نحو منهج شرعي في تلقي الأخبار وروايتها

نحن نعيش في عصر تعددت فيه أدوات الاتصال، وتنوَّعت فيه وسائل الإعلام، فالخبر ينتقل شرقاً وغرباً في مدة قصيرة...وتلاشت الحدود والمسافات، وكأننا نعيش في قرية صغيرة.

في كل يوم في كل دقيقة تطرق سمع الإنسان عشرات الأخبار المتنوعة يختلط فيها الغث بالسمين، ويلتبس الحق بالباطل.. حتى أصبح الإعلام أخطر وسيلة يمكن أن تصوغ فكر الإنسان وتصوراته واتجاهاته الفكرية والسلوكية.

كيف نتلقى الخبر ونفهمه فهماً جيداً ونصوغه صياغة دقيقة، ثم كيف ننقل هذا الخبر بكامل الصدق والأمانة.

ما أكثر الناس الذين يحملون في أيديهم أخباراً حتى إذا سألتهم: من أين لكم هذه الأخبار؟ تلعثمت ألسنتهم وتباطأت كلماتهم... ولم يجدوا جواباً لأنها ليست ثابتة من مصادر دقيقة، بل هي أوهام تجمعت من هنا وهناك.

آفات تفسد الأخبار:

الآفة الأولى: الكذب وخطورته:

الكذب يقلب الأمور، ويزور الحقائق والذي يكذب كذبة واحدة يتبعها بثانية، وثالثة حتى تصبح صفة ملازمة له (عليكم بالصدق ـ البر ـ الجنة (صديقاً) وإياكم والكذب ـ الفجور ـ النار (كذاباً).

وملازمة الكذب من صفات أهل النفاق: (آية المنافق ثلاث؛ إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا وعد أخلف) البخاري ومسلم.

ترك الكذب حتى في المزاح: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه) أبو داود.

قال أبو بكر: (إياكم والكذب فإن الكذب مجانب للإيمان).

قال النووي: (الكذب: الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو، تعمدت ذلك أم جهلة، لكن لا يأثم بالجهل، وإنما يأثم في العمد).

قال ابن تيمية: بالصدق في الأخبار، والعدل في الأعمال تصلح جميع الأحوال، وهما قرينات كما قال تعالى:[وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا] {الأنعام:115}.

الكذب من أجل المصلحة:

من أعجب مكايد الشيطان الكذب قصداً على بعض إخوانه انتصاراً لنفسه ويسوِّغ هذا المزلق الخطير من باب (مصلحة الدعوة).

ونظير هذا من يستجيز الكذب على بعض ذوي الأفكار الهدامة من أجل أن يفضحهم ويقلل قدرهم ولسان حال هؤلاء يقول: الغاية تبرر الوسيلة.

ذكر بعض الحقيقة وإخفاء بعضها:

الناقل يعطي لك صورة ناقصة مبتورة لا تمثل الواقع بتمامه، ينتقي ما يوافق هواه من الخبر.. ويقطع الخبر من سياقه والملابسات المحيطة به.

خطورة الكذب:

ينسف بخبر واحد أعمالاً جليلة، وتبلغ الكذبة آفاقاً بعيدة. (فإذا رجل جالس ورجل قائم بيده كلوب من حديد يدخله في شدقه حتى يبلغ قفاه،...كذاب يحدث بالكذبة فتُحمل عنه حتى تبلغ الآفاق).

الآفة الثانية: الإشاعة:

الإشاعة أخبار يختلقها بعض الناس لأغراض خبيثة وتنتقل بين الناس دون تثبت من صحتها وتحقق من صدقها.

تضخيم للأخبار الصغيرة، وطلاوة الأخبار المكذوبة، لإشاعة الفرقة والخلاف بين العباد.

إذا أصغينا إلى أحاديث الناس في مجتمعاتهم، ضجيج الشائعات يطغى على كل شيء... تبدأ الإشاعة بكلمة صغيرة ويزيدها الناس من هنا وهناك والنفوس مجبولة على حب التطلع إلى الأخبار الغريبة والحوادث النادرة.

نماذج للشائعات:

1 ـ قصة الإفك التي أشاعها بعض المنافقين[إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ(11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ(12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الكَاذِبُونَ(13) ]. {النور}..

2 ـ بلغ أصحاب رسول الله الذين هاجروا إلى الحبشة إسلام أهل مكة فأقبلوا لما بلغهم ذلك حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن ما كانوا تحدثوا به كان باطلاً، فلم يدخل أحد منهم إلا بجوار أو مستخفياً..

التحذير من إشاعة أخبار لم يتبين صدقها من كذبها.

(كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع) وفي رواية: (كذباً).

عن حذيفة: (بئس مطية الرجل زعموا).

أفتجوز أن يكون أذناً يسمع من كل أحد دون تأن أو تثبت.

أسباب انتشار الشائعات:

1 ـ فصاحة قول المشيع وحسن عرضه للشائعة:[ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ] {المنافقون:4}. قال صلى الله عليه وسلم: (أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان).

2 ـ كون المشيع ممن تميل إليه قلوب سامعيه بسبب الصحبة أو التحزب.

3 ـ أن يوافق الخبر هوى فينفس السامع كأن يرى في هذا الخبر انتصاراً لنفسه وفئته أو تقليلاً من قدر الفئات الأخرى.

المنهج الشرعي للتعامل مع الأخبار

1 ـ التثبت في الأخبار.

2 ـ حسن الظن.

3 ـ سلامة الصدر.

تمتلك هذه الأمة أعظم منهاج في تنقيح الأخبار والمرويات على أسس وضوابط علمية دقيقة، فميزوا بين الصحيح والضعيف من المرويات، وبين الثقات والمجروحين من الرواة، بعيداً عن الأهواء والعقبات.

ولم تظهر آثار هذا المنهج في تنقيح السنة فحسب بل تعداه ليشمل التاريخ والأدب.

الأمر بالتثبت:

[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا....] {الحجرات:6}.

(أصل العقل التثبت ) يحتاج إلى تمرين للنفس وتوطين لها كيف يسمع، وكيف ينقل، وكيف يعمل؟

الاعتماد على ضبط النقلة وصحة فهمهم:

أبو الزناد: (أدركت بالمدينة مائة كلهم مأمون، ما يؤخذ عنهم الحديث يقال: ليس من أهله).

مالك: (لقد أدركت سبعين ممن يقول: قال رسول الله عن هذه الأساطين في أخذت عنهم شيئاً، وإن أحدهم لو ائتمن على بيت مال لكان أميناً، إلا أنهم ليسوا من أهل هذا الشأن).

لابدَّ من حسن الفهم والتيقظ وفهم الكلام على وجهه الصحيح.

علماء الأصول فرقوا بين المنطوق والمفهوم وقدموا منطوق القائل على مفهوم كلامه لازم القول ليس بلازم.

الاعتماد على القرائن في قبول الأخبار وردها:

إذا انتقل الخبر ولم يتأكد صحة النقل أو صحة الفهم، فيعرض ذلك الخبر على أقواله السابقة واللاحقة ويقاس بطريقته وأحواله وسيرته.

الخبر التحليلي:

الناقل يقرن بين ذكره للخبر وبين رأيه هو وتحليله حتى يظن السامع أن كل ما ينقل هو الخبر. الخبر الواحد يروى على سبعين وجه.

تقول هذا جنى النحل تمدحه               وإن تشأ قلت ذا قي الزنابير.

مدحاً وذماً وما جاوزت وصفها         والحق قد يعتريه سوء تعبير.

 

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين