التجديد في الدعوة الإسلامية يبتدئ من المفاهيم-1-

 

جاءت رسالة الإسلام وهي تحمل معاني ومدلولات تحدِّد نظرة الإنسان إلى الحياة، كما تحدد سلوكه فيها، إنْ في صلته بخالقه سبحانه، وإنْ في أسرته، وإن في صلاته بغيره في المجتمع.

وكانت هذه المعاني والمدلولات كذلك مصدر الدفع في الحياة، ومصدر الحركة فيها. وقد تمثَّلها الإنسان المسلم في نفسه وقت الرسالة، وما بعد الرسالة بقليل، بعد أن وعاها في وضوح، وقبل أن يطرأ عليها أي أثر من آثار الانحراف في فهمها وتحديدها.

وعندما اتخذت هذه المعاني والمدلولات في وضوحها وفي حسن وعيها قاعدة للسلوك ولتحديد النظرة في الحياة، كان الأفراد المسلمون أفراداً أقوياء في بنائهم وفي سلامة توجيههم وفي دفعهم للحياة، وكان المجتمع الإسلامي تبعاً لذلك مجتمعاً قوياً مُتماسكاً مُتآزراً، وكانت أهدافه في الحياة هي تلك الأهداف التي توحي بها تلك المعاني والمدلولات في وضوح وعيها وضبطها، ولا تخرج هذه الأهداف عن كونها تحديداً لإطار المستوى الإنساني الذي يجب أن يرتفع إليه الأفراد إذا ما انخفض سلوكهم عنه، وابتعد توجههم عن محيطه، والذي يجب أن يظلوا فيه إذا ما وصلوا إليه.

ولكن لوحظ بعدئذ أنَّ هذه المعاني والمدلولات ابتدأت تُفارق وضعها الأول شيئاً فشيئاً، وأخذت تبعاً لذلك تصوِّر نظرة أخرى في الحياة كما تحدِّد منهجاً في السلوك مختلفاً عن ذلك المنهج الذي كانت تدعو إليه يوم أن كانت عند وضعها الأول وفي تحديدها على عهد الرسالة وما بعدها إلى أن طرأ عليها هذا التغيير والتبديل.

وربما كان ابتعادها عن وضعها الأول قد تأثَّر بهدف آخر يختلف عن هدف الرسالة التي جاءت مُتضمِّنة إياها ومحددة لها للتطبيق العملي في الحياة، وبعبارة أخرى ربما كان التخلي عن الهدف الحقيقي للرسالة وهو الارتفاع إلى مستوى الإنسانيَّة لذات الإنسانية والاحتفاظ بهذا المستوى عند الوصول إليه، هو السبب في تحويل تلك المعاني والمدلولات وتغييرها عن وضعها الأول الذي كان لها.

ولكي لا نبقى طويلاً في الجو النظري البحت لتوضيح هذه المعاني والمدلولات وتغيرها عن وضعها الأول يجب أن نشير إلى بعض منها، كما يجب أن نذكر التغير الذي طرأ عليها تبعاً لتغير الهدف والغاية في الحياة.

ويستحسن أن نصل إلى ذلك عن طريق توضيح الصلة بين هدف الرسالة الإسلامية عندما نزلت وحياً وقرآناً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المعاني والمدلولات التي تضمنتها هذه الرسالة في ذلك الوقت، كي يمكن أن نسير في يسر إلى الارتباط الذي أشرنا إليه وهو: أن تغيير الهدف ترتب عليه بالتالي تغيير الوضع الأول للمعاني والمدلولات، فالرسالة الإسلامية كما ذكرنا مجملاً تخطط في حقيقة أمرها المستوى الإنساني الرفيع الذي يجب أن يصل إليه الفرد الذي يؤمن بالإسلام، ثم بعد ذلك يجب عليه أن يحتفظ به طول حياته ما دام مؤمناً بالإسلام وبقيمه، ويكوِّن هذا التخطيط معاني ومدلولات هي في ذاتها وصايا في صورة مؤكدة يترجمها الإنسان المسلم إلى فعل أو إلى ترك. وما يجب أن يفعله هو بعينه وما يجب أن يترك ضده، وعلى ذلك فالمتروكات والنواهي هي أضداد للأوامر التي يجب أن تؤدى بالفعل أو القول.

وفي اختصار: هذه المعاني والمدلولات هي التي يسميها الأخلاقيون: (فضائل) يجب على الإنسان أن يتدرَّب عليها حتى تصير من عاداته، وتكون له بذلك طبيعة ثانية.

ويمكن أن يقال أيضاً إن تكوينها عند الإنسان هي صورة التهذيب التي يجب أن يكون عليها الإنسان المهذَّب، وصورة الخلق الكريم الذي يجب أن يتخلَّق به الإنسان صاحب الخلق، وصورة التربية التي يجب أن يكون عليها الإنسان الذي قد تعدَّته التربية ليصبح ذا تكوين إنساني.

1 – الإحسان:

فإذا جاءت الرسالة الإسلاميَّة بالإحسان وبالحثِّ عليه حتى يكون الإنسان ذا إحسان فالمقصود منه هو كل ما يكسب الإنسان حسناً، أو كل ما يؤدي بالإنسان إلى أن يكون ذا إنسانية، فالإنسانية في حقيقة أمرها هي حسن في كل جانب من جوانبها، وصاحبها محسن وما يصدر عنها إحسان. 

والآيات الكريمة التي جاءت في هذا المعنى تدلنا على ذلك دلالة واضحة، يقول القرآن الكريم: [إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا] {الكهف:30}. فالإحسان الذي تتحدَّث عنه هذه الآية وتَعِدُ بأنَّ الله تعالى لا يضيع أجره هو ذلك الذي يتمثَّل في صدر الآية من الإيمان والعمل الصالح.

ولا شك أنَّ الإيمان صورة رفيعة للبشرية، وأنَّ العمل الصالح أيضاً - وهو ذلك العمل الذي يترتَّب عليه آثاره في تهذيب النفس وفي قوة ربطها بالآخرين – صورة رفيعة للبشريَّة ولا يصل إلى هذه الصورة إلا ذلك الإنسان الذي قد سعى ليكون إنساناً ويصل إلى مستوى الإنسانيَّة، ويبتعد بذلك عن أن ينحطَّ إلى ما دونه، وتحمل في هذا السعي دفع الأنانيَّة وإبعاد مؤثرات الهوى والشهوة ومؤثرات الإغراء الداخليَّة والخارجيَّة على السواء، التي من شأنها أن تحول بينه وبين أن يكون كائناً ذا مستوى بشري رفيع.

ويوضح هذا المعنى قول الله تعالى: [وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ] {القصص:77}. فما أحسن به الله تعالى إلى الإنسان هو أولاً خلقه الذي تحدَّث عنه في آية أخرى في قوله جلَّ شأنه: [وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ] {غافر:64}. ثم ثانياً هدايته التي تكتمل بالإيمان بالله سبحانه وعبادته على نحو ما يحكم الحديث الشريف عندما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أن تعبد الله كأنك تراه) مجيباً على سؤال من سأل عن الإحسان.

فالإحسان في أول مدلول له وأول معنى جاءت به الرسالة الإسلامية هو الصورة الإنسانيَّة الفاضلة المهذَّبة التي لا يصدر عنها في الفعل والقول إلا ما يعبر عنها.

كما تشير إلى ذلك الآيات الكريمة في قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِي القَتْلَى الحُرُّ بِالحُرِّ وَالعَبْدُ بِالعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ] {البقرة:178}. وقوله: [فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ] {البقرة:229}. وقوله: [وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا] {النساء:86}. وقوله: [وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا] {البقرة:83}. وقوله: [وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] {الإسراء:53}. وقوله: [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] {النحل:125}.

فهذه الآيات تناولت الجوانب المختلفة للصورة الإنسانيَّة الكريمة، وهي تلك الصورة التي تجعل صاحبها محسناً، وتجعل ما يصدر عنه إحساناً من فعل وتصرف، أو قول وحديث، أو دعوة ومجاورة.

والآيات الأخرى التي يطلب فيها القرآن الكريم من الإنسان أن يكون محسناً تعطي فقط ما لمدلول الإحسان من وضع أراده الإسلام إرادة أولية، وهو ذلك الوضع الإنساني الرفيع، فإذا قال: [وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ] {البقرة:195}. وقال أيضاً: [وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا] {الأحقاف:15}. لم يزد عن طلب أن يكون ذا إنسانية في معاملته وسلوكه، وإذا قال أيضاً: [وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى] {لقمان:22}. وقال: [إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ] {يوسف:90}. وقال: [وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ] {العنكبوت:69}. 

إذا قال ذلك فإنه يبغي فحسب، ذلك الخلق وهو التقوى والصبر والجهاد في سبيل المثل العليا والقيم الإنسانية، هو خلق الإنسان الذي وصل إلى المستوى الرفيع في الإنسانية ويحدده معنى الإحسان.

وهكذا في كل ما ذكره القرآن الكريم خاصاً بالحسن، وما اشتقَّ منه من إحسان ومحسنين لم يرد به أكثر مما ذكرنا، وهو ذلك المستوى البشري المهذَّب الذي يترتب عليه استقرار النفس وقوة الصلة بين الإنسان والإنسان.

فإذا مال الإحسان بعد ذلك إلى معنى آخر هو البذل المادي، وإلى ما يقربه من معنى الصدقة – فذلك الميل جاء نتيجة لتحول المجتمع وتحول أهدافه من السعي في سبيل المثل والقيم الإنسانية والحرص على الوصول إلى المستوى الإنسانيَّة، ثم البقاء فيه إلى التركيز على لقمة العيش وإلى قصر السعي على تحصيله وحدَه، وبمعنى آخر جاء نتيجة لتحويل الهدف من أن يكون هدفاً مثالياً رفيعاً، إلى هدف مادي آخر، ولم يتحمَّل المجتمع الإسلامي إلى هذا الهدف المادي وَحْدَه إلا عندما ضعف وبعدت الشقة في حياته بين إدراك القيم الإنسانيَّة على حقيقتها والتعبئة عن طريق الإيمان للوصول إلى تحقيقها.

والإحسان في تحوُّله من معنى المستوى الإنسان الرفيع إلى تحصيل ما يُساعد عن المعيشة الماديَّة يصوِّر تطور المجتمع الإسلامي نفسه من المجتمع المثالي صاحب القوة في الإيمان وصاحب القوة في التماسك وفي التعاون والترابط، وصاحب الدفعة القوية في تحقيق الأهداف والمثل إلى مجتمع آخر يبتعد كثيراً عنه سواء في صلات أفراده بعضهم ببعض، أو في تحديد أهدافه في الحياة. 

وإذا كان تحول المجتمع قد أوحى بتغيير المعنى والمدلول للإحسان، فمن جهة ثانية هذا التغير في المعنى والمدلول – كما ذكرنا – تعبير عن تحول المجتمع نفسه، وتاريخ المسلمين تبعاً لذلك يصور نوعين من المجتمعات البشريَّة:

أحدهما ينشد السمو والرفعة والتفاني في سبيلهما، والآخر ينشد الكفاف وينشد البقاء للمحافظة على الذوات من أن يصيبها الفناء، بسبب الفقر أو الجوع والإحسان في تطوره من مدلول إلى مدلول يشير لهذا التحول من مجتمع إلى مجتمع.

2 – الصبر:

وكذلك لو انتقلنا إلى مفهوم الصبر نجده في ذاته كان له مدلول عند قيام المجتمع الإسلامي الأول، ثم لما تحول هذا المجتمع إلى مجتمع آخر أخذ الصبر مدلولاً ومعنى آخر متلائماً مع الوضع الطارئ لهذا المجتمع الآخر.

فالصبر في أول الرسالة الإسلامية كان الصورة العمليَّة للإيمان القوي، على معنى أن قوة الإيمان كانت تتشبث بالإنسان بحيث لا يفارقها ولا تفارقه، وبالتالي يتحمل في سبيل الإيمان كل أذى مادي ونفسي، لأنه طالما كان تعبيراً عملياً عن قوة الإيمان، فلا سبيل إلى الجزع والهلع، ولا سبيل إلى النكوص.

وعندما يقول الله تعالى للرسول عليه الصلاة والسلام: [فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ] {الأحقاف:35} يريد جلَّ شأنه أن يوصي رسوله بالاحتمال في سبيل الإيمان وفي سبيل الدعوة إليه، ولم يكن هذا الاحتمال بسبب فقر اليد أو بسبب أزمة نفسية تعود إلى خيبة الأمل في تحقيق رغبة شخصية ماديَّة، وإنما كان أولاً وأخيراً احتمالاً نفسياً في سبيل الدعوة وفي مُواجهة العقبات التي يقيمها خصومها، كي يكون هذا الاحتمال أخيراً قنطرة توصل إلى الهدف وهو نجاح الدعوة، أو بعبارة أخرى ترجمة الإيمان بها إلى نتائج عمليَّة في إقامة المجتمع الجديد الذي أرادته الرسالة السماويَّة.

ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى: [فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] {آل عمران:146}، فهذه الآية الثانية تشير إشارة لا لبس فيها إلى أنَّ الصبر في وضعه الأول ومدلوله الأول كان الاحتمال في سبيل الإيمان وفي سبيل الدعوة إلى رسالة الله تعالى، احتمالاً نفسياً قبل أن يكون احتمالاً مادياً وعلى وجه الخصوص احتمالاً بسبب فقر اليد والجوع.

وهكذا لو مررنا على الآيات القرآنية الذي ذكرت في الصبر نجد المدلول الذي أشرنا إليه والذي جعلناه مدلولاً أولياً لمفهوم الصبر هو ذلك المدلول الذي تقصده الآيات القرآنية الأخرى فإذا قال الله سبحانه: [ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ] {النحل:110} وقال: [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ] {آل عمران:120}. وقال: [وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] {الأنفال:46}. وقال: [وَتَوَاصَوْا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] {العصر:3}. 

إذا قال القرآن كل هذا وغير هذا في طلب الصبر والتخلق به فإنه لا يقصد سوى الاحتمال النفسي في سبيل الإيمان وفي سبيل القيم والمثل العليا، لأن أهم ما يعنى به الإنسان في حياته إن كان ذا خلق إنساني وذا سمو في الإنسانية هو الهدف الرفيع في الحياة، ولا يكون الهدف في الحياة هدفاً إنسانياً رفيعاً إلا إذا كان من أجل الإيمان بنظام معين في الحياة ومن أجل العمل على تحقيق هذا النظام وتطبيقه.

أما احتمال العاجز عن الكسب سبيل الحصول على لقمة العيش، واحتمال الضعيف بسبب المرض في سبيل أمل الشفاء، واحتمال الجائع في سبيل انتظار ما يدفع به جوعه فإن ذلك لون آخر ومدلول آخر للصبر، ولكنه ليس ذلك الصبر الذي جعله الحديث الشريف نصف الإيمان في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الصبر نصف الإيمان).

فإذا مال مفهوم الصبر بعد ذلك إلى هذا المدلول الأخير، فإنه يكون قد مال إليه تحت تأثير الطابع الجديد للمجتمع الذي تحوَّل إليه مجتمع المسلمين في أول أمره، ولا يكون هذا الطابع للمجتمع الجديد إلا الطابع المادي الذي يحمل الناس على السعي للحصول على سد حاجات الإنسان الماديَّة بعد أن ضعفت الروابط بين الأفراد، وخفَّ تعاون بعضها مع بعض، وبعد انصراف أفراد المجتمع نفسه عن النظر إلى المثل والقيم العليا والانصراف بالتالي إلى السعي الإنساني في سبيل تحقيقها أو صيانتها.

وهنا أيضاً يمكن أن يكون مفهوم الصبر معبراً عن نوعين من أنواع المجتمع الإسلامي، كما يكون تحول المجتمع الإسلامي نفسه صاحب الأثر الأول في نقل مفهوم الصبر من مدلوله الأول إلى معناه الثاني، وهنا كذلك يمكن أن نقول إنَّ المجتمع القوي يضفي على المفهوم قوَّة مدلوله وهدفه، كما أنَّ المجتمع الضعيف نفسه يستطيع أن يذهب القوة ويستبدلها بضعف لنفس المفهوم الواحد.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة الأزهر، شوال 1381 - العدد 213).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين