من أساليب التربية النبوية ، تحديد العدد

 

من أساليب التربية النبوية
تحديد العدد (18)
 
         الدكتور عثمان قدري مكانسي
     وهذا يساعد على الانتباه والاستقصاء والمتابعة .
     إن الإنسان حين يسمع محاضرة يحدد فيها صاحبها ـ منذ البداية ـ أفكارها ، ويستعرض مخططها ، يكون أقدر على الانتباه لها ، وتقدير الطرائق التي اعتمدها المحاضر ، وتركيز ذهنه وحواسه في استقصاء أفكارها ، اعتماداً على ما ذكره المحاضر أول ما بدأ ، ومتابعة تفاصيلها وتسلسلها الزمني ، ويصبح بإمكانه أن يسأل المحاضر شيئاً نسيه أو مر عليه سريعاً ، أو لم يعالجه المعالجة التي عالج بها بقية الأفكار .
     وإنه يستحسن للقائد أن يحدد الزمان والمكان لجنوده قبل البدء بعمليتهم القتالية ، والزمن الذي تستغرقه ، والهدف الذي يسعون إلى تحقيقه .
     وإن الرسام ليضع أولاً الإطار الذي يحيط بلوحته ، والمهندس خريطة لموقعه ، والمدرس مخططاً ـ على اللوح ـ لدرسه يسترشد به التلاميذ في متابعة درسهم ، مع ذكر القاعدة والأهداف بشكل مرتب متسلسل .
     - وهذا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يفعل ذلك ، فيضع المسلمين في إطار العدد المراد تحديده . ففي الحديث الذي يرويه عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ يقول : ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة (1) ( حدد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثلاثة أنواع من المنبوذين يوم القيامة ، فأصاخ أصحابه السمع ، ورسموا الإطار ، وانتظروا البدء ) :
     العاق لوالديه ، والمرأة المترجلة ، الديوث ، ( فأغلقوا الإطار على العدد وأصحابه وسبب العقوبة )
    -  وثلاثة لا يدخلون الجنة : ( مقدمة أخرى لعدد آخر من نوع آخر ، فرسموا الإطار    واستعدوا ) العاق لوالديه ، والمدمن الخمر ، المنّان بما أعطى(2) ( فأغلقوا الإطار على العدد وأصحابه وسبب العقوبة )
     ثم تناولوا الحديث بالبحث والدراسة ، وكان العدد مساعداً للمسلمين على الاحتفاظ بالأفكار ليوصلوها إلى إخوانهم على مر العصور مرتبة حسبما وردت ، لا زيادة فيها ولا نقصان ، ولا تقديم ولا تأخير .
     - وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ :
     ثلاثة : 1ـ لايكلمهم الله يوم القيامة
     2ـ ولا يزكيهم
     3ـ ( قال معاوية ) : ولا ينظر إليهم
     4ـ ولهم عذاب أليم (3)
     ( من هؤلاء الثلاثة ؟ وما الذي سبب لهم هذه العقوبة في المقدمة السابقة ؟) .
     1ـ شيخ زان ( وكان أولى به الوقار والعفاف ، فقد جاز مرحلة الشباب والطيش )
     2ـ وملك كذاب ( ولماذا يكذب ولن تطاله يد أحد بالعقوبة وهو القدوة والحاكم )
     3ـ وعائل مستكبر(4) ( وعلام يستكبر وهو فقير يحتاج مساعدة الناس ؟)
     فاستقصى الصحابة الكرام هؤلاء الأنواع الثلاثة ، والمقدمة التي وضحت أنواع العقوبة ليتدارسوها ويحددوا مسار حياتهم من خلالها .
     - وعنه ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ :
     ثلاث دعوات مستجابات :
     1ـ دعوة المظلوم ( فليس بينها وبين الله حجاب )
     2ـ ودعوة المسافر ( اتخذ الله رفيقاً واعتمد عليه في سلامة الوصول )
     3ـ ودعوة الوالد على ولده(5) ( إن بر الولد بوالده أولى به ، فقد بذل عمره وعمله للولد ) .
     حفظها السامعون ، وتجنبوا الوقوع فيها ، ووعظوا الغائبين ، وكانت مصابيح للخَلَفِ يسيرون على هديها .
     - وعنه ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال :
     سبعة يظلهم الله في ظله ، يوم لا ظل إلا ظله : (  في الآخرة حر شديد ، والشمس تدنو من الخلائق ـ يا الله ـ أليس هناك مكان نتقي فيه ذاك الموقف يا سيدي يا رسول الله ؟ . . نعم إنه ظل عرش الرحمن  ـ سبحانه ـ  إلا إنه مخصص لسبع فئات من الناس . . اللهم اجعلنا منهم ، فمن هم يا رسول الله ؟ . . . )
     1ـ إمام عادل .
     2ـ وشاب نشأ في عبادة الله عزّوجلّ .
     3ـ ورجل قلبه تعلق بالمسجد .
     4ـ ورجلان تحابـّا في الله ، اجتمعا عليه وتفرقا عليه .
     5ـ ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال ، فقال : إني أخاف الله .
     6ـ ورجل تصدق بصدقة ، فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه .
     7ـ ورجل ذكر الله خالياً ، ففاضت عيناه(6) .
     يستقصي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هؤلاء السبعة ، ويكرر ذلك على مسامع الصحابة فيحفظون أصنافهم ، ويتخلقون بأخلاقهم :
     1ـ فالإمام العادل يحكم بشرع الله ، ولا يعمل بهواه ، ولا يستغل منصبه للوصول إلى شهواته وإلى ما ليس من حقه ، ويحب الناس ويعدل بينهم ، فيفيئون إليه ملتمسين حقهم منه ، مطمئنين إلى رحمته وعدله .
     2ـ والشاب المتدفق حيوية ، تتفتح أمامه دروب الغواية وسبل الفساد تدعوه إلى الانحراف ، ومتابعة الشيطان ، وهو معرض عنها ، متعلق بحبل الله المتين ، يستنصره عليها ، ويستدفع به شرورها .
     3ـ والرجل الذي يُكثِر من دخول المساجد للصلاة ، والانتفاع بقراءة القرآن ، وحضور حلقات العلم والمذاكرة ، ويرى جنته فيها ، وهناءته في رحابها .
     4ـ ورجلان كان حب الله الرابط َبينهما ، إن اجتمعا فعلى الذكر والتدبر ، وإن تفرقا فعلى الألفة والتواصي بالحق ، يحفظ كل منها غيبة الآخر ، ويكون عوناً له على ظروف الدهر ، لا يبتغي كل منهما غير رضا الله ثواباً .
     5ـ ورجل وسيم أحبته امرأة ذات منصب وجمال ، فأغرته بنفسها ، وسهلت له طريق الزنا ، ومنحته الجاه والمال إن ارتكبه ، وسولت له بأحابيلها ما تريد منه ، فظل متمسكاً بحبل الله المتين ، يعرض عنها ، وإن أصابه من امتناعه مكروه .
     6ـ ورجل يتصدق سراً ـ فالمراءاة تحبط عمله ، وتضيع أجره .. ويكبت في نفسه حب الاستشراف والرغبة في أن يقال : هو كريم ، إنه لا يبغي الأجر إلا من الله عزّ وجلّ.
     7ـ ورجل ذكر الله ـ وهو في أهنأ عيش وأطيب حياة ، لا ينغص عليه أحد أيامه ، فهو يشكر الله على فضله ، ويحمده على كرمه ، ويشتاق إلى جنته ، ويعلم أن ما أصابه كان برحمة الله وجوده ، فيجتهد في العبادة ، ويبكي شوقاً إلى لقاء الله تعالى ، فما عند الله خير وأبقى .
     اللهم علمنا ما ينفعنا ، وهيء لنا من أمرنا رشداً ، واجعلنا من عبادك السعدا ، وأظلنا تحت ظلك يوم لا ظل إلا ظلك .


(1)    كناية عن عدم الرحمة .
(2)    أخرجه النسائي في الزكاة .
(3)    كناية عن الإمتهان والتحقير .
(4)    رواه مسلم .
(5)    الأدب المفرد الحديث .
(6)    رياض الصالحين الحديث / 374 / متفق عليه .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين