الحياء من الله تعالى

 

1- الحياء – كما قيل – تغيُّرٌ وانكسارٌ يَعْتري الإنسان من تخوُّف ما يُعاب به، أو يذمُّ بسببه، وهو دليل على سموِّ النفس والحرص على الشرف والكرامة، ثم هو إلى ذلك يحول بين الإنسان وبين الإسفاف والهبوط والوقوع فيما فيه مَهانة وخِزْي وازدراء قدر، فمن يتصوَّر قبح الفواحش، كالزنا والبخل، وينفر منها طبعه، فإنَّ الحياء يَمنعه من الإقدام عليها، ويردعه عن الوقوع فيها. ومن يخشَ أن يظهر كذبه، ومن يحتمل أن ينكشف نفاقه إذا نافق، فإنَّ الحياء يمنعه من الكذب والنفاق، وما يُقال في الكذب والنفاق والفواحش يقال في غيرها من الرذائل والمنكرات التي تَواضع الناس على احتقارها وازدراء أقدار من يقعون فيها أو يتصفون بها، فإنَّ الحياء يمنع منها، ويحول دون الإقدام عليها.

2 – وإذا كان الحياء من الناس يمنعُ من الوقوع فيما يُنكرونه وينفرون منه ويحتقرون من يقع فيه، فإنَّ الحياء من الله تعالى يمنع المؤمن به أن يقع فيما يُغْضبه، أو يرتكب شيئاً مما نهاه عنه، لأنَّه يشعر بأنه معه حيث كان لا يَغيب عن علمه ما يخفيه وما يبديه، بل يعلم ما يدور في الصدور من وساوس وهواجس، ولا يعزب عنه مثقال ذرَّة في الأرض ولا في السماء، كما يقول جلَّ شأنه: [وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ] {البقرة:235}، وكما يقول تعالى: [وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ] {ق:16}، وكما يقول سبحانه: [يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] {الحديد:4}.

3 – ومن ثَمَّ كان الحياء من الإيمان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الحياء من الإيمان)، وكان من الخير بالمنزلة التي يشير إليها قوله عليه السلام لرجل من الأنصار كان يعظ أخاه: (دَعْهُ فإنَّ الحياء لا يأتي إلا بخير)، فالحياء من الناس يحمل الإنسان على احترام ما تعارفوا عليه من عاداتٍ صالحة، وتقاليدَ محمودة، والحياء من الله تعالى يجنِّبُه ارتكاب المآثم والجرائم، ويباعد بينه وبين المنكرات، ويسدِّد خُطاه على الطريق الذي شرعه وارتضاه، ويحقق في ضميره وشعوره معنى التقوى، فيتمثَّل كلَّ ما يأمره به ويتجنَّب كل ما ينهاه عنه، وينتظم بعمله وخلقه مع المتقين الذين يقول الله تعالى فيهم: [أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] {البقرة:5}.

4 – عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ، قَالَ: قُلْنَا: إِنَّا لَنَسْتَحْيِي يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: لَيْسَ ذَاكَ، وَلَكِنَّ مَنِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ فَلْيَحْفَظِ الرَّأْسَ وَمَا حَوَى، وَلْيَحْفَظِ الْبَطْنَ وَمَا وَعَى، وَلْيَذْكُرِ الْمَوْتَ وَالْبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ". [أخرجه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب إنما نعرفه من هذا الوجه من حديث أبان بن إسحاق عن الصباح بن محمد. وأخرجه الإمام أحمد، وابن أبي شيبة في مصنفه، والطبراني في الصغير، والكبير].

ومن ذلك يُفهم أنَّ الحياء من الله تعالى يثمر سلامة القلب واللسان، وصحة عمل الجوارح والقوى، وإيثار كل ما فيه الخير والحق، على كل ما فيه الشر والباطل، وهذا ما يفهم من كلمة التقوى في الاستعمال اللغوي بمعنى جعل النفس في وقاية، وفي الاستعمال الشرعي بمعنى امتثال الأوامر واجتناب النواهي، وقد قال تعالى: [وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ] {الطَّلاق:3}. وقال جلَّ شأنه: [وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا] {الطَّلاق:4}. وقال سبحانه: [ذَلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا] {الطَّلاق:5}.

5 – وليس من الحياء – طبعاً وشرعاً – الخوف من مُواجهة الظالم أو المجرم الآثم بإنكار ظلمه وجرمه وإثمه، فذلك جُبنٌ واستخذاء لا يَعرف قلب المؤمن، ولا مكان له في ضمير حُرٍّ كريم، وقد كان صلى الله عليه وسلم أشدَّ الناس حياءً، ومع ذلك لم يترك النهي عن منكر، ولا أحجم عن محاربة باطل، ولا سكت عن تصحيح خطأ أو تقويم انحراف، بل واجه الدنيا كلها وهي تتألَّب عليه وتتحزَّب ضِدَّه، بما عُرف عنه من صدق إيمان وقوة يقين، وشجاعة قلب، وسداد رأي، وقال لعمه – وهو يطلب الرفق به وبقومه – والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته.

صلى الله عليه وسلم ووفَّقنا إلى اتباع هديه، وجمَّلنا بفضيلة الحياء منه.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة الأزهر، السنة السابعة والأربعون، شوال 1395 - الجزء 8).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين