حدث في الثامن والعشرين من شوال
في الثامن والعشرين من شوال من سنة 411 قُتِلَ في القاهرة عن 36 عاماً، الحاكم بأمر الله منصور بن نزار العبيدي الفاطمي، ثالث خلفاء الدولة الفاطمية وأغرب خلفائها أطواراً وأكثرهم سفكاً للدماء.
ولد الحاكم بأمر الله سنة 375 في القاهرة، وسُلِّمَ عليه بالخلافة في مدينة بلبيس، بعد وفاة  أبيه سنة 386 وعمره 11 سنة، فدخل القاهرة في اليوم الثاني ودَفَنَ أباه وباشر أعمال الدولة، وفي أول أمره كان يدبر أموره خادم والده بَرجُوان الصقلي وأمين الدولة الحسن بن عمار الكتامي.
وخُطِبَ له على منابر مصر والشام وإفريقية والحجاز، ودانت له أمراء صقلية، وبنو مرداس في حلب، ثم أرسل إليها مولاه فاتك فملكها سنة 407.
وواجه الحاكم بأمر الله في أول أمره تمرداً قاده الوليد أبو ركوة وهو ثائر أموي أندلسي من نسل هشام بن عبد الملك بن مروان، هرب من سطوة المنصور بن أبي عامر، وتصوَّف ونزل ببني قرة من قبائل برقة يعلِّم صغارهم ويؤم كبارهم، وقتل الحاكم بأمر الله جماعة من بني قرة وسجن بعض أعيانهم، فدعاهم أبوركوة إلى خلع طاعته، فأجابوا، وأطاعته قبائل زناتة، وهزم جيشاً أرسله إليه الحاكم بقيادة ينال الطويل، وعظم أمره، وخوطب بأمير المؤمنين، وزحف على مصر، ودخل الجيزة، واضطرب الحاكم وهمَّ بالخروج إلى الشام، ثم إن أحد كبار رجال أبي ركوة خانه، فهزِّمَ وقُتِلَ واستتب الأمر للحاكم بأمر الله.
أرسل الحاكم بأمر الله عديداً من الدعاة إلى البلاد ينشرون مذهبه ويدعون إلى طاعته، منهم إلى إيران سنة 408 حميد الدين أحمد بن عبد الله الكرماني الملقب بحجة العراقين والمولود في القاهرة، وإلى الشام أبا الفوارس  أحمد بن يعقوب المولود في طرابلس الشام.
كان الحاكم كثير التلون سريعاً إلى سفك الدماء، قلَّ من نجى منه من وزرائه وقواده، وهذا سجل ببعض من فتك بهم:
قتل سنة 390 بَرجُوان خادم والده ومدبر أمور مملكته.
وفي سنة 387 أمر بالقبض على عيسى بن نسطورس وزير ماليته ووزير مالية والده العزيز بالله، وقتله.
استوزرَ أمينَ الدولة الحسن بن عمار بن علي الكلبي سنة 386 ثم عزله سنة 387 ثم قُتِلَ غيلة في القاهرة سنة 390، وكان من عقلاء الوزراء، وكبير كتامة - من قبائل البربر - وشيخها وسيدها.
وفي سنة 395، أمر الحاكم بقتل قاضي القضاة السابق، الحسين بن علي النعمان، فقُتِل ثم أحرقت جثته.
وولّى الحاكمُ الحسينَ بن جوهر الصقلي- ابن باني القاهرة - قيادةَ القواد وتدبير المملكة سنة 390، قأقام نحو ثلاث سنوات، ورأى من حال الحاكم ما أخافه، فهرب هو وولده وزوج أخته القاضي عبد العزيز بن النعمان، فأرسل إليهم الحاكم من أعادهم، وطيب قلوبهم وآنسهم مدة، ثم حضروا للخدمة في قصره بالقاهرة فأمر بالقبض على حسين وعبد العزيز وقتلهما سنة 401.
وفي سنة 402 قتل الحاكم بأمر الله علي بن الحسين ابن المغربي وأخاه محمداً، وكان عليٌّ من أعيان دولة والده ثم دولته،  وهرب ابن المقتول الحسين بن علي المعروف بالوزير المغربي وألَّب عليه شريفَ مكة وبدوَ الشام، ثم وُزِّرَ لبني بويه في العراق ولابن مروان في ميافارقين.
واستوزر الحاكم بأمر الله سنة 403 الحسين بن طاهر الوزان، الملقب بأمين الامناء، وكان متولي بيت المال في أوائل خلافته، ثم تغير عليه سنة 405 فبينما كان معه خارج القاهرة بحارة كتامة ضرب عنقه ودفنه في مكانه!
واستوزر سنة 405 الفضل بن جعفر المعروف بابن الفرات، وهو من بيت فضل ورياسة ووزارة، فجلس خمسة أيام، ثم قتله.
وفي سنة 405 قتل الحاكمُ قاضيَ القضاة مالكَ بن سعيد وهو معه في الموكب، وألقي مطروحا بالأرض، فمر به الحاكم وأمر بمواراته، فدفن حيث قتل بثيابه وخِفَّيه، وكانت مدة نظره في الأحكام عشرين سنة.
واستوزر الحاكم عليَّ بن جعفر بن فلاح الكتامي، وجعله الناظر في جميع شئون الدولة، وجعل له في السجل ولاية الإسكندرية وتنيس ودمياط، ولقب بوزير الوزراء ذي الرياستين الآمر المظفر قطب الدولة، ومرض سنة 406، فركب الحاكم إلى داره لعيادته، ثم قتله فارسان متنكران بالقاهرة سنة 409.
وأقام الحاكم ابن عمه أبا القاسم عبد الرحيم  بن الياس ولياً لعهده سنة 404، ثم أرسله واليا على دمشق سنة 410 فرَّخص للناس فيما كان الحاكم ينهاهم عنه، والتف حوله أحداث البلد، وكرهه الجند فكتبوا إلى الحاكم فأرسل إليه جماعة من المغاربة خطفوه ووضعوه في صندوق وحملوه إليه في مصر، ثم أعاده بعد أربعة أشهر فأخذ في المصادرة وبالغ في الإساءة، وجاء موت الحاكم في السنة نفسها وقيام ابنه الظاهر، وورد على الأمراء في دمشق كتاب من الظاهر بالقبض على عبد الرحيم، فقيدوه، وسجن فمات، وقيل: قتل نفسه بسكين في الحبس.
وكان الحاكم بأمر الله يضرب به المثل في تقلبه في أوامره على رعيته، قال ابن خلكان في الوفيات: كانت سيرته من أعجب السير، يخترع كل وقت أحكاماً يحمل الناس على العمل بها.
منها أنه أمر الناس في سنة 395 بكتب سب الصحابة رضوان الله عليهم في حيطان المساجد والأسواق والشوارع، وكتب إلى سائر عمال الديار المصرية يأمرهم بالسب، ثم أمر بقطع ذلك ونهى عنه وعن فعله في سنة 397، ثم تقدم بعد ذلك بمدة يسيرة بضرب من يسب الصحابة وتأديبه ثم تشهيره.
ومنها أنه أمر بقتل الكلاب في سنة 395 فلم يُرَ كلبٌ في الأسواق والأزقة والشوارع إلا قتل.
ومنها أنه نهى عن بيع الفقاع والملوخيا والجرجير والسمك الذي لا قشر له، وأمر بالتشديد في ذلك والمبالغة في تأديب من يعترض لشيء منه، فظهر على جماعة أنهم باعوا أشياء منه، فضُرِبوا بالسياط وطيف بهم، ثم ضربت أعناقهم.
ومنها أنه في سنة 402 نهى عن بيع الزبيب قليله وكثيره على اختلاف أنواعه، ونهى التجار عن حمله إلى مصر، ثم جمع بعد ذلك منه جملة كثيرة وأحرق جميعها، وفي هذه السنة منع من بيع العنب وأنفذ الشهود إلى الجيزة حتى قطعوا كثيراً من كرومها ورموها في الأرض وداسوها بالبقر، وجُمِعَ ما كان في مخازنها من جرار العسل فكانت خمس آلاف جرة، وحملت إلى شاطىء النيل وكسرت وقلبت في بحر النيل.
وفي سنة 402 أمر النصاري واليهود إلا أهل خيبر بلبس العمائم السود، وأن يعمل النصارى في أعناقهم الصلبان ما يكون طوله ذراعاً ووزنه خمسة أرطال، وأن يحمل اليهود في أعناقهم قرمية خشب على وزن صلبان النصارى، إشارة إلى رأس العجل الذي عبدوه، ولا يركبوا شيئاً من الدواب بمراكب محلاة، وأن تكون ركبهم من الخشب، ولا يستخدمون أحداً من المسلمين، ولا يركبون حماراً لمُكَارٍ مسلم ولا سفينةً نُوتيها مسلم، وأن يكون في أعناق النصاري إذا دخلوا الحمام الصلبان، وفي أعناق اليهود الجلاجل ليتميزوا عن المسلمين، ثم أفرد في سنة 408 حمامات اليهود والنصارى والمسلمين وحط على حمامات النصارى الصلبان، وعلى حمامات اليهود القرامي.
وفي سنة 404 أمر أن لا ينجِّم أحد ولا يتكلم عن صناعة النجوم، وأن ينفى المنجمون من البلاد، فحضر جميعهم إلى القاضي مالك بن سعيد الحاكم بمصر، وعقد عليهم توبة، وأُعفوا من النفي، وكذلك أصحاب الغناء.
وفي شعبان من سنة 405 منع النساء من الخروج إلى الطرقات ليلاً ونهاراً، ومنع الأساكفة من عمل الخفاف للنساء، ولم تزل النساء ممنوعات عن الخروج إلى أيام ولده الظاهر، وكانت مدة منعهن سبع سنين وسبعة أشهر
وفي سنة 408 نهى عن تقبيل الأرض له وعن الدعاء له والصلاة عليه في الخطب والمكاتبات، وأن يجعل عِوضَ ذلك: السلام على أمير المؤمنين.
وفي سنة 408 أمر بهدم كنيسة القيامة في بيت المقدس وجميع الكنائس بالديار المصرية، ووهب جميع ما فيها من الآلات وجميع ما لها من الأوقاف لجماعة من المسلمين، وخيَّر النصارى بين أن يسلموا أو يلحقوا بالروم، فتتابع إسلام جماعة من النصارى، ثم أمر في شعبان سنة 411 بتنصر من كان أسلم من النصارى، وأمر ببناء ما كان قد هدم من كنائسهم ورد ما كان في أوقافها.
وفي سنة 410 أحرق الحاكم القاهرة وأباحها لجيشه وعبيده، وسبب ذلك أنه ركب فوجد في طريقه تمثال امرأة من الورق، وفي يديها ورقة فيها سب للحاكم وأسلافه وذكره بقبيح الأفعال، فلما وقف عليها أمر بنهب القاهرة وحرق بعض دورها، وفرق السلاح على السودان والعبيد، فتبادورا إليها وفعلوا ما أمرهم به، فقام أهلها وقاتلوا قتالاً شديداً ثلاثة أيام، ثم أرسلوا إلى الحاكم يستقيلون فلم يقلهم، فعاودوا القتال، وأحرق من القاهرة جانب كبير، فلما رأى الحاكم أن الأمر يؤول إلى خراب القاهرة وتلاف ملكه كف عنهم بعد أن تلف من العقار ما لا تحصى قيمته، وسير عيّاداً الصقلبي إليها في جماعة من الجند لتسكين الفتنة، فشاهد أمراً عظيماً، فعاد إلى الحاكم وذكر له قُبح النازلة وعظيم الفادحة وقال: لو أن باسيل ملك الروم – الملك البيزنطي الذي كان يغير على أطراف الدولة - دخل القاهرة لما استحسن أن يفعل فيها هذا الفعل! فغضب الحاكم من كلامه وأمر بقتله، فقتل.
وبقيت أحواله على هذا المنوال وأصاب الناس منه شر شديد، إلى أن فُقِدَ في إحدى الليالى، فيقال: إن رجلا اغتاله غيرة لله وللإسلام، ويقال: إن أخته ست الملك دست له رجلين اغتالاه وأخفيا أثره.
وكان فَقْده بأن خرج يطوف بالليل على عادة له، فذهب إلى حُلوان ومعه مرافقان ثم أعادهما وبقي بمفرده، ولما لم يعد خرج جماعة من أصحابه لكشف خبره، فوجدوا عند حلوان حماره، وقد ضربت يده بسيف، وعليه سرجه ولجامه، واتَّبعوا الأثر، فوجدوا ثيابه فعادوا ولم يشكوا في قتله، وإن كان كبير أتباعه ودعاته حمزة بن على بن أحمد الفارسي قد أعلن أنه احتجب وسيعود لنشر الإيمان بعد الغيبة!
وبويع بعده لابنه علي وهو في السادسة عشر من عمره، وتلقب بالظاهر لإعزاز دين الله، وقامت عمته ست الملك بإدارة الدولة مدة أربع سنوات، أظهرت فيها من المقدرة والعدل ما حببها إلى رعيتها، إلى أن توفيت سنة 415، وكانت أكبر من الحاكم بستة عشر عاماً، وكانت حازمة مدبرة، وكان الحاكم يستشيرها في معضلاته، ثم تغير عليها. ودام حكم الظاهر 16 عاماً اتسمت بالهدوء فقد كان محبا للعدل، فيه لين وسكون مع ميل إلى اللهو.
وعلى ما ذكرنا من مصائب وكوارث ونكبات، اهتم الحاكم بأمر الله بالقاهرة وأبنيتها وزاد عليها زيادات كثيرة عدَّدَها المقريزي في المواعظ والاعتبار، منها حفر خليج الإسكندرية سنة 404 وكلف ذلك 15.000 دينار، وجدد الحاكم بأمر الله الجامع الأزهر، وبنى جامع الـمَقْس على شاطئ النيل، والجامع الحاكمي، وأوقف عليها الأوقاف، واعتنى كذلك في سنة 403 بجامع عمرو بن العاص ورممه وجعل فيه ثريا من الفضة تزن 400 كيلو غرام، وأنزل من قصره إلى الجامع 1.298 مصحفاً ما بين ختمات وربعات فيها ما هو مكتوب كله بالذهب، ومكَّن الناس من القراءة فيها.
ولعل أهم إنجازاته في هذا المجال إنشاء مكتبة عامة أسماها دار العلم وذلك في عام 395، وينقل المقريزي عن الأمير المختار عز الملك محمد بن عبد الله المسبحي في تاريخه:
وفي يوم السبت العاشر من جمادى الآخرة سنة 395 فُتحت الدار الملقبة بدار الحكمة بالقاهرة، وجلس فيها الفقهاء، وحُمِلت الكتب إليها من خزائن القصور المعمورة ودخل الناس إليها، ونسخ كلُّ من التمس نسخ شيء مما فيها مما التمسه، وكذلك من رأى قراءة شيء مما فيها، وجلس فيها القراء والمنجمون، وأصحاب النحو واللغة والأطباء، بعد أن فرشت هذه الدار وزخرفت، وعلقت على جميع أبوابها وممراتها الستور، وأقيم قُوَّامٌ وخُدام وفراشون، وغيرهم وسِموا بخدمتها، وحصل في هذه الدار من خزائن أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله من الكتب التي أمر بحملها إليها من سائر العلوم، والآداب والخطوط المنسوبة ما لم ير مثله مجتمعاً لأحد قط من الملوك.
وأباح ذلك كله لسائر الناس على طبقاتهم، ممن يؤثر قراءة الكتب والنظر فيها، فكان ذلك من المحاسن المأثورة أيضاً، التي لم يسمع بمثلها ..وحضرها الناس على طبقاتهم، فمنهم من يحضر لقراءة الكتب، ومنهم من يحضر للنسخ، ومنهم من يحضر للتعلم.
وجعل فيها ما يحتاج الناس إليه من الحبر، والأقلام، والورق والمحابر، وأوقف عليها الأوقاف لحصيرها ونساخها وخازنيها وسجادها وستائرها وأقلامها وحبرها وغير ذلك.
ولا بد والحديث عن الدولة الفاطمية أن نتناول العقيدة التي قامت عليها ودعت إليها، وقد كثرت أقوال المؤرخين في ذلك وذهبت كل مذهب، ولعل أكثرها موضوعية ما ذكره المقريزي، أحمد بن علي المتوفى في القاهرة سنة 845، في كتابه اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء الذي أرخ لهذه الدولة بعد اندثارها بمئات السنين.
قال المقريزي تحت عنوان ذكر ما عُيب عليهم:
لا شك في أن القوم كانوا شيعةً يرون تفضيل علي بن أبي طالب على من عداه من الصحابة، وكانوا ينتحلون من مذاهب الشيعة مذهب الإسماعيلية وهم القائلون بإمامة إسماعيل بن جعفر الصادق وتنقُّلِها في أولاده الأئمة المستورين إلى عبيد الله المهدي، أول من قام منهم بالمغرب. وبقية الشيعة لا يقولون بإمامة إسماعيل، وينكرون عليهم ذلك أشد الإنكار.
وكانوا مع انتحالهم مذهب التشيع غلاةً في الرفض، إلا أن أولهم كانوا أكابر صانوا أنفسهم عما تحرف به آخرهم، ثم إن الحاكم بأمر الله أكثر من النظر في العقائد، وكان قليل الثبات سريع الاستمالة، إذا مال إلى اعتقاد شيء أظهره وحمل الناس عليه، ثم لا يلبث أن يرجع عنه إلى غيره فيريد من الناس ترك ما كان قد أهم به والمصير إلى ما استحدثه ومال إليه. واقترن به رجل يعرف باللَّباد والزَّوزني فأظهر مذاهب الباطنية، وقد كان عند أولهم منها طرف، فأنكر الناس هذا المذهب لما يشتمل عليه مما لم يعرف عند سلف الأمة وتابعيهم ولما فيه من مخالفة الشرائع.
فلما كانت أيام المستنصر وفد إليه الحسن بن الصباح، فأشاع هذا المذهب في الأقطار ودعا الكافة إليه، واستباح الدماء بمخالفته؛ فاشتد النكير، وكثر الصائح عليهم من كل ناحية حتى أخرجوهم عن الإسلام ونفوهم عن الملة.
ووجد بنو العباس السبيل إلى الغض منهم لما مكنوا من البغض فيهم وقاسوه من الألم بأخذهم ما كان بأيديهم من ممالك القيروان وديار مصر والشام والحجاز واليمن وبغداد أيضا، فنفوهم عن الانتساب إلى علي بن أبي طالب، بل وقالوا إنما هم من أولاد اليهود؛ وتناولت الألسنة ذلك، فملأوا به كتب الأخبار.
ثم لما اتصل بهم الغزو وُزِّرَ لهم أسدُ الدين شيركوه وابن أخيه صلاح الدين، وهم من صنائع دولة بني العباس الذين ربوا في أبوابها وغذوا بنعمها ونشأوا على اعتقاد موالاتها ومعاداة أعدائها، لم يزدهم قربهم من الدولة الفاطمية إلا نفوراً، ولا ملأهم إحسانها إليهم إلا حقداً وعداوة لها، حتى قووا بنعمتها على زوالها، واقتدروا بها على محوها.
وكانت أساسات دولتهم راسخة في التخوم، وسيادة شرفهم قد أنافت على النجوم، وأتباعهم وأولياؤهم لا يحصى لهم عدد، وأنصارهم وأعوانهم قد ملأوا كل قطر وبلد؛ فأحبوا طمس أنوارهم، وتغيير منارهم، وإلصاق الفساد والقبيح بهم، شأن العدو وعادته في عدوه.
فتفطن، رحمك الله، إلى أسرار الوجود، وميز الأخبار كتمييزك الجيد من النقود، تعثر إن سلمت من الهوى بالصواب. ومما يدلك على كثرة الحمل عليهم أن الأخبار الشنيعة، لا سيما التي فيها إخراجهم من ملة الإسلام، لا تكاد تجدها إلا في كتب المشارقة من البغداديين والشاميين، كالمنتظم لابن الجوزي، والكامل لابن الأثير، وتاريخ حلب لابن أبي طي، وتاريخ ابن كثير، وكتاب ابن واصل الحموي، وكتاب ابن شداد، وكتاب العماد الأصفهاني، ونحو هؤلاء. أما كتب المصريين الذين اعتنوا بتدوين أخبارها فلا تكاد تجد في شيء منها ذلك ألبتة. فحكِّم العقل، واهزم جيوش الهوى، وأعط كل ذي حق حقه، ترشد إن شاء الله تعالى

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين