محمد صلى الله عليه وسلم رب بيت

 

فكرة باطلة سادت أفكار بعض الناس في معنى (الرسالة) فخلع بعضهم عليها أحياناً بعض أوصاف الألوهيَّة، وأحياناً بعض أوصاف الرهبانيَّة، من مبدأ البعثة إلى اليوم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحاربُ هذه الفكرة كما يحارب الإلحاد، ويعلن ويكرر في كل مناسبة أنَّه (بشرٌ رسول) لا (ملكٌ رسول).

من مبدأ البعثة اجتمعت صناديد قريش بمكة، فقالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم: (لقد علمت أنَّه ليس أحدٌ من الناس أضيقَ بلاداً، ولا أقلَّ مالاً، ولا أشدَّ عيشاً منا، فسلْ ربَّك الذي بعثك بما بعثك به فليسيِّر عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، ويبسط لنا بلادنا، وليفجِّر فيها أنهاراً كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مَضَى من آبائنا، فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل، فإن لم تفعلْ فسلْ ربَّك أن يبعث مَلَكاً يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك، ولتسأله فيجعل لك جناناً وكنوزاً وقصوراً من ذهب وفضة، ويغنيك عما تراك تبتغي، فإنَّك تقوم بالأسواق، وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضل منزلتك من ربك إن كنت رسولاً، فإن لم تفعل فاتخذ إلى السماء سُلَّماً ترقى فيه وتأتي معك بنسخة منشورة ومعك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول).

فقال محمد صلى الله عليه وسلم: سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولا؟!

لقد أخطأوا إذ نسوا أنه بشر لا يقدر على الإتيان بهذه الأشياء، ولا يستطيع اقتراحها لما فيها من التعنُّت والتحكُّم، وليس للرسول أن يتحكَّم على الله تعالى فيطلب منه خرق قوانينه التي أدار عليها ملكه.

وخطأ آخر مثله وقع فيه بعض المسلمين، إذ خلعوا عليه صلى الله عليه وسلم بعض أوصاف الرهبانيَّة، فقد روي في الحديث أنَّ بعضهم كان يسأل عائشة رضي الله عنها ماذا كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته، ظانِّين تبتُّلَه، فكانت تجيبهم أنه يفعل في بيته ما يفعله الرجل الكريم بأهله: (وسألها رجل: ما كان يصنع رسول الله في أهله؟ قالت: كان في مهنة أهله: فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة).

وجاء ثلاثة نفر إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أحدهم: إني أصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال ثالث: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فقال عليه الصلاة والسلام: (أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).

لقد كان محمد صلى الله عليه وسلم إنساناً يأكل ويشرب، ويمشي في الأسواق، ويتاجر ويتزوَّج، وكان رسولاً عَرف الله ودعا إليه، اختارته العناية الإلهيَّة ليكون سفيراً بين الله تعالى وخلقه، فله جانبه الإنساني، فهو يَضرب في الأرض، يسعى ويكد، وتتوارد عليه العواطف الإنسانيَّة، وله جانب روحاني يتصل فيه بربِّه تعالى، ويتلقى رسالته ويبلغها خلقه، يحيا كما يحيا الناس، ويجري عليه حكم الموت كما يجري على الناس، ويتَّصل بالله تعالى كما يتصل الرُّسل، ويؤدي رسالته كما يؤدي الرسل، فمن زعم أنَّه فوق قوانين البشر فقد أخطأ، ومن جحد رسالته فقد أخطأ.

وهو في أداء رسالته أمين معصوم، وهو في إنسانيته يفعل ما يفعل الرجل الكامل، يتطلب معالي الأمور ويترفع عن سفسافها، وينشد المثل الأعلى، ويتجمَّل بالمروءة، ويشعر بعِظم التبعة وتطهرُ نفسه فلا يتصنَّع، ويفعل في السرِّ ما يفعله في العلانية، ويملؤه الشعور بأنَّ الله تعالى خالقُه، وأنَّ الله سبحانه يراه، وأنَّ الله جلَّ وعلا يأمره وينهاه، فيأتي ما يأتي من الخير، ويذر من يذر من الشر، لا رغبة ولا رهبة، ولكن حباً في الله تعالى، ومن أحبَّ أطاع، فكان المثلَ الأعلى للناس في جانبه الإنساني، وجانبه الروحاني، في مُعاملته، وفي بيته، وفي دعوته، وفي عبادته، وفي تضحيته، وفي إخلاصه صلى الله عليه وسلم.

***

لقد كان لمحمد صلى الله عليه وسلم بيت في مكة قبل الهجرة، وبيت في المدينة بعد الهجرة، والبيتان مختلفان في مظاهرهما.

ففي مكَّة ظلَّ من غير زواج إلى الخامسة والعشرين، وهي سنٌّ متأخِّرة بالنسبة لحالة العرب الاجتماعية إذ ذاك، ولكن دعا إلى هذا التأخير فقره، وما الفقر بعيب، فلما أتيح له الزواج تزوَّج، وكان الزواج مؤسساً على أساس صحيح، من معرفة الزوج للزوجة في خُلُقها وخلْقها ونسبها، وكانت الزوجة تعرف زوجها كذلك، فأحرِ أن يكون هذا الزواج مُوفَّقاً، لقد عرفت خديجة رضي الله عنها محمداً صلى الله عليه وسلم في تجارتها، وكانت تبعث الرجال يتاجرون لها بالمال في الشام كما يفعل أغنياء قريش، فبعثت محمداً في ذلك فعرفها وعرفته بعد أن سمعت به وسمع بها، وخبر كلٌّ حالَ الآخر عن قرب، ثم كان أن عرضت عليه أن يتزوَّجها بعد أن خطبها كثير من رجال قريش فأبت عليهم، ولعلها قرأت فيهم الطمع في مالها، ورأت فيه صلى الله عليه وسلم التعفُّف عن مالها، كما كانت من أولئك النساء القلائل اللائي يقرأن المعاني في الرجل أكثر مما يقرأن المادَّة والمظاهر، فأرسلت إليه نفيسة بنت أمية، دسيساً إليه، فقالت له: ما يَمنعك أن تتزوَّج؟ قال: ما في يدي شيء، قالت: فإن كُفيت ودعيت إلى المال والجمال والكفاءة؟ قال: فمن؟ قالت: خديجة، فأجاب.

كانت خديجة رضي الله عنها امرأة مكتملة في الأربعين من عمرها، من قريش أمَّاً وأباً، تزوَّجت في شبابها رجلاً من خيار بني تميم اسمه أبو هالة، فولدت منه ابنين هما: هند وهالة، ثم مات عنها، فتزوَّجها قرشي اسمه عَتيق بن عابد، فولدت له بنتاً اسمها هند، ثم مات عنها كذلك، وقد عاش الثلاثة، ولعل مالها جاءها من قِبَل زوجها فكانت ذات مال وذات تجارة في حياة أبيها.

ثم تزوجت محمداً صلى الله عليه وسلم في الخامسة والعشرين من عمره.

***

في بيت، في حي التجار بمكة، كانت تسكن هذه الأسرة، خديجة رضي الله عنها وأولادها الثلاثة ومحمد صلى الله عليه وسلم، وصبي صغير كانت اشتدَّت الأزمة بأبيه، فرجاه أهله أن يأخذوا عنه بعض أولاده يعينونه في تربيتهم، فأخذ محمد صلى الله عليه وسلم أحدهم، وكان هذا الصبي علي بن أبي طالب رضي الله عنه، كما كان يسكنه مولى لهم هو زيد بن حارثة رضي الله عنه، فتعادل البيت بصبيانها وصبيه، وتعادل الكسب بمالها وعمله، وظلَّ هذا البيت سعيداً خمسة وعشرين عاماً، يتبادل فيه الزوجان الحبَّ والألفة والتعاون، فلم نسمع مرَّة بخلاف ولا مُشادَّة ولا غضب، رزقت منه بأولاد لم يَعِشْ منهم إلا بنات أربع، ربين في هذا الوسط الوادع السعيد، وقد اعتادَ العرب في هذا الزمن أن يعددوا زوجاتهم، وخاصَّة في سني شبابهم، ولم يعدُّوه عيباً، ولا تعدد النساء كذلك، ولكن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يفعلْ هذا حباً في خديجة رضي الله عنها وحرصاً على رضاها، ولأنَّه صلى الله عليه وسلم يشعر أنه مهيأ لأمر عظيم يتطلب التقلُّل من مَشَاغل الدنيا.

كان صلى الله عليه وسلم يشغله التفكير في أمر قومه وضلالهم في عبادتهم وفساد نظامهم، وكان صلى الله عليه وسلم مُقتنعاً كل الاقتناع بأنَّ ما عليه قومه ضلال لا شك فيه، وما يعبدونه باطل لا محالة، ولكن ما هو الحق؟

وكانت تبدو عليه صلى الله عليه وسلم نزعة دينية حائرة تتلمس الحق وتصبو إليه، وكان يبث خديجة رضي الله عنه كل ذلك فتفهمه وتشجعه وتعينه، ولقد شوهدا ومعهما عليّ في الكعبة يعبدون الله تعالى على نحو خاص غير ما تفعله قريش، كان هذا يملك عليه نفسه، فكانت خديجة رضي الله عنه له أكبر عون، فلما حببت إليه أن يمضي في عزلته الليالي في غار حراء، فكانت رضي الله عنه تعدُّ له زاده، وتفهم نفسه، وتعينه على غرضه.. 

جاءه الوحي لأول مَرَّة ورجع إلى خديجة رضي الله عنها يَرجف، كانت هي التي دثَّرته وأذهبت روعه، وأخذته إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، وكان رجلاً مُتنصراً عالماً بالأديان، فطمأنه أنَّه الوحي، فكانت أول إنسان آمن برسالته وصدقه في قوله، لأنها رأت منه ما لم يره أحد، رأته في بيته على فطرته وسجيته، فلم تقع منه على كذبة، ولم تقف منه على رياء، ولا يعرف أحد أحداً كما يعرفه أهل بيته، فهناك المظهر الحقيقي والإنسان على سجيته، ورأت رضي الله عنه مقدمات الوحي خطوة خطوة، فسهل إيمانها بالنتيجة، ولا تسل عن عظمة هذا الموقف يوم يتجلَّى للعظيم الحق فيجد في الوجود إنساناً بجانبه يؤيده ويثبته.

ثم لما أعلن صلى الله عليه وسلم الدعوة لقومه ولقي منهم شر أنواع العنت، كانت هي رضي الله عنها التي تخفِّف بحديثها وأسلوبها كربه، وتؤنس وحشته، قال ابن إسحاق: (كان صلى الله عليه وسلم لا يسمع شيئاً يكرهه من ردٍّ عليه وتكذيب له فيحزنه ذلك إلا فرَّج الله عنه بخديجة إذا رجع تُثبِّته وتخفِّفُ عنه وتصدقه، وتهوِّن عليه أمر الناس) وكان من فضل الله أن كانت بجانبه العشر السنين الأولى من الدعوة وهي أشقُّ السنوات عناء، وجهاداً وكفاحاً.

لذلك لم يُكِنَّ محمدٌ صلى الله عليه وسلم من الحبِّ والوفاء والتقدير والإعظام لأحد ما أكنَّه لزوجته خديجة رضي الله عنها، فلما قالت له عائشة رضي الله عنه قد رزقك الله خيراً منها، قال صلى الله عليه وسلم: (لا والله ما رزقني الله خيراً منها، آمنت بي حين كفر بي الناس، وصدَّقتني حين كذَّبني الناس، وأعطتني مالها حين حرمني الناس).

ولما توفيت رضي الله عنها في الخامسة والستين من عمرها في العام الذي توفي فيه عمه أبو طالب سمي العام (عام الحزن)، وكان شديد الحنين إليها والذكرى لها، فكان من حين إلى حين يبعث بعض الهدايا إلى صديقاتها، إحياء لذكرها، ودخلت عليه مرة – وهو في المدينة – أختها هالة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم نائماً، فلما سمع صوتها انتبه من نومه لفوره وقال: هالة هالة هالة! ترحيباً بها، وهياماً بذكر أختها، وإعظاماً لأحب الناس إليه.

***

أما في المدينة فقد كان لبيت محمد صلى الله عليه وسلم شأن آخر، لقد دعاه موقفه في الدعوة وتأييدها بالمصاهرة والنسب، وطبيعة الحالة الاجتماعيَّة في عصره، وظروف كثيرة – ليس هذا موضع ذكرها – إلى أن يعدِّد زوجاته، هذه عائشة بنت صاحبه أبو بكر، وهذه حفصة بنت صاحبه عمر، وهذه أم حبيبة بنت أبي سفيان زعيم قريش، وهذه صفية بنت حُيي بن أحطب سيدة قومها من يهود بني النضير، وهذه زينب بنت جحش مطلقة مولاه ومتبناه زيد بن حارثة، رضي الله عنهم 

وعلى الجملة فكنَّ خمس قرشيات، وأربع عربيات من غير قريش، بين هلالية وخزامية وأسدية، وواحدة من بني إسرائيل، فكان سبب الزواج أحياناً تأليف قوم، أو توثيق رابطة، أو تشريعاً جديداً يخالف ما كان عليه العرب، أو عطفاً على أيم مات عنها زوجها في جهاد في الإسلام.

وكان النساء في المدينة غير النساء في مكة، فهُنَّ في مكة مضغوط عليهنَّ، مستسلمات أزواجهن، من العار أن يرددن لهم قولاً، بحكم بأس رجال قريش وشدتهم وسطوتهم، وعلى العكس من ذلك نساء المدينة، فلهنَّ قسطٌ وافر من الحريَّة، يراجعن أزواجهن، ولهنَّ رأي يُسمع، ومطالب تجلب، واستتبع هذا شيئاً آخر وهو غلبة الجدِّ الدائم على رجال قريش ونسائهم، وحب الفرح والمرح في نساء المدينة ورجالها: 

ففي الحديث أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (كنا معشرَ قريش قوماً نغلب النساء، فلما قَدِمنا المدينة وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمْنَ من نسائهم) وفيه: أنَّ عائشة زَفَّت امرأةً إلى رجلٍ من الأنصار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما كان معكم لهو؟ فإنَّ الأنصار يعجبهم اللهو. وتعليل ذلك من الوجهة الاجتماعيَّة يطول.

أفرد رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل زوجة بيتاً، ومع هذا فالعواطف الطبيعيَّة للنساء لا يمكن محوها، ولا من الخير زوالها، والإنسان إنسان مهما كان، كل منهن كان يحرص أن يكون له من رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر نصيب في حبه، وكل تغار إن شعرت بعطف أكبر على ضَرَّاتها، وكل يحاسب على النظرة والابتسامة، ولكل نوع من المزايا تدلُّ بها، وأخيراً انقسمن إلى حزبين: حزب فيه عائشة بنت أبي بكر وحفصة وسودة، وحزب فيه أم سلمة وزينب وميمونة وأم حبيبة بنت أبي سفيان وجويرية رضي الله عنهم.

ثم مشكلة أخرى طبيعيَّة، فعائشة رضي الله عنها أحب زوجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لمزاياها، وفاطمة بنته من خديجة، وطبيعي ما يكون بين البنت ماتت أمها وتزوج أبوها غيرها وبين زوجة أبيها، ويزيد ذلك في نفس الزوجة الجديدة أنها لم تلد، والبنت تزوَّجت وولدت، والرسول صلى الله عليه وسلم يحبُّ زوجه ويحب بنته ويحب أولاد بنته.

هذه كلها مَشَاكل مُستعصية، ما كان يمكن التغلب عليها والمعيشة الهانئة معها، لولا حكمة من الرسول صلى الله عليه وسلم فوق كل حكمة، وكان من نعم الله حدوث هذه المشاكل وظهورها فقد استوجبت من التشريع الإسلامي قدراً كبيراً، وكان هؤلاء الزوجات – وخاصة عائشة – مدارس يتلقى فيها الصحابة والتابعون علمهم عنهن: [وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللهِ وَالحِكْمَةِ] {الأحزاب:34}، فيروون الأحاديث في مختلف الموضوعات عن علمهن، ويحكين لهم ما شهدن وما سمعن، وما تصرَّف فيه الرسول صلى الله عليه وسلم من مشاكل وأحداث أمام أعينهن، وأدبه فيما بينهن، حتى قيل إنَّ ربع الأحكام الشرعية مأخوذ عن عائشة رضي الله عنها، وروي لها في كتب الصحاح ألفان ومائتا حديث، قال لها عروة يوماً: يا أمَّتاه! لا أعجب من فقهك أقول زوجة رسول الله، ولا أعجب من علمك بالشعر وأيام الناس أقول ابنة أبي بكر، وكان من أعلم الناس بذلك، ولكن أعجب من علمك بالطب كيف هو وأين هو؟ قالت: أي عُريّة، إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كثرت أسقامه عند آخر عمره، فكانت تقدم عليه وفود العرب من كل وجه فتنعت له الأنعات فكنتُ أعالجها، فمن ثَمَّ.

عدل بينهنَّ في المعاملة على أدقِّ وجه، واعتذر من عدم العدل بينهن في الحب فإنَّه لا يملكه، وقال صلى الله عليه وسلم: (اللهم هذا قَسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك). 

وكان إذا صلى العصر زار نساءَه جميعاً، وتحدَّث لكل منهن، ثم بات في بيت من لها الليلة وأحياناً يجتمعن في بيتها، وإذا خرج إلى سفر أقرع بينهن فأيتهن خرج سهمها خرج بها.

إلى أسلوب من المعاملة ظريف، ونمط في المعاشرة لطيف، يلعب الأحابيش فتحب عائشة رضي الله عنها أن ترى لعبهم فتستند على منكب النبي صلى الله عليه وسلم فلا يسأم حتى تسأم، ويسابقها فتسبقه، حتى إذا سمنت سابقها فسبقها، فقال هذه بتلك ويقول: (إنَّ أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وألطفهم بأهله) وكان اليوم يوم عيد فدخل أبو بكر رضي الله عنه على عائشة رضي الله عنها فوجد عندها جاريتين تضربان بالدف، فانتهرهما أبو بكر رضي الله عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعهن يا أبا بكر فإنَّها أيام عيد.

ويحب الأطفال ويقبلهم ويلاعبهم ويجلسهم في حجره، ويأتي أعرابي بدوي فيقول يا رسول الله أتقبِّل الصبيان؟ والله ما نقبلهم، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أملك أن الله نزع من قلبك الرحمة)

***

أزمة كانت تستيقظ من حين لآخر فوضع لها حداً حاسماً، كان رسولاً وكان مثلاً للناس، وفهم رسالته حق الفهم، أتى ليبلِّغ عن الله تعالى رسالته ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويدعو إلى الخير ويحذِّر من الشر، وليست رسالته أن يجمع ثروة أو يؤسس لنفسه ملكاً، ولا يتأتى أن يؤدي رسالته على أكمل وجه حتى يزهد في المال وعَرَض الحياة، ولو التفت إلى المال لم يُطَع هذه الطاعة، ولا أجيب هذه الإجابة، ولالتفت الأتباع إلى المال، ولم يأبهوا للدعوة، ولفات على الناس درس التضحية، ولذلَّت نفوس الفقراء واضطغنوها في أنفسهم، وما أكثرهم، ولعزَّ الأغنياء في الدين بغناهم لا بتقواهم، إذن فليتخلَّ عن كل مظاهر الدنيا والترف في العيش، وليعش عيش أبسط رجل، وكذلك كان صلى الله عليه وسلم، فلم يمتلئ جوفه شبعاً، ويبيت بعض الليالي طاوياً، ويمرُّ الشهر ما يستوقد أهله ناراً، يعيشون على التمر والماء، ولا يرون الرغيف المرقَّق ولا الشاةَ السميط، ويموت ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعاً من شعير، ويأتيه مال مرَّة من الغزو فيقسمه ألف بعير على أربعة أنفس، ويسوق مائة بدنة فينحرها ويطعمها المساكين ولم يدخل لأهله شيئاً، فكان فقره صلى الله عليه وسلم إيثاراً لا عوزاً.

ولو كان الشأن شأن نفسه فقط لهان الأمر، عظيم يضحي لربه ولدعوته فيجد من سعادة التضحية أضعاف ما يجد الشحيح بماله وترفه، ولكن ما شأن زوجاته ولم يبلغن في السمو سموه، ولا يفهمن المثل فهمه، ولا يشعرن بالتبعة شعوره – ها هن أولاء يطلبن شيئاً من السعة في العيش، وشيئاً من النعيم الذي ينعم به حتى صغار المسلمين، وهو يردُّهن رداً جميلاً، فلما كثر الطلب واشتدَّ اللحاح كان الموقف الحاسم: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآَخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا] {الأحزاب:28-29}.

فبدأ يخيِّر النساء بين الطلاق والمعيشة التي تتفق ودعوته، وبدأ بعائشة فاختارت ربَّها ورسوله، وكذلك فعل سائر نسائه، وحسم الأمر، ووطَّن أنفسهنَّ على الصبر، وكان لهنَّ في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة.

وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وظلَّ نساؤه أمهات المؤمنين يُرجعن إليهنَّ في المشاكل، ويستفتونهنَّ فيما دقَّ من مسائل، يأخذ عنهنَّ مؤرخو السيرة تاريخهم، والمحدثون حديثهم، والفقهاء فقههم، هذه عائشة رضي الله عنها يروي عنها عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وأبو هريرة، وأبو موسى وابن عباس رضي الله عنهم. ومن التابعين: سعيد بن المسيب، وعلقمة بن قيس، وآخرون كثيرون. وقد عُمِّرت حتى بلغت السادسة والستين، وتوفيت في عهد معاوية رضي الله عنه بعد أن كانت مرجعَ الدنيا في الفتيا، وخاصَّة في أدقِّ المسائل الزوجيَّة بما استفادت من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكذلك كانت حفصة بنت عمر رضي الله عنها، رويت عنها الأحاديث الكثيرة، وإن لم تبلغ مبلغ عائشة رضي الله عنها، وكان يروي عنها أهلُ بيتها؛ كأخيها عبد الله وابنه حمزة وزوجته صفية رضي الله عنهم، وعُمِّرت إلى أن بلغت الستين، وماتت كذلك في خلافة معاوية رضي الله عنه.

وعمرت أم سلمة رضي الله عنها إلى أن بلغت الرابعة والثمانين، وكانت آخر أمهات المؤمنين موتاً، وهكذا.. 

فكان حول كل منهنَّ تلاميذ من أهلها وأقاربها وغيرهم يروون عنهنَّ، ويأخذون عنهنَّ آراءهنَّ فيما حدث من الفتن العظام بعد مَقْتل عثمان رضي الله عنه، ولم ينسين أبداً درس الزهد وبساطة العيش وبذل المال كما علمهنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرض لهنَّ الفرض العظيم بعد الفتوح فكنَّ يتصدقن به ولا يدَّخرن منه. 

هذه عائشة رضي الله عنها أتاها مرة مائة ألف درهم ففرَّقتها في يومها، وكانت صائمة ولم تتذكر أن تشتري لحماً بدراهم تفطر عليه. 

وهذه زينب بنت جحش رضي الله عنها، كانت مع ما يأتيها من عطائها صَنَاع اليدين تصنع بيدها وتخيط، وتتصدق بكل ذلك في سبيل الله تعالى، ووصفتها عائشة رضي الله عنها ضَرَّتُها فقالت: (لم تكن امرأة خيراً منها في الدين، وأتقى لله، وأصدق حديثاً، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة، وأشدَّ ابتذالاً لنفسها في العمل الذي تتصدق به ويقربها إلى الله). صلوات الله عليه وعليهن أجمعين.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة الثقافة، 6 محرم 1362 - العدد 211).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين