حدث في التاسع من ذي القعدة

الأستاذ محمد زاهد أبو غدة

 في التاسع من ذي القعدة من عام 647 توفي مقتولاً السلطان الملك المنصور نور الدين عمر بن علي بن رسول التركماني الأصل الغساني مؤسس الدولة الرسولية في اليمن.
 
وجاء تأسيس الدولة الرسولية في اليمن على أنقاض الدولة الأيوبية فيه، ويجدر بنا لذلك أن نراجع مراجعة سريعة تاريخ الأيوبيين في اليمن، وعلاقتهم ببني رسول:
 
قيل: إن الجد الأكبر رسول كان من ذرية جَبَلة بن الأيهم وإن اسمه: محمد بن هارون، وإنه كان انضم لبعض خلفاء بني العباسي، فاختصه بالرسالة إلى الشام وغيرها فعُرِفَ برسول وغلب عليه ذلك، ثم انتقل من العراق إلى الشام ثم إلى مصر، وخدم هو وأولاده بعض بني أيوب، وكانوا مقربين منهم لعلمهم بتقدم منصبهم في الملك وعلق هممهم وشدة بسالتهم وثبوت آرائهم.
 
تأسست الدولة الأيوبية في اليمن عندما تخوف السلطان صلاح الدين الأيوبي من أن يحاول الفاطميون تأسيس دولة فيها، فأرسل صلاح الدين أخاه الأكبر الملك المعظم توران شاه إلى اليمن في سنة 569، وأرسل صلاح الدين مع أخيه إلى اليمن خمسة من بيت رسول كان لهم في ديار مصر وجاهة ونباهة، واستحلفهم له، وأوصاهم بحسن صحبته والنصح في مسايرته وخدمته، وهم شمس الدين علي بن رسول، وأولاده بدرُ الدين الحسن، ونور الدين عمرُ، وفخر الدين أبو بكر، وشرف الدين موسى، وكانوا غاية في الشجاعة والأقدام وحسن التدبير في الحرب.
 
ولم يطل المقام بتوران شاه إذ لم تطب له اليمن فرجع إلى الشام في سنة 571، واستناب على زَبيد حطان بن كامل بن منقذ الكناني، وأضاف إليه أخوه السلطان صلاح الدين الإسكندرية، وبقيت نوابه باليمن يحملون إليه الأموال من زبيد إلى أن توفي بالأسكندرية في سنة 576.
 
فلما علم نوابهُ بموته اختلفوا فيما بينهم وتغلب كل واحدٍ منهم على ما تحت يدهِ، فأرسل السلطان صلاح الدين أخاه سيف الأسلام طُغتِكين بن أيوب إلى اليمن سنة 579 فاستتب له الأمور واستقر في مملكة اليمن، وبقي به حتى مات بزبيد في سنة 593.
 
ثم ملك بعده ابنه الملك المعز إسماعيل، وكان أهوج كثير التخليط، ادعى أنه قرشيٌ من بني أمية، وخطب لنفسه بالخلافة وتلقب بالهادي، وأساء السيرة فقتله أمراؤه سنة 598.
 
وأقام الأمراء بعده أخاه أيوب ولقبوه بالملك الناصر، وكان صغيراً فقام بتدبير مملكته سيف الدين سنقر مملوك أبيه اربع سنين ثم مات في سنة 610، فتزوج أمَّ الناصر أميرٌ من أمراء الدولة هو غازي بن جبريل، وقام بتدبير الدولة، ثم مات الناصر مسموماً على ما قيل، وحامت الشكوك حول غازي، فقتله جماعةٌ من العرب.
 
وبقيت اليمن بغير سلطان، فتغلبت أم الناصر على زبيد، وأحرزت عندها الأموال، وكانت تنتظر وصول أحد من بني أيوب لتتزوج به وتملكه البلاد، وكان للملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب ولد اسمه سعد الدين شاهنشاه، وكان له ابن اسمه سليمان، دخل في التصوف وكان يتنقل مع الصوفية من مكان إلى مكان، وكانت أم الناصر قد أرسلت بعض غلمانها إلى مكة في موسم الحج ليأتيها بأخبار مصر والشام، فوجد غلمانها سليمان المذكور، فأحضروه إلى اليمن، فاستحضرته أم الناصر وخلعت عليه وملكته اليمن، فملأ اليمن ظلماً وجوراً، وطلق زوجته أم الناصر وتزوج بغيرها، وكتب إلى السلطان الملك العادل في مصر وهو عم جده كتاباً جعل في أوله ﴿إنه من سليمان، وإنه بسم الله الرحمن الرحيم﴾.
 
وتبين للملك العادل ضعف عقل سليمان، فجهز جيشاً على رأسه سبطه - ابن ابنته - الملك المسعود يوسف بن الملك الكامل الملقب بأطسيس أو أطسيز، فدخل اليمن سنة 612 واستولى على مدائنها، وقبض على المظفر، وبعثه وأهله إلى القاهرة، فأجرى له الملك الكامل ما يقوم بمصالحه، ولم يزل المظفر مقيماً بمصر إلى أن استشهد بالمنصورة سنة 649. قال ابن خلكان: أطسيس، والعامة تقوله: أقسيس، وهي كلمة تركية مركبة تفسيرها: ليس له اسم، ويقولون: من لا يعيش له ولد ويسمي ولده أطسيس يعيش الولد.
 
ووقف آل رسول مع الملك المسعود في هذه الحملة وأسدوا إليه خالص النصح وأيدوه بقوتهم وجاههم، وتوفي والدهم شمس الدين علي سنة 614، فعين الملك المسعود أولاده أمراء على المناطق، فولى الأمير بدر الدين الحسن صنعاء، وولى الأمير نور الدين عمر الحصون فأقام فيها مدة، ثم ولاه مكة المكرمة، ورتب معه ثلاثمائة فارس، وحصل بينه وبين صاحب مكة حسن بن قتادة وقعة انكسر فيها حسن، ودخل المنصور مكة واستولى عليها، وعمر في أيام ولايته المسجد في التنعيم الذي اعتمرت منه عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، ودار أبي بكر الصديق رضي الله عنه في زقاق الحجر.
 
ثم استدعاه من مكة المكرمة وجعله أتابكه ومتولي أمر عساكره وأموره كلها، وفي سنة 620 خرج الملك المسعود إلى مصر، وترك في اليمن نور الدين عمر بن علي بن رسول نائباً نيابة عامة، وبدأت حركات التمرد في الظهور حتى كادت تهدد الدولة الأيويية فتصدى لها آل رسول بحزم وشجاعة وقضوا عليها.
 
وعاد الملك المسعود سريعاً إلى اليمن في أوائل سنة 624، ثم قام باعتقال بني رسول وإيداعهم السجن، ويبدو أن سبب ذلك كان خوف بني أيوب على مُلك اليمن من بني رسول لما شاهدوه فيهم من الشجاعة والإقدام وعلة الهمة وبُعد الصيت وحسن السياسة وتمام مكارم الأخلاق، ولكنه أطلق سراح نور الدين عمر من يومه وبقي على ثقته فيه، وإن بعث بإخوته مقيدين إلى عدن ومنها إلى مصر.
 
وفي أوائل سنة 626 توجه الملك المسعود للعودة ثانية إلى مصر، وكان سبب ذلك وفاة عمَّه الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وكان يومئذ صاحب دمشق. فكتب إليه ولده الملك الكامل السلطان يستدعيه إليه ليعطيه دمشق، ففرح فرحاً شديداً، وسافر وقد أبتدأ به المرض، فطلب أتابكه نور الدين عمر بن عليّ بن رسول، وقال له: قد عزمت على السفر، وقد جعلتك نائبي في اليمن، فإن مُتُّ فأَنت أولى بمُلك اليمن من إخوتي، لأنك خدمتني وعرفتُ منك النصيحة والاجتهاد، وإن عشت فأَنت على حالك، وإياك تترك أحداً يدخل اليمن من أهلي ولو جاءك الملك الكامل ولدي مطوياً في كتاب!
 
وسافر الملك المسعود إلى مصر عن طريق الحجاز، ووصل إلى مكة المكرمة وقد اشتد به المرض، فأقام أياماً إلى أن توفي بها في ربيع الأول من سنة 626، وكان شاباً قيل إن عمره يوم توفي 27 سنة.
 
وكان قد حمل معه ثروة اليمن من الذهب والفضة والجواهر الغالية والطُرف والغلمان والجواري، فذهب بها إلى القاهرة مملوكه الأمير حسام الدين لؤلؤ مع أولاد سيده وحاشيته وأمواله وحشمهِ وآلتهِ.
 
وذكر أبو المظفر سِبطُ ابن الجوزيّ في كتابه مرآة الزمان: أن الملك المسعود تجهز بجهاز عظيم لم يسبقه إليه ملك من العبيد والجواري والجواهر واللآلئ والأحجار النفيسة، وفاخر الأقمشة والملبوس منها سبعون ألف ثوب صيني معلم بالذهب، حتى قيل إن عدد مراكبه كان سبعين مركباً. ثم وصفه ابن الجوزي بأنه كان ظالماً شديد الظلم، سيئ السيرة في رعيته، سفاكاً للدماء، حتى قيل أنه قتل في اليمن ثمانمئة رجل من أولاد الحسنين. قال مؤرخ الدولة الرسولية عليُّ بن الحسن الخزرجي: هذا شيء لا يقبله العقل ولا يصدقه النقل، ولا يوجد في اليمن كله من أعيانِ الأشراف الحسنيين مائة رجل، ولا ذكر هذا ولا ما يشابهه أحد من علماء التاريخ باليمن، والله اعلم!
 
ولما وصل خبر وفاة الملك المسعود إلى اليمن، أظهر نور الدين أنه نائب للمسعود ولم يغير سكةً ولا خطبةً، واضمر الاستقلال بالملك، وجعل يولي في الحصون والمدن من يرتضيه ويثق به، ويعزلُ من يخشى منه خلافاً، ومن ظهر منه عصيان أو خلافُ عمل في قتلهِ وأسره، ثم استقل بعد ذلك بملك اليمن، وتلقب بالملك المنصور.
 
وكان نور الدين من أهل العزم والحزم، سريع النهضة، محراباً لا يسأم الحرب، وكان جواداً كريماً صاحب حلم ودهاءٍ، وكان يومئذ مقيماً بزبيد في وسط اليمن فتوجه لبسط سلطانه بإخضاع الحصون واحداً تلو الآخر وكان يفضل الصلح والوسائل السلمية على الحرب، ولذا نجده يتفق مع أمراء هذه الحصون ويقرهم على إمارتهم ما داموا قد اعترفوا بسلطانه، بل ويعفو عمن هزمه من أمرائها، ويعيد إليهم إماراتهم، وكان يغدق الأموال على من نزل على طاعته، واستمرت حملته هذه ثلاث سنوات استبب له بعدها حكم اليمن وخضع له أمراؤها، واستخدم السلطان العساكر وأنفق الخزائن وأَتلف الأموال، فكانت الأكياس تصبُّ بين يديه صبا كما تُصبُّ أعدالُ الطعام.
 
واتجه السلطان نور الدين لتوطيد سلطانه، فأمر في سنة 630 بضرب السكة على اسمه، وأمر الخطباءَ أن يخطبوا له في سائر أقطار اليمن، وسعى على الصعيد الخارجي ليحصل على اعتراف به من الخليفة العباسي في بغداد، فأرسل في سنة 631 هدية عظيمة إلى الخليفة المستنصر في بغداد، وطلب تشريفة السلطنة والتقليد بالنيابة كما هي تقاليد الملوك، فعاد الجواب بأن التشريفة تصلك إلى عرفات، فخرج من اليمن يريد الحج، وأرسل الخليفة التشريفة والتقليد صحبة الحاج من العراق فبلغ حاجُّ العراق إلى نصف الطريق فقطعت العربان عليهم الطريق ودفنوا المناهل، فتأخر الحاجُّ في الطريق إلى أن فاتهم الحجُّ فرجعوا إلى بغداد، ولم يصل منهم في ذلك العام أحدُ.
 
وفي سنة 632 وصلت كسوة الكعبة من بغداد، ومعها رسولُ من الخليفة المستنصر إلى السلطان نور الدين، فارتقى الرسول على المنبر وقال: يا نور الدين أن العزيز يقرئك السلام ويقول: قد تصدقت عليك باليمن ووليتك إياه. والبسهُ الخلعة الشريفة الخليفية على المنبر.
 
وأرسل نور الدين كذلك رسولاً إلى الملك الأيوبي في مصر في سنة 632، ولينهي إليه أنه استولى على جميع بلاد اليمن، وأنه مخلصٌ في طاعة الديوان، ويسأل قبول ما سيره من التحف والهدايا.
 
وتوجه نور الدين عمر لبسط سلطانه على مكة المكرمة، وكانت قبل قليل تتبع السلطنة الأيوبية في اليمن، وكان هو والياً عليها من قبل الملك المسعود في سنة 617، وابتدأت بذلك سلسلة من الكر والفر بينه وبين سلاطين الأيوبيين في مصر.
 
ففي سنة 629 أرسل إلى مكة جيشاً صحبته الشريف راجح بن قتادة، فنزلوا بالأبطح وحصروا مكة، وأرسل الشريف راجح إلى أهل مكة يذكرهم إحسان السلطان نور الدين أيام نيابته بمكة عن الملك المسعود، فمال رؤساء مكة إليه، فلما أحس بذلك واليها الأمير طغتكين خاف على نفسه فخرج خائفاً وقصد وادي نخلة، فدخل راجح ومن معه، وخطبوا فيها للملك المنصور نور الدين.
 
ولما وصل الخبر للملك الكامل في مصر، جهز جيشاً كبيراً من مصر، ووصل الجيش في رمضان، وهزم أنصار الملك المنصور الرسولي، واستولى على مكة أميرها الأول طغتكين، فقتل من اْهل مكة خلقاً كثيراً وأُنهبت ثلاثة أيام وأظهر حقده عليهم، وأخافهم خوفاً شديداً.
 
وفي سنة 630 جمع الشريف راجح جموعاً عظيمة، وأمده الملك المنصور بعساكره، فقدم مكة، وطرد طغتكين وعسكرَ الملك الكامل صاحب مصر، فلما علم بذلك الكامل جهز عسكراً مع الحاج من سبعمئة فارس، فلما وصل الحاج واتضح أمر العسكر خرج الشريف راجح من مكة فدخلها العسكر المصري من غير محاربة وطيبوا قلوب أهلها وعدلوا فيهم وأحسنوا، وحج بالناس أمير يسمى الزاهد، وترك في مكة أميراً يقال له ابن مجلي في خمسين فارساً أقام بمكة فعدل وأحسن السيرة.
 
وفي سنة 631 أمدَّ الملك المنصور الشريف راجح بعسكر جرار، فدخل راجح مكة وأخرج ابن مجلي ومن معه، فلما وصل الحاج المصري سمع الشريف راجح أن الملك الكامل قدم من القاهرة للحج على ميعاد مع الخليفة العباسي في بغداد، فخرج راجح من مكة، فلما رجع الملك الكامل إلى مصر، عاد راجح إلى مكة، وأثارت مبادرته هذه استياء الملك المنصور.
 
وفي سنة 632 وصل جيش مصري فيه ألف فارس، فخرج الشريف راجح إلى اليمن، فجهزه الملك المنصور بعسكر، وأرسل قناديل ذهب وفضة لتعلق في جوف الكعبة، ولكن العسكر المصري هزم راجحاً وجيشه، وأسروا راجحاً وأرسلوه إلى مصر.
 
وفي سنة 635 خرج السلطان نور الدين عمر من اليمن قاصداً مكة في ألف فارس، وأرسل للجند الذين بمكة أن كل من جاء إليه يعطيه ألف دينار وحصاناً وكسوة، فمال إليه كثير من الجند، وآثروه على مولاهم، ووفى لهم بما وعدهم، وأرسل إلى الشريف راجح، فانضم إليه في ثلائمئة فارس، وأدركت الحامية المصرية ضعف موقفها، فانسحبت من مكة، وأحرم السلطان بعمرة في رجب، وتصدق على أهل مكة بأموال جزيلة، وصارت الخطبة بمكة للملك المنصور.
 
وفي سنة 635 توفي الملك الكامل في القاهرة وخلفه ابنه الملك الصالح نجم الدين أيوب، فأرسل في سنة 637 ألف فارس إلى مكة عليهم الشريف شيحة بن قاسم الحسيني أمير المدينة الشريفة، فلما سمع بهم راجح ومن معه من عساكر الملك المنصور، فروا إلى اليمن وأخلوا مكة، فدخلها شيحة وملكها ونهبها، فلما بلغ ذلك المنصور جهز الشريف راجحاً بعسكر معه إلى مكة، فلما أحس بهم الحسيني فر هارباً من مكة وأخلاها.
 
ورغم الهزيمة التي لحقت بجيشه أبدى السلطان نور الدين عمر رباطة جأش وحسن تدبير وتصرف، فقد ذكر أحد شهود العيان فقال: ما رأيت أربط جأشاً ولا أطلق وجهاً من السلطان نور الدين، وقد أقبل إليه العسكر مغلوبين مهزومين فلم يتلعثم ولم يتوقف في خبر كسرهم وإصلاح أُمورهم بالخيل والعدد والملابس والنفقات حتى عادوا أحسن حالاً وأجمل قشرة مما كانوا عليه.
 
وفي موسم سنة 639 جهز الملك الصالح جيشاً ليدخل مكة قبل موسم الحج، وبلغ خبره الملك المنصورفتجهز وخرج إلى مكة بجيش كثيف، فهرب المصريون، ودخل السلطان عمر بن رسول مكة المكرمة، وصام رمضان فيها، وأبطل المكوس والجبايات والمظالم، وكتب ذلك في رخامة مربعة جعلت قبالة الحجر الأسود في حائط زمزم، وعين أحد مماليكه الأمير فخر الدين بن السلاح أميراً على مكة المكرمة، إلى جانب أحد الأشراف.
 
وفي سنة 646 عزل الملك المنصور الأمير فخر الدين بن السلاح، وعين محله الأمير أحمد بن محمد بن المسيب، وبدرت من الأمير الجديد بوادر تمرد على السلطان الرسولي، فاستغل ذلك الشريف الحسن بن علي بن قتادة وهاجمه في سنة 647 وهزمه واستولى على أمواله، طامعاً في أن يصبح له الأمر، ولكنه لم يظهر إلا الطاعة للملك المنصور، وادعى أنه فعل ذلك لتحققه من أن الوالي السابق كان ينوي الخروج على الملك المنصور، والذهاب بهذا المال إلى العراق، ثم وردت الأخبار بعد أيام يسيرة بموت الملك المنصور، فقوي أمر الشريف الحسن بن علي، وكان شجاعاً جلداً كريم الأخلاق شديد الحياء، جمع الشجاعة والكرم والعلم والعمل، ودامت ولايته على الحجاز نحو أربع سنين وأشهر إلى أن قتله ابن عمه جماز ابن حسن بن قتادة سنة 651.
 
واستمر الملك المنصور في بسط سلطانه ونفوذه في اليمن وحصونها ومخاليفها، وتخللت هذه السنوات حركات تمرد تمكن من القضاء عليها، ومن أبرزها تمرد قامت به الطائفة الزيدية بقيادة الإمام أحمد بن الحسين كاد أن يطيح به وتسبب في إضعافه عسكرياً ومالياً.
 
وفي ليلة التاسع من ذي القعدة من سنة 647 وثب على الملك المنصور جماعة من ممالكيه فقتلوه بتحريض من أحد أبناء أخيه، وسلطنوا ابن اخيه فخر الدين أبا بكر بن حسن، ولقبوه بالمعظم، فلم يستمر ذلك، فقد نهض ابنه الأكبر المظفر على قلة ما تحت يده من الرجال والمال فأبدى من العزيمة وعلو الهمة ما حببه إلى القلوب فتوالى تأييد القبائل له حتى استتب له الأمر ودانت له اليمن، فسار فيها سيرة والده بالعدل والإنصاف، ودام حكمه 47 سنة إلى وفاته سنة 694.
 
كان الملك المنصور ملكاً كريماً، حاذقاً حليماً، حسن السياسة، شريف النفس، عالي الهمة، سريع النهضة عند الحادثة، فارساً شجاعاً محراباً لا يمل الحرب، ومن الدلائل على ذلك مناجزته العساكر المصرية عن مكة المكرمة مرة بعد أخرى، ولم يقنعه استقلاله باليمن بعد أن كان نائباً لهم فيها، بل قاتلهم عن مكة وطردهم عنها وعن الحجاز، وانتظم له ولبنيه ملك الحجاز واليمن 232 عاما.
 
وسلك مسلك الدولة الأيوبية في الاستكثار من المماليك حتى بلغت ممالكيه البحرية ألف فارس، وكانوا يحسنون من الفروسية والرمي ما لا يحسنه مماليك مصر، وكان معه من المماليك الصغار قريب منهم في العدد، عدا ما عند حلقته وعساكر أمرائه.
 
وترك السلطان المنصور نور الدين رحمه الله آثاراً عمرانية جليلة، منها مدرسة بمكة المكرمة، ومدرستان في مدينة تعز، ومدرسة في عدن، وثلاث مدارس في زَبيد، يعرفن بالمنصوريات، مدرسة الشافعية ومدرسة الحنفية ومدرسة الحديث النبوي، ومدرسة في وادي سهام، ورتب في كل مدرسة مدرساً ومعيداً للدرس، وإماماً ومؤذناً ومعلماً وأيتاماً يتعلمون القرآن، ووقف على الجميع أوقافاً بعيدة تحملهم وتقوم بكفايتهم جميعاً، وبني في كل قرية من التهائم مسجداً ووقف عليها أوقافاً جيدة، وأمر بعمارة البِرْك وهو جبل متصل بالبحر فيما بين مكة واليمن، ورتب فيه العساكر لمحاربة بني أيوب.
 
كان السلطان نور الدين متديناً حسن الاعتقاد بالصالحين محباً لهم، وكان على علاقة وثيقة بالفقيه أحمد بن الفقيه إبراهيم بن أبي عمران، المولود سنة 557 والمتوفى سنة 632، وكان السلطان نور الدين يحبه ويعتقده، وبنى السلطان في تعز مدرسة عرفت بالوزيرية، نسبة إلى مدرسها، فلم يزل يتلطف بالفقيه ويرسل إليه حتى نزل من بلده وقعد في المدرسة ودرس بها.
 
ومن شعر الفقيه ابن أبي عمران ما كتبه بخطه لقوم أجازهم عقيب سماع البخاري:
 
فيا سامعاً ليس السماع بنافع ... إذا أنت لم تعمل بما أنت سامعُ
 
إذا كنت في الدنيا عن الخير زاهداً ... فما أنت في يوم القيامة صانع؟
 
وقال له السلطان نور الدين: إني أحب أن أقرأَ عليك، وترددي في كل يوم إلى المدرسة يشق علي وعليك وعلى الناس، فإن رأيت أن يأْتيك الركبدار في يوم ببغلة تركبها وتطلع إلينا الحصن فاقرأْ عليك في خلوة فافعل. فاستعفاه ابن أبي عمران من ركوب البغلة، وقال: أنا أطلع كل يوم بدرسيّ - أي تلميذ - من أصحابي يؤنسني، فكان يطلع الحصن كل يوم ويطلع معه درسي من أصحابه، فإذا وصل إلى باب السادة وقف الدرسي ويدخل الفقيه من غير إذن، فيقرأُ عليه السلطان ما شاء الله، ثم يخرج الفقيه، فكان هذا دأْبه.
 
وكان السلطان رحمه الله إذا أراد أن ينزل من الحصن يأمر من يسبقه إلى الفقيه يسأله أن يقف له على باب المدرسة، فإذا قابل السلطان ذلك الموضع طرح السلام، ثم رفع يده يشير إلى الفقيه أن يدعو، فيفهم الفقيه الإشارة فيدعو والسلطان واقف رافع يده، فإذا مسح الفقيه وجهه مسح السلطان وجهه، ثم يستمر السلطان في سيره حيث يريد

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين