شاه الكشميري (وللأسف نحن العرب مقصرون تجاه التراث الإسلامي في القارة الهندية !!)

حيث يتكلم بتوسع كبير وبوضوح جميل عن المسألة , لتظهر القضية كما يلي :

?+ ? : الخوارج والمعتزلة = العمل عندهما ركن من الإيمان, مع الخلاف بينهما في الحكم على تاركه ..

? : المرجئة (الخُلّص) = الإيمان عندهم هو التصديق فقط , فلا يدخل العمل فيه .

? : أهل السنة ( الحنفية ) = الإيمان هو التصديق , والعمل ثمرة منه , كونه شرط كمال لا شرط صحة ..

? : أهل السنة ( السلف) = الإيمان تصديق وقول وعمل ..

 

وكنت سابقاً حين أبحث في هذه المسألة , أتعجب من جرأة الحنفية , كيف يكون لهم قول طالما أن للسلف قولا فيها !

لكن عند التحقيق تبين لي أن كلاً منهما ينظر للموضوع من زاوية محددة , كحال من أراد أن يصف نسراً مثلاً , فيتناول كل شخص الكلام عما يشغل باله , كالحديث عن المخلب القوي أو الجناح الكبير أو البصر الحاد ....

وبالتالي ( فالحنفية ) لم يقصدوا تقليل شأن العمل , فإمامهم الأعظم كان أكثر من فرّع الفقه واهتم به !

لذا حين قالوا ذلك , كان هذا ردًا على ( الخوارج ) الذين يكفرون تارك العمل ..

في المقابل نجد أن ( السلف ) لم يجعلوا العمل جزءا من الإيمان , كركنية الركوع في الصلاة مثلا , بحيث تبطل بانعدامه , وإلا لأصبح قولهم لا يختلف البتة عن مقالة ( الخوارج ) !!

فيكون ، والحال هكذا , كلامهم منصباً على تأكيد أهمية العمل رداً على ( المرجئة الخُلص ) ..

لنصل في النهاية إلى أن الخلاف لفظي بينهما , كما يقول الإمام الكشميري ..

 

والحنفية يستشهدون بكلام أحد السلف حين شرح المسألة بقوله :  الإيمان هو التصديق والإقرار والعمل .

فالمخل بالأول فقط : ( منافق ) ، والمخل بالثاني فقط : ( كافر ) ، والمخل بالثالث فقط : ( فاسق ) لكنه يدخل الجنة وينجو من النار .

ويجيبون على سؤال قد يطرح : 

كيف يتم التوفيق بين دخول العمل في تعريف الإيمان , وحكمه حين لا يضر خروج العمل منه ؟

فيقولون : إن الكلام هذا منصب على كمال الإيمان .

ثم يوردون مثالا توضيحيا : أن النخلة لو أزلنا منها الأوراق, قد تمسخ لكنها لا تفقد ماهيتها وتظل نخلة . 

 

تبقى هناك نقطة مهمة , وهي كيفية الجمع بين حديث جبريل الشهير الذي ميز بين الإسلام والإيمان , وبين حديث وفد / عبد قيس / الذي لم يميز بينهما ..

وجدت أن من أفضل من بحث في هذه النقطة المهمة هو الإمام ابن رجب الحنبلي وذلك في كتابه ( جامع العلوم والحكم ) حيث يرى أنه إذا أفرد كل من الإسلام والإيمان بالذكر فلا فرق بينهما حينئذ , وإذا قرن بينهما يكون الفرق  .. 

 

وأثناء نقاشي مع أحد الأخوة من طلبة العلم  , رأينا أن حديث جبريل هو العمدة في الباب , كونه جاء في آخره ( .. يعلمكم أمر دينكم ) أما بقية الأحاديث كحديث وفد / عبد قيس / وغيره , فهي جاءت في معرض سؤال أناس معينين , ومن عادة النبي, عليه الصلاة والسلام, في الكثير من الأمور أنه يجيب حسب وضع السائل بما يناسبه ..

 

هناك تفاصيل أخرى , لكن أظن أن هذا يكفي هنا , ومن أراد التوسع في معرفة المزيد من الأدلة الشرعية , فليراجع البحث المهم للشيخ صلاح الأدلبي : ( " نواقض الإيمان " في ضوء الكتاب والسنة ) .

 

هذا ما بدا لي , والله تعالى أعلى وأعلم .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين