أحب الأيام إلى الله تعالى

 

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحبُّ إلى الله من هذه الأيام -يعني أيام العشر- قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله، فلم يرجع من ذلك بشيء). رواه البخاري.

من محاسن هذا الدين أنه لم يدع خِلَّةً من خِلال الخير والبرِّ إلا رغَّب بها وحضَّ عليها، ثم يسَّر سبيلها، وبشَّر بجميل عاقبتها، وكريم مثوبتها، كما لم يدع خصلةً من خِصال الشرِّ والإثم إلا نفَّر منها وكرَّه النفوس إليها، ثم عسَّر في سبيلها وتوعَّد عليها. ولما كانت شعب البرِّ، وهي أكثر من أن تحصى، أجلُّ من أن ينهض بها أحدٌ من الناس بالغاً من الفضل ما بلغ، أعدَّ الله لعباده مواسم كريمة، وأتاح لهم فرصاً مباركة، في أزمنة محددة، وأيام معدودة، ضاعف لهم الحسنات لهم أضعافاً كثيرة، ليسارعوا فيها إلى الخيرات، ويتجروا فيها بصنوف القُرَب والطاعات، فيعوَّض مقصِّرٌ فيها ما فاته، ويدرك مؤمِّل ما تمناه.

وحكمةٌ أخرى بالغة، وهي أن الله سبحانه علم أنَّ في عباده ضعفاً وعجزاً وميلاً إلى الكسل والهوى والشهوة، فمنحهم هذه المواسم جبراً لضعفهم، وعوناً لعجزهم، وإرغاماً لشيطانهم، وذلك أثر من آثار رحمته بهم وفضله عليهم.

ومن فضله جلَّت آلاؤه أن فرق هذه المواسم التي اصْطَفَاها، في خلال العام كلِّه، ترغيباً للعاملين، وتنشيطاً للخاملين، لئلا تضعف الهمم، وتفتر العزائم، ببعد الشقة وطول الزمن.

ومن هذه المواسم التي اختارها الله لعباده، ودعاهم إلى اغتنام العمل فيها، أيام العشر الأُوَل من شهر ذي الحجة، جعلها الله أفضل أيام الدنيا، وأحب الأزمان إليه، وأدناها إلى رضوانه وكرمه، العمل فيها أعظم الأعمال، والأمل فيها أقرب الآمال، والحسنة فيها بسبعمائة ضعف إلى أضعافٍ كثيرة لا يعلمها إلا الله عزَّ وجلّ [وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] {البقرة:261} 

وإذا كان يوم الجمعة، وهو موسم الأسبوع، خير يومٍ طلعت عليه الشمس كما ثبت في صحيح مسلم وغيره، فإنَّ كلَّ يومٍ من هذه الأيام العشر خيرٌ من يوم الجمعة الذي هو ليس فيها، كما يدل ذلك على إطلاق الحديث، وكما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما، وهو من هو إتباعاً للسنة واقتفاء للآثار، أنه قال (ليس يوم عند الله أعظم من يوم الجمعة، ليس العشر، فإنَّ العمل فيها يعدل عمل سنة).  

بل إنَّ تفضيل العمل فيها على الجهاد في سبيل الله وهو ذروة الإسلام ومناره، أعظم دليل على فضل هذه الأيام على الدهر كلِّه دون جدال أو استثناء، اللهم إلا ضرباً واحداً من ضروب الجهاد لإعلاء كلمة الله عزَّ وجل، هو أن يخرج المجاهد مخاطراً بنفسه وماله، يبتغي الشهادة، ويرجو الحسنى وزيادة، ثم لا يرجع بنفسه ولا ماله، هذا النوع وحده من أنواع الجهاد، وهو أعلاها شأناً وأجلّها مكاناً، هو الذي يعدل العمل في عشر ذي الحجة أيزيد عليه، على أن العمل في هذه الأيام جهاد للنفس والهوى، وناهيك منه(1).

وحسبك في فضل الجهاد الذي اقترن هذه الأيام فساوته أو أربت عليه، ما جاء في (الصحيحين) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عما يعدل الجهاد في سبيل الله فقال: لا تستطيعونه، فأعادوا ذلك مرتين أو ثلاثاً، كل ذلك يقول لا تستطيعونه،  ثم قال: (مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم، القانت بآيات الله لا يفتر من صلاة ولا صيام حتى يرجع).

وقد أقسم الله تعالى بها تعظيماً لها فقال عزَّ من قائل [وَالفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ] {الفجر:1-2} (2).

وإنما رفع الله قدرها، ونوَّه صلوات الله وسلامه عليه باسمها، لأنها خلاصة الأشهر الحرم، ومجمع أمَّهات العبادة وأصولها، وموعد الهجرة إلى الله والرحلة إلى بيته، والجهاد في مرضاته. وإذا كان الله اصطفاها الأشهر الحرم وعظَّمها، فقد اصطفى منها شهر ذي الحجة وزاده تعظيماً، ثم اختار عشره الأول فزاده شرفاً وفضلاً، فهي بلا ريب خير الأيام، وصفوة العام.

ولا يعارض هذا ما جاء فضل ليلة القدر، وأنها كما قال تعالى: [خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ] {القدر:3} فإنَّ هذا الفضل ثابت لأيامها دون لياليها. والحقُّ كما قال ابن القيم أنَّ ليالي العشر الأخير من رمضان أفضل من ليالي العشر الأخير من ذي الحجة، وأيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام عشر رمضان. وبهذا البيان يزول الاشتباه، ومن هنا كانت ليلة القدر أفضل الليالي على الإطلاق، كما أنَّ يوم النحر أفضل الأيام على الإطلاق، وكفى أن سمَّاه الله تعالى يوم الحج الأكبر(3).ويلي يوم النحر في الفضل يوم عرفة، وقد صحَّ أنَّ صيامه يكفِّر ذنوب سنتين، وما من يوم يُعتق الله فيه الرقاب أكثر منه في يوم عرفة، وفيه يتجلَّى الله على عباده ثم يباهي ملائكته بأهل الموقف، وقد جاءوا شُعثاً غبراً خاشعين لله تعالى، راجين من فضله رضاه، ولئن كان يوم النحر يوم الرفادة والزيارة، إنَّ يوم عرفة يوم التوبة والضراعة، والابتهال والطهارة(4).  

هذا، وإذا استبان فضل هذه الأيام العشر، فإنَّا نحاول بعون الله تعالى وتوفيقه أن نبيِّن السرَّ في تخصيصها بهذا الفضل، مع يقيننا أنَّ مرد هذا التفضيل إليه سبحانه، فهو يفضل من يشاء وما شاء، كما قال جل ثناؤه: [وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ] {القصص:68} ولابدَّ لنا قبل ذلك أن نقف ولو قليلاً على تاريخ هذه الأيام في الجاهلية الأولى، لنعرف كيف بدَّلها الله من الرجس طهراً، ومن الضلال هدىً، ومن الظلام نوراً.

لقد بدل العرب في الجاهلية ملة إبراهيم حنيفاً، فملئوا البيت بالرجس والأوثان، وأفسدوا الشعائر بالزور والبهتان، وقدَّموا لآلهتهم الذبائح والقرابين، واتبعا ما تتلوا الشياطين، وجعلوا هذا الموسم ميداناً لكل خرافةٍ وضلالة، وشعوذة وجهالة، حتى أرسل الله رسوله بالهدى ودين الحق ليُظهره على الدين كلِّه، فمحا معالم الغواية، ورفع منار الهداية، وثبَّت دين الله في الأرض، وأعاد ملة أبيه إبراهيم طاهرة نقية، استجابة لدعوته عليه السلام إذ قال: [رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ] {البقرة:129}.

وما أن تم فتح مكة ودخل الناس في دين الله أفواجاً واستقر الإسلام في جزيرة العرب، حتى عاد هذا الموسم ميداناً للإيمان والنور والهدى، وإعلاناً لدعوة الحقِّ، ووسيلة أي وسيلة للتعارف والتعاون على البر والتقوى.

ولا يقولن قائل إنَّ التمتع بهذا الموسم خاصٌ بمن شدَّ الرحال إلى بيت الله الحرام، وأدَّى مناسك الحجِّ وشعائره على قواعد الإسلام، أما من أدَّى الفريضة أو كان عاجزاً عنها فليس له في فضيلة هذا العشر من نصيب، فأنَّ الجواب عند من يعرف أنَّ المسلمين أمة واحدة، دينهم واحد وإلههم واحد، يتعاون حاضرهم وغائبهم، وظاعنهم ومقيمهم، وغنيهم وفقيرهم، على المصلحة والخير العام، ولئن فات المقيم التمتُّع بمناسك الحج وشعائره، وشهود الإسلام في أكبر معالمه وأجمل مظاهره، لا يفوته العمل وهو في وطنه لنفسه ولأمته على ما يرفع شأن المسلمين والإسلام، ويعيد هذه الذكريات خالدةً في العالمين.

أرأيت كيف كان هذا العشر غرة الدهر، وخلاصة الأيام، ومسك الختام من كل عام؟ أو رأيت أنَّ السعيد كل السعيد من وفِّق لاغتنام فرصته، وتحصيل فضيلته، إذ كان أحب الأيام إلى الله، وأدناها إلى إحسانه ورضاه؟

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: مجلة الأزهر: المجلد الثامن عشر، شوال 1366 - العدد 10

------------

(1) هذا رجل ناهيك من رجل معناه: أنه يجده وغنائه ينهاك عن تطلب غيره.

(2) كما قال غير واحد من السلف والخلف. وقيل هي العشر الأخير من رمضان، وقيل العشر الأول من محرم.

(3) كما في سورة براءة، وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم علياً ليقرأ صدرها في موسم الحج في السنة التاسعة، وكان أميره أبو بكر رضي الله عنه، وكان التبليغ يوم النحر.

(4) انظر أول زاد المعاد في اختيار الله تعالى وتفضيله بعض الأشياء على بعض.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين