حدث في الثاني والعشرين من ذي القعدة

في الثاني والعشرين من ذي القعدة من سنة 965= 5/9/1558 وقعت معركة مزغران قرب مستغانم في غربي الجزائر بين جيش عثماني يقوده حسن باشا ابن خير الدين بربروس وبين جيش إسباني أرسله الملك فيليب الثاني، وانتهت المعركة بانتصار العثمانيين وهزيمة الإسبان هزيمة منكرة صارت تعرف عندهم بكارثة مستغانم، والجدير بالذكر أن كثيراً من المراجع العربية والأوروبية تجعل تاريخ هذه المعركة في 12 ذي القعدة سنة 965=26/8/1558، وهو تاريخ خروج الحملة من وهران، أما المراجع التركية التاريخية المعتمدة فتجعلها في 5/9/1558 الموافق 22 ذي القعدة.

 

وكانت هذه المعركة ضمن حرب طويلة شملت البر والبحر، ودامت عشرات السنين بين الدولة العثمانية وبين الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وتزعم الحرب السلطان سليمان القانوني في الجانب العثماني والإمبراطور شارل الخامس عن الجانب الإسباني، وشهدت تحالف العثمانيين تحالفاً وثيقا مع الملك الفرنسي فرانسوا الأول في مواجهة الإسبان عدوهما المشترك، وكان الأسطول العثماني يعمل من موانئ الجزائر التي كانت قاعدة العثمانيين الأولى للتصدي للإسبان في البحر المتوسط.

 

ولذا لم تكن هذه أول مرة يهاجم فيها الإسبان ميناء مستغانم، فقد سبق لهم أن احتلوها في سنة 1506 ضمن حملة طويلة الأمد واسعة النطاق هدفت إلى السيطرة على سواحل شمالي أفريقيا، حين استولوا على مليلة في 1496، ثم المرسى الكبير في سنة 1505 ثم وهران ذاتها في سنة 914=1509 وتلتها بجاية وطرابلس الغرب في سنة 1510.

 

وتصدى للحملة الإسبانية القائد البحري الشهير خير الدين بربروس، فاسترجع في سنة 922=1516 مستغانم وقوّى دفاعاتها، وأعلن في سنة 925 ولاءه للدولة العثمانية فأصبح القائد العثماني المفوض في شمال أفريقيا، واجتثّ الوجود الإسباني في مدينة الجزائر في سنة 935=1529 عندما طرد الإسبان من حصن أقاموه على جزيرة صخرية مطلة على مدينة الجزائر.

 

ولم يستطع بربروس أن ينتزع وهران من الإسبان، فاتجه لتطوير مستغانم التي أصبحت ميناءً ينافس وهران، وحاول الإسبان مراراً الاستيلاء على مستغانم دون جدوى، وكانت آخر حملاتهم تلك التي شنوها في عامي 950=1543 و954=1547، والتي تمكنت فيها القوات العثمانية من صدهم بمساعدة أساسية من القبائل التي انضوت تحت راية سلطان المسلمين العثماني.

 

وشهدت تلك السنوات نجاحاً باهراً للعثمانيين في طرد الإسبان من طرابلس الغرب والمهدية في تونس، وأطلقت الدولة العثمانية يد غزاة البحر المسلمين ليهاجموا السفن الإسبانية ويعودوا محملين بالغنائم، فقد كان العداء على أشده بين الدولة العثمانية بقيادة السلطان سليمان القانوني وبين الإمبراطورية الإسبانية بقيادة الإمبراطور شارل الخامس، وكان البحر المتوسط ساحة قتال مستمر بين الأسطول العثماني الذي قاده خير الدين بربروس حتى وفاته في سنة 953=1546، ومنذ أن تولى بربروس قيادة الأسطول كان نائبه في ولاية الجزائر وموانئ المغرب العربي ابنه حسن باشا الكبير مدة تقارب 13 سنة، ثم عزله السلطان في سنة 949=1542، وجعل مكانه ابناً آخر لبربروس، ويدعى كذلك حسن باشا، وكان عمره آنذاك حوالي 25 سنة، وأصبح الابن والي الجزائر بالأصالة عند وفاة والده بعد 4 سنوات، وكان من أعماله أن احتل تلمسان وجعلها وملكها تحت السيادة العثمانية، ثم عزل السلطان حسن باشا في سنة 958=1551 وجعل محله صالح باشا قازداغلي، أحد كبار قادة البحرية العثمانية، والبالغ من العمر 63 عاماً، والذي شارك في معارك بحرية كبيرة ظافرة ضد الإسبان في البحر المتوسط، منها معركة بريفيزا في سنة 945=1538، وكان آخرها فتح طرابلس الغرب واسترجاعها من أيدي فرسان القديس يوحنا، وتسميه المراجع التركية: صالح ريس، وقد أطلقت اسمه البحرية التركية على إحدى فرقاطاتها.

 

وشهد المغرب الأقصى في تلك السنوات استتباب أمر دولة السعديين وأفول دولة الوطاسيين، وصعود نجم الملك محمد السعدي، المعروف بالشيخ، والملقب بالسلطان المهدي، والذي خلع أخاه أبو العباس أحمد سنة 946، ثم استولى على مراكش سنة 951، وعلى فاس سنة 956، وحاصر العثمانيين في تلمسان 9 أشهر حتى دخلها في منتصف سنة 957، ثم عاد العثمانيون فكرَّوا عليه وأخرجوه.

 

وهرب الملك أبو حسون الوطاسي من فاس إلى القائد العثماني صالح في الجزائر سنة 956 وطلب منه أن يعينه على استرداد ملكه وتراث أجداده، ووعده بمال جزيل، فاستجاب له وأعد جيشاً كبيراً هزم محمد الشيخ في معركتين واستولى على فاس في صفر من سنة 961، ثم كثرت شكاية الناس من الترك وتعدياتهم فبادر الوطاسي بدفع ما اتفق معهم عليه من المال وأخرجهم عن فاس، وبقي بها منهم نفر يسير، ثم سار بعدها صالح باشا إلى بجاية شرقي مدينة الجزائر وانتزعها من الإسبان بعد حصار دام 12 يوماً.

 

ولما خرج الأتراك من فاس عاد السلطان الشيخ السعدي من مراكش وهاجم فاس وحاصرها حتى استولى عليها في شوال من سنة 961، وقتل أبا حسون الوطاسي، وبموته انقرضت الدولة المرينية في المغرب، واستعمل الشيخ السعدي الأتراك الذين بقوا في فاس ليكونوا حرسه الخاص.

 

وانقرضت كذلك في الفترة دولة بني زيان في تلمسان، وذلك في أواسط سنة 952=1545، حين هاجمها حسن باشا ابن بربروس، ونفى عنها أمراءها، وصارت تلمسان تابعة لولاية الجزائر العثمانية.

 

وفي سنة 962=1555 تحرك صالح باشا بقواته من مدينة الجزائر وحاصر بجاية مدة 14 يوماً، وقصفت مدافعه حصنيها حتى تهدما، فاستسلم حاكمها الإسباني الفونسو دي بيرلاتا، وسلم المدينة وفقاً لاتفاق سمح له بالعودة إلى إسبانيا مع جنوده، حيث أعدمه الإمبراطور شارل الخامس في ميدان فالنسيا.

 

وفي سنة 962=1556 حاصر صالح باشا بقوات بحرية وبرية مدينة وهران بغية انتزاعها من الإسبان تمهيداً لطردهم من سواحل الجزائر، ولكنه لم يستطع اقتحامها نظراً للمقاومة الكبيرة التي أبداها المدافعون الإسبان، فانسحب منها وتوفي أثناء ذلك، وانتهز ذلك الملك المغربي محمد السعدي، المعروف بالشيخ، والملقب بالسلطان المهدي، ليحاول ثانية أخذ تلمسان من العثمانيين، لكن مقاومة العثمانيين لم تمكنه من ذلك، وعين السلطان على ولاية الجزائر حسن باشا ابن بربروس وذلك للمرة الثانية.

 

وفي تلك السنة اعتزل الإمبراطور شارل الخامس حكم إسبانيا لصالح ابنه فيليب الثاني، بعد قرابة 40 سنة من جلوسه على عرشها، فقد أصبحت صحته لا تؤهله لمتابعة حكم إسبانيا والإمبراطورية، وأدركته منيته بعد ذلك بسنتين في سنة 965=1558 عن عمر قارب 58 سنة.

 

وأرسل السلطان سليمان القانوني رسولاً للملك محمد الشيخ هو الفقيه الصالح أبو عبد الله محمد بن علي الخروبي الطرابلسي نزيل الجزائر، فقدم عليه سنة 961 في مراكش، وكان الرسول يحمل تهنئة من السلطان سليمان القانوني للملك باستتباب الأمر له، ويعرض عليه المهادنة وتحديد البلاد على أن يكون الدعاء له على منابر المغرب، وأن يكتب اسمه على سكته، كما كان السلطان الوطاسي يفعل، فأكرم الملك وفادته إلا أنه لم تظهر ثمرة لمقدمه، فعاد الرسول بلا جواب، ويبدو أن الملك غضب من هذا الطلب وقال للرسول: لا جواب لك عندي حتى أكون بمصر إن شاء الله، وحينئذ أكتبُ لسلطان القوارب. وكان الملك محمد الشيخ لجهله بقوة الدولة العثمانية وسطوة السلطان سليمان القانوني، يطلق لسانه مستهزئاً بالسلطان، وينبزه بسلطان الحوّاتة؛ أي صيادي السمك، لأن العثمانيين كانوا أصحاب أساطيل وسفر في البحر.

 

وبدأ السلطان في تشكيل تحالف مع الملك الإسباني الإمبراطور شارل الخامس العدو اللدود للدولة العثمانية، وأثار هذا غضب السلطان سليمان القانوني واعتبر هذا تفريطاً بالدماء المسلمة التي أريقت في صد الإسبان عن المغرب، فأرسل الصدر الأعظم 12 رجلاً من فُتّاك الترك إلى رئيس الحرس الخاص للملك محمد الشيخ، ليسهل لهم الدخول على السلطان واغتياله، فقتلوه غيلة في آخر سنة 964=1557، وهربوا برأسه إلى استانبول، وتولى مكان الملك القتيل ابنه عبد الله الملقب الغالب بالله والمولود سنة 933، والذي اتصل بالملك الإسباني فيليب الثاني، الذي كان قد تولى الحكم حديثا، لمساعدته على مواجهة العثمانيين.

 

وفي أوائل سنة 965=1558 أعد حسن باشا حملة بحرية انطلقت من مستغانم في الجزائر وألقت مراسيها في ميناء غرب مليلة، حيث نزل حسن باشا وقواته وتقدم نحو فاس بهدف القضاء على الدولة السعدية وضم المغرب الأقصى إلى الدولة العثمانية، وتصدى لحسن باشا جيش السعديين بقيادة السلطان الغالب بالله والمكون من 45.000 جندي و30.000 خيال و4.000 من رماة البنادق والمدفعية، والتقى الطرفان في منتصف سنة 965=1558 في معركة وادي اللبن شمالي فاس، ولم تكن نتيجة المعركة حاسمة، إلا أن حسن باشا لم يتابع القتال فقد وصلته أخبار أن الإسبان يحضرون في وهران لهجوم على تلمسان منتهزين فرصة انشغاله بالحرب، فانسحب بجنوده إلى سفنه ومنها أبحر عائداً إلى الجزائر.

 

وخرجت الحملة الإسبانية في شوال من سنة 965=1558، وكانت تتكون من جيش قوامه 12.000 جندي إسباني إلى جانبهم عدد مماثل من القبائل المحلية المسلمة، وأرسل فيليب الثاني 6500 جندي من خيرة جنوده من مالقة إلى وهران ليكونوا في طليعة القوات الإسبانية، وقاد الحملة حاكم وهران الإسباني؛ مارتين ألفونسو كونت دي الكاوديتة وابنه مارتين مركيز دي كورتيس، وهو نبيل إسباني ذو تاريخ عريق في الاحتلال الإسباني لشمال أفريقيا، فقد حكم وهران منذ 24 سنة، وكان هو قائد الحملتين الإسبانيتين السابقتين على تلمسان في عامي 950=1543 و954=1547.

 

وكان الهدف الأول للحملة احتلال تلمسان، ثم علم الكونت أن الريس علي علوج باشا أمير تلمسان قد علم بخروجه واستعد لمواجهته، فقرر أن يغير وجهته إلى مستغانم، واستطاعت الحملة الإسبانية أول الأمر أن تحتل ميناء الجديدة، ثم هاجمت بعدها مستغانم وحاصرتها، وهاجمت بلدة مزغران القريبة من مستغانم واستطاعت احتلالها.

 

وهاجمت 5 سفن عثمانية السفن الإسبانية الراسية في ميناء قريب واستولت على 4 سفن إمداد تابعة للحملة الإسبانية كانت تحمل الذخيرة والقنابل اللازمة للحصار، فلم يعد بمقدور الإسبان حصار مستغانم فترة طويلة، ثم ما لبث حسن باشا أن وصل مع قواته، وكان جيشه يضم 6.000 تركي و16.000 جزائري مسلم، فأصبح الإسبان محصورين بينه وبين مستغانم.

 

وانتهت الحملة بهزيمة ساحقة عاجلة للإسبان في الثاني والعشرين من ذي القعدة، ذلك إن أفراد القبائل المسلمة الذي كانوا مع الجيش الإسباني، والبالغ عددهم 12.000 جندي، انسحبوا لما رأوا رايات الجيش العثماني يقوده حسن باشا ابن خير الدين بربروس، وكانت تلك قاصمة الظهر، ودبت الفوضى في صفوف الإسبان، وعبثاً حاول الكونت وابنه ضبط جنودهم الذين شرعوا في الهرب، وحاولوا دون جدوى شن هجمات مضادة، وقرر الإسبان الانسحاب تحت جنح الظلام، ولكن كان حسن باشا وجنوده وراءهم بالمرصاد، حتى أسروا أغلبهم وقتلوا نحو ألف منهم، وقتل الكونت الكاوديتة وأُسر ابنه، وبقي في الأسر حتى دفع فدية مقدارها 23.000 قطعة ذهبية، وكان الإمبراطور شارل الخامس في شدة المرض فأخفى عنه ذووه خبر هذه الهزيمة الكارثية.

 

وشارك في المعركة الشيخ الصوفي سيدي لخْضَر بن خلّوف؛ بلقاسم عبد الله بن خلوف المُغْراوي، المتوفى سنة 1024، وقد نظم قصيدة باللغة الدارجة خلّد فيها هذه الموقعة، منها:

 

يا سايلني عن طراد الروم ... قصة مزغران معلومة

من بني راشد وآل سويد ... وفراسين النطح عبد الواد

يا مغراوة اتحزموا للكيد ... منكم خلفت سلاطين وأجواد

يا تيجان الحرب ليس بعيد ... من مات سكن جنة الميعاد

الأمير حسن يوم مزغران ... اخلف الثار من العدو تحقيق

رجع للبهجة روضة البلدان ... بغنايم شتى ونصر لبيق

ادعوا له يا ناس بالغفران ... يجعل له ربي يوم المضيق طريق

وقام حسن باشا في السنة التالية بالهجوم على بجاية لمعاقبة القبائل التي تعاونت مع الإسبان، وبعد 5 سنوات في سنة 970=1563 قام حسن باشا بالهجوم على وهران، وحاصر الإسبان فيها من البحر والبر مدة 26 يوماً، وكان يقودهم المركيز دي كورتيس أسيره السابق، وتكبد الطرفان في هذه المعارك خسائر جسيمة، ولم يستطيع حسن باشا كسر دفاعات المدينة، فانسحب متوقعاً أن تكون إسبانيا في هذه الأثناء قد أعدت أسطولاً بحرياً كبيراً سترسله لفك الحصار، فرفع الحصار وانسحب بسفنه وقواته، وكان توقعه في محله فقد وصل ذلك الأسطول بعد انسحابه بيومين، وفي سنة 1567 استدعى السلطان العثماني حسن باشا إلى استانبول حيث جعله، مثل والده، قائد البحرية العثمانية، وتوفى هذا القائد العظيم في استانبول في سنة 980=1572.

 

يعتبر الانتصار في معركة مزغران معلماً هاماً في تاريخ الجزائر، يحتفل به الجزائريون كل عام، فقد مهد الطريق لتوحيد ولاية الجزائر تحت لواء الدولة العثمانية، وتخلت إسبانيا بعد الهزيمة عن تطلعاتها للتوسع في غرب الجزائر، ونأت بنفسها عن معاونة ملوك السعديين ضد الدولة العثمانية، ونشب الشقاق بين الغالب بالله وبين أخوته عبد الملك وعبد المؤمن وأخوهما الصغير أحمد، ولجأ هؤلاء إلى ولاية الجزائر العثمانية، وذهب عبد الملك وأخوته إلى استانبول وشاركوا في الحملات البحرية العثمانية، وأسره الإسبان في معركة ليبانتو وسجنوه في وهران، فهرب من السجن وشارك مع الأسطول العثماني في تحرير تونس سنة 982=1574، ولما تولى السلطان مراد الثالث عرش السلطنة في سنة 982= 1574 أصدر أوامره لنائب السلطنة في الجزائر أن يمد عبد الملك بالجنود، وكان أخوه الغالب بالله قد توفي سنة 982=1574 وتولى العرش ابنه محمد الثاني،  فاستطاع أن يدخل فاس في سنة 984=1576، وأعلن تبعيته للسلطان العثماني بالدعاء له على المنابر، ولكن ابن أخيه لجأ إلى سيباستيان ملك البرتغال، وكانت في أوج قوتها، فعبر البحر وجاء على رأس جيشه، ووقعت معركة وادي المخازن في سنة 986=1578، والتي انجلت عن هزيمة ساحقة للبرتغال وحليفها وانتصار العثمانيين وحليفهم عبد الملك، الذي لم يمتّع بالانتصار فقد مات ميتة طبيعية أثناء المعركة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين