فتح مكة ومظاهر عفو رسول الله وسماحته مع أعدائه -1-

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا ورسولنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين، وبعد ..

فقد كان صلح الحديبية الذي عُقِد في السنة السادسة للهجرة بين المسلمين ومشركي قريش ينص في أحد بنوده على أن من شاء من القبائل العربية الساكنة حول الحرم أن يدخل في عقد محمد صلى الله عليه وسلم وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وأن القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين تعد جزءاً من ذلك الفريق تلتزم ببنوده، وأي عدوان تتعرض له أي من تلك القبائل يعد عدواناً على ذلك الفريق‏‏، وحسب هذا البند دخلت خُزَاعَة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخلت بنو بكر في عهد قريش، وصارت كل من القبيلتين في أمن من الأخرى.

ولكن بعد مضي نحو سبعة عشر أو ثمانية عشر شهرا من عقد المعاهدة وإرساء الهدنة بين الطرفين قام بنو بكر( حلفاء قريش ) بالاعتداء على خزاعة، وبدلا من أن تكفهم قريش عن هذا الاعتداء الخارق لبنود المعاهدة أعانتهم بالسلاح، بل قاتل معهم رجال من قريش مستغلين ظلمة الليل ..

فلما كثر القتل في بني خزاعة فزعوا إلى المسجد الحرام ليحتموا به ؛فالقتال فيه محرم، ولكن بنو بكر المعتدين لم يراعوا للحرم حرمته، وأخذ من في قلبه ورع وخشية يقول لزعيمهم نوفل بن معاوية الديلي :‏يا نوفل، إنا قد دخلنا الحرم، إلهك إلهك( محذرين له ) فقال كلمة عظيمة‏ ( لا إله اليوم يا بني بكر) محرضا إياهم على مواصلة القتال داخل الحرم( انظر سيرة ابن هشام : ج5 ص 42 وما بعدها  )  .

فلما اشتدت وطأة القتال على خزاعة خرج أحد زعمائها وهو عمرو بن سالم الخزاعي سرا مع بعض أتباعه إلى المدينة؛ ليشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعلته بنو بكر وقريش بأهله، فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما حدث لحلفائه بني خزاعة غضب غضبا شديدا لهذه الجريمة الشنعاء؛ ففضلا عما فيها من نقض للعهد الذي أعطته له قريش، فإن فيها اعتداء على حرم بيت الله سبحانه وتعالى الذي جعله لكل المخلوقات أمنا وسلاما؛ لذلك قال صلى الله عليه وسلم :"والذي نفسي بيده لأمنعنهم مما أمنع منه نفسي وأهل بيتي ".. ثم نظر إلى عمرو وقال  :"نصرت يا عمرو بن سالم" (المقريزي: إمتاع الأسماع 13/ 373) .

وليكون وفيا بعهده بعث إلى زعماء قريش ـ كما ذُكر عن ابن عمر ـ رجلا يسمى ضمرة  يذكرهم بالعهد الذي كان بينهم، ويخيرهم بين إحدى ثلاث: أن يدفعوا دية قتلى خزاعة، وبين أن يبرءوا من حلف بني بكر، أو ينبذ إليهم على سواء ( أي يكون العهد معهم منتهيا )  فردوا عليه قائلين: "ننبذ على سواء ". (تاريخ الإسلام للذهبي ج1 ص 308  ).

وبعد هذا الرد لم يكن أمامه صلى الله عليه وسلم بدا من غزوهم؛ نصرة لحلفائه بني خزاعة ووفاء للعهد بينهم ..

ولم يتمهل كثيرا، وإنما دخل من فوره على زوجته عائشة ـ رضي الله عنها ـ وأمرها أن تجهزه وتخفي ذلك، ثم خرج فأمر الناس بالتجهز للخروج إلى الغزو، دون أن يحدد لهم الجهة التي يريدها..

 ثم بعث أناسا إلى القبائل العربية حول المدينة ينادون:"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحضر رمضان في المدينة " فاجتمع له من المجاهدين عشرة آلاف، وقيل اثنا عشر ألف مقاتل.

وأحست قريش بعد ذلك بالندم على فعلتها وسوء ردها، واستقر رأي زعمائها على أن يرسلوا أبا سفيان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليتعرف منه على ما يريد فعله بعد علمه بالاعتداء على حلفائه، فأتاه في المدينة يسأله تجديد العهد ،فلم يجبه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم ير من قريش الجادة،فكما نقضوا عهدهم أول مرة سينقضوه ثانية إذا رءوا منه صلى الله عليه وسلم اللين، ورجع أبو سفيان دون أن يعلم بما عزم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم أنه سعى حثيثا لاستكشاف الأمور من بعض الصحابة بما فيهم ابنته أم حبيبة زوج رسول الله  .

وفي العاشر من شهر رمضان المبارك سنة 8 هـ تحرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بجيشه بعد أن استخـلف على المدينة أبا رُهْم الغفاري‏، وفي الطريق أعلم الناس أنه سائر إلى مكة، ثم قال: "اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها "( السيرة لابن حبان: ج1 ص 315)..

وكان قصده صلى الله عليه وسام من كتمان الخبر ألا يعطي فرصة لقريش فتستعد للقائه؛ فيحقق النصر الذي يريده بأدنى خسارة من الطرفين.

وحدث أن  كتب أحد المهاجرين وهو "حاطب بن أبي بَلْتَعَة" كتابا إلى بعض أهل مكة يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، ثم أعطاه امرأة، وجعل لها جُعْلاً على أن تبلغه لهم، فجعلته في قرون رأسها ثم خرجت به، فأتي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم الخبرُ من السماء بما صنع حاطب، فبعث علياً والمقداد والزبير بن العوام وأبا مَرْثَد الغَنَوِي ـ رضي الله عنهم ـ وقال‏ لهم:‏"‏انطلقوا حتى تأتوا رَوْضَةَ خَاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب إلى قريش‏" فانطلقوا مسرعين حتى وجدوا المرأة في المكان الذي حدده رسول الله، فاستنـزلوها وقالوا: ‏معك كتاب‏؟ ‏فقالت‏:‏ ما معي كتاب، ففتشوا رحلها فلم يجدوا شيئاً‏، ‏فقال لها علي رضي الله عنه: ‏أحلف بالله، ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كذبنا، والله لتخرجن الكتاب أو لنجردنك‏، فلما رأت الجد منه قالت‏:‏ أعرض عني ( لكي لا يرى  شيئا منها وهي تكشف رأسها ) فحلت قرون رأسها، فاستخرجت الكتاب منها، فدفعته إليهم، فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه‏:‏‏"‏من حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش‏" يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطباً، فقال‏:‏"‏ما هذا يا حاطب‏؟‏‏" فقال‏: ‏لا تعجل على يا رسول الله‏ ‏، والله إني لمؤمن بالله ورسوله ،وما ارتددت ولا بدلت ،ولكني كنت امرأ مُلْصَقـًا في قريش ؛لست من أنفسهم ،ولي فيهم أهل وعشيرة وولد ،وليس لي فيهم قرابة يحمونهم ،وكان من معك له قرابات يحمونهم، فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يداً يحمون بها قرابتي‏".‏

وقد ظن هذا الرجل أن لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بقريش سيكون مجرد مواجهة تحصل بين الطرفين ويعود كل فريق إلى بلاده، فطمع في كسب ود قريش ليرفقوا بأهله في جوارهم؛ ولهذا عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسامحه، وعندما هم بعض الصحابة أن يعاقبه بتهمة الخيانة رفض صلى الله عليه وسلم‏ رأيهم وقال:‏‏"‏إنه قد شهد بدراً ،وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال:‏اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم‏ " ..

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن ممن ينسى للناس بلاءهم وفضلهم، ولم يكن ممن يعاقب أتباعه على كل عثرة يقعون فيها، وهكذا ينبغي أن يكون كل حاكم ومسئول مسلم يطمع في الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في التعامل مع رعيته، يقيل عثراتهم ويتذكر فضائلهم، ولا يسمح لأحد من مقربيه بالنيل منهم .

وقد اكتفى صلى الله عليه وسلم بما وجهه الله عز وجل  من عتاب لهذا الرجل في قوله تعالى "  يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ..." (سورة " الممتحنة " : آية 1) .

ويبدو أن خبر زحفه صلى الله عليه وسلم قد سبقه إلى مكة قبل أن يصلها، ولكن بعد فوات الأوان،فلم يكن أمام قريش فرصة لتستجمع قواها، وتعد خطة للدفاع، فبدأ يخرج إليه من كان يكتم إيمانه أو من كان مترددا ثم بدا له الحق..

وكان ممن خرج إليه عمه العباس بن عبد المطلب حيث لقيه بمكان يسمى " الجُحْفَة " هو وأهله، ثم جاءه ابن عمه أبو سفيان بن الحارث، وابن عمته عبد الله بن أبي أمية، وكان قد نزل بمكان يسمى "الأبواء " فلما استأذنا ليدخلا عليه أعرض عنهما أولا ؛لما كان يلقاه منهما من شدة الأذى والهجاء قبل الهجرة، فقالت له زوجته أم سلمة‏ رضي الله عنها :‏ يا رسول الله!ابن عمّك وصهرُك، فقال: " لا حاجة لي يهما ،أمّا ابن عمّي فهتك عرضي (يقصد هجاؤه بشعره ) وأمّا ابن عمّتي وصِهري فهو الذي قال بمكة ما قال  )يعني قوله له: واللّه لا آمنت بك حتى تتخذ سلما إلى السماء فتعرج فيه، وأنا أنظر ثم تأتي بصك وأربعة من الملائكة يشهدون أن اللّه أرسلك).( سيرة ابن هشام 2/ 400) ..

فقال أبو سفيان بن الحارث: والله ليأذنن لي أو لآخذنّ بيد ولدي هذا, ثم لنضربنّ في الأرض حتى نموت جوعاً وعطشاً، فرق لهما حينئذ، وعفا عنهما وسامحهما على كل ما بدر منهما من إيذاء خلال فترة الدعوة التي قاربت عشرين عاما؛ ليكون مثالا لكل مسلم في العفو عند المقدرة، ثم أذن لهما بالدخول عليه وأعلنا إسلامهما ..

وهذا الموقف النبيل  منه صلى الله عليه وسلم جعل قلبيهما يتحولان للضد، فصارا من خيرة الصحابة بعد ذلك، حتى قيل عن أبي سفيان بن الحارث أنه ما رفع وجهه في وجه رسول الله بعد إسلامه ؛حياء مما كان يفعله به من قبل ،وشهد له صلى الله عليه وسلم بالجنَّة،وقال:"أرجو أَن يكونَ خَلفاً من حمزة" ولما حضرته الوفاةُ، قال: لا تبكوا علىَّ، فواللهِ ما نطقتُ بخطيئة منذ أسلمتُ (ابن سيد الناس : عيون الأثر : ج2 ص 223).

وواصل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيره وهو صائم، والناس صيام،حتى إذا بلغ مكانا يسمى "الكُدَيْد " قرب مكة أفطر، وأفطر الناس معه ؛أخذا برخصة الفطر للمسافر أو المجاهد، ثم واصل سيره حتى نزل بمكان يسمى "مر الظهران " وقد  نزله عشاء، وهنالك أمر أفراد الجيش بأن  يوقد كل مقاتل النيران، فأوقدت عشرة آلاف نار في الساحة التي نزلوها، وذلك كي يبثوا الرعب في قلوب أهل مكة فلا يجرؤن على التصدي لهم .

وفي تلك الأثناء قد جاءه أبو سفيان بن حرب ـ سيد الوادي كما كان يقال ـ  وبديل بن ورقاء، وحكيم بن حزام؛ ليبايعوه على الإسلام بعد عداوة دامت عشرين سنة، فاستقبلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل ترحيب، وقد وسُر بمجيئهم ، ونسي ما كان بينه وبينهم، ولماذا لا ينسى؟! إنه ما عاداهم إلا من أجل إصرارهم على التصدي للإسلام ومناصرة البغي والاستبداد، أما وقد أسلموا فليمنحهم الحب والعطف والعفو والصفح الذي أودعه الله في قلبه.

وفي صباح اليوم التالي قسم صلى الله عليه وسلم جيشه إلى أربع فرق، فرقة جعل إمارتها تحت قيادة الزبير بن العوّام، وأمرها أن تدخل مكة من جهة المشرق، فرقة تحت قيادة أبي عبيدة بن الجراح، وأمرها أن تدخل من جهة الشمال، وفرقة تحت قيادة سعد بن عبادة، وأمرها أن تدخل من جهة الغرب، وفرقة تحت قيادة خالد بن الوليد, وأمرها أن تدخل من جهة الجنوب، وحدد لهم مكانا يلتقون فيه داخل مكة .

وقصد صلى الله عليه وسلم من ذلك ـ والله أعلم ـ أمرين :

 الأول: أن يقطع على قريش الأمل في التجمع لصده أو منعه من دخول مكة.

والثاني: هو إتاحة الفرصة لجنوده بالدخول دون تزاحم، وبذلك يتحاشى وقوع أي ضرر أ و إفساد قد ينجم عن تحرك الجيش الكثير العدد داخل شوارع مكة .

 كما أن تقسيم الجيش إلى فرق يسهل مهمة السيطرة عليها .

ثم وجه أمره لسائر الجنود بألا يريقوا شيئاً من الدماء، وألا يقاتلوا إلا من قاتلهم، أو من ارتكب جرائم ضد المسلمين تستوجب عقوبة القتل ( وهؤلاء قد سماهم بالاسم، ثم عاد فعفا عنهم ألا أربعة نفر ) .

وتحرك الجيش رافعا صوته بالتكبير والتهليل، تكبير الله عز وجل الذي رد نبيه صلى الله عليه وسلم إلى مكة بجيش عدد أفراده اثنا عشر ألفا، بعد أن أُخرج منها لا يرافقه إلا أبو بكر الصديق، وصدق الله وعده حيث قال له:" إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد "( القصص : 85  ) ..

وصار دخوله آية لكل مستضعف من أهل الحق على أن الله جاعل لنصرته معادا هو آت لا محالة، وإن بدا أمامه أن الكفر أو الشر لا سبيل لمواجهته، وإن ظهر أمامه أن الشرك أو الشر قوة لا تقهر، آية على أن المستضعف اليوم قد يمكن له في الغد .

يتبع

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين