من ملامح الهجرة إلى الحبشة -3-

 

لماذا لم ينتشر الإسلام بالحبشة كما انتشر بالمدينة؟

قبل الإجابة على هذا السؤال هناك سؤال يمهد للإجابة وهو:

هل كانت هجرة الصحابة إلى النجاشي؟ أم إلى الحبشة؟

بمعنى آخر هل كانت الهجرة إلى الملك أم إلى المملكة؟

قال ابن إسحق:

حدثني الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن حارث بن هشام عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : 

 قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : 

 ( إن بأرض الحبشة ملكا لا يظلم أحد عنده فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجا ومخرجا مما أنتم فيه ) 

فلما جاء الصحابة في الهجرة الأولى لم يعلم بهم النجاشي.

وكانت مدة مكثهم قصيرة في أرض الحبشة 

وكذلك لما جاءت الهجرة الثانية لم يعلم بهم النجاشي في البداية، ولم يعلم بهم إلا عندما وصل مندوبا قريش : عمرو بن العاص ورجل معه.

عندها طلب النجاشي إحضارهم وحصل مجلس المناظرة بين وفد قريش ومندوب الصحابة وهو جعفر رضي الله عنه، وهذا أمر مشهور. 

فأعطاهم النجاشي الأمان بعد المناظرة وأمر لهم بمعونات اقتصادية مثل الطعام والسكن كما ورد في رواية ابن إسحق وغيرها.

ولكن عند دراسة الروايات عن طبيعة الحياة في الحبشة  يتبين أن الحياة كانت فيها شدة وقسوة وصراعات ولم تكن بيئة حرية 

والأدلة على ذلك مايلي:

1 ورد بعدة روايات في السنن وصف الصحابة لحالات اعتداء الأغنياء والوجهاء على الفقراء ونثر الدقيق لهم على الأرض وتأثر إحدى الصحابيات حتى روت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم. 

2 ماورد في الروايات من غضب البطارقة لموقف النجاشي في أثناء المناظرة مع عمرو بن العاص مما يبين أن الأمر لم يكن مستتبا له.

3 محاولة الانقلاب والعصيان على النجاشي التي روى الصحابة في كتب السنن تفاصيلها ولذا طلب منهم النجاشي عندما احتدام الصراع أن يذهبوا خلف النهر حتى يري الأمر والتفاصيل كثيرة في ذلك مما دل على اضطراب الحياة السياسية. 

4 حديث أسماء بنت عميس وهو في الصحيح لما تحاورت مع عمر رضي الله عنه

عندما دخل علىهما في  بيت ابنته حفصة وكانت أسماء جالسة فقال عُمَرُ رضي الله عنه الْحَبَشِيَّةُ هَذِهِ الْبَحْرِيَّةُ هَذِهِ فَقَالَتْ أَسْمَاءُ نَعَمْ. فَقَالَ عُمَرُ سَبَقْنَاكُمْ بِالْهِجْرَةِ فَنَحْنُ أَحَقُّ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْكُمْ. فَغَضِبَتْ وَقَالَتْ كَلِمَةً كَذَبْتَ يَا عُمَرُ كَلاَّ وَاللَّهِ كُنْتُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُطْعِمُ جَائِعَكُمْ وَيَعِظُ جَاهِلَكُمْ وَكُنَّا فِى دَارِ أَوْ فِى أَرْضِ الْبُعَدَاءِ الْبُغَضَاءِ فِى الْحَبَشَةِ 

 إلى آخره ..

فبينت أن الحياة هناك كانت صعبة قاسية حتى وصفتها بهذا اللفظ بما يفيد غاية الشدة والقسوة.

وهذا الحديث فيه مافيه من بيان الحال

وفيه نقاط أخرى ليس هذا محلها

5 ومما يدل على شدة الحال أن الرسول صلى الله عليه وسلم استدعى الصحابة قبل وفاة النجاشي بفترة قصيرة من وفاته وهذا من دلائل نبوته  فلما عاد الصحابة توفي النجاشي بعدها بقليل وصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ورد في الصحيح واستدل به الفقهاء على مشروعية صلاة الغائب.

ثم ولي الحبشة نجاشي آخر لم يكن مسلما فارسل له رسالة يدعوه إلى الإسلام كما ورد ايضا 

6 ومما يدل على اضطراب الحياة هناك وشدتها ماورد في رواية أن بعضهم افترى على أحد الصحابة فأخذ أي اعتقل ثم دفع رشا دينارين حتى أفرج عنه

وغير ذلك مما دل على أن الهجرة كانت إلى الملك وليس إلى المملكة 

فإن بها ملكا لايظلم عنده  أحد

هذا مدخل إلى الجواب 

ثم بعد

ولما لم تكن أرض الحبشة أرض حرية ودعوة لذا لم يتمكن الصحابة من حرية الدعوة إلى الله رغم أن عددهم كان كبيرا وأنهم كانوا من خيار الصحابة وكرامهم وكبارهم

ولو كانت أرض الحبشة أرض حرية لانتشرت الدعوة أسرع من المدينة المنورة

وعند المقارنة نجد أن من هاجر إلى المدينة معلما كان في الحبشة وهو مصعب بن عمير فعاش التجربة نفسها في الحبشة واستدعاه النبي صلى الله عليه وسلم ليكون معلما في المدينة فعندما هاجر إلى المدينة انتشر الإسلام بشكل سريع 

فحقق مصعب رضي الله عنه ومن معه على قلة عددهم نجاحا كبير في المدينة

ولم يستطع أن يحقق الصحابة الذين هاجروا إلى الحبشة على كثرة عددهم  في مدة خمسة عشر عاما إلا نتائج محدودة كما وعددا

فعدد من أسلم معهم لم يتجاوز المائة وقد ذكر أسماء من أسلم ابن حجر في الإصابة

كما أنه لم يكن بينهم  صاحب هيئة أو مكانة 

وغاية ماوجدناه فيهم ابن أخ أو ابن أخت النجاشي وكان مولى 

أي لم يكن صاحب شأن كبير 

بينما أسلم في المدينة سادة الأوسط والخزرج

وللحديث بقية وتفصيل.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين