ما على الرسول إلا البلاغ

 
محمود عرنوس
 
من السنن الحسنة التي اتبعتها هذه المجلة أن تخص كل حادث من الحوادث الإسلامية التي لها أثر ظاهري في حياة المجتمع الإنساني بعدد خاص، وهل هناك حادث أعظم من مولد الرسول عليه الصلاة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الذي كان نعمة على الإنسانية بعد بعثته صلى الله عليه وسلم ونشر الديانة الإسلامية، فاعتادت أن تخص مولده الشريف بعدد خاص تقديراً لهذه الذكرى لعل الذكرى تنفع المؤمنين.
 

 

الرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ عن ربه

 

 

البلاغ: هو التبليغ، يقول الله تعالى: [فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البَلَاغُ وَعَلَيْنَا الحِسَابُ] {الرعد:40}. ويقال: بلغته الخبر وأبلغته، مثله، ولكن: بلغته، أكثر استعمالاً، قال تعالى:[أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي] {الأعراف:68}. وقال: [يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ] {المائدة:67}. وقال أيضاً: [فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ] {هود:57} . وقد تكرر في القرآن الكريم ما يؤكد أنه ليس على الرسول إلا البلاغ، جاء في القرآن الكريم: [فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا البَلَاغُ المُبِينُ] {النحل:35}.وجاء:[ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا البَلَاغُ المُبِينُ] {العنكبوت:18}. وقد تأكد هذا المعنى وتكرر في أكثر من آية.
وهذه مهمة الرسل جميعاً، وهذا المعنى مأخوذ من نفس الوصف: رسول. فمهمتهم عليهم الصلاة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. إنما هي البلاغ المبين عن الله سبحانه عن الله سبحانه وتعالى، بتذكير الناس بأيامه وقدرته وأنه فرد صمد لا شريك له، وإرشادهم إلى ما فيه صلاح حالهم دنيا وأخرى.
قال تعالى:[شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ] {الشُّورى:13}.فالرسول إنما هو مبلغ مذكر يقول الله تعالى:[فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللهُ العَذَابَ الأَكْبَرَ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ] {الغاشية:26}.وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم:[قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ] {الأحقاف:9}.
فالرسول صلى الله عليه وسلم كما قلنا إنما يتلقى أوامر ربه بالاطمئنان والقبول ويبلغها إلى من أرسل إليهم، سواء أكانت الرسالة عامة أم خاصة.
يقول الله تعالى لرسول محمد صلى الله عليه وسلم: [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ] {الأنبياء:25}.
أطلت في بيان مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي: البلاغ المبين، والإنذار، والإرشاد، وأن محمداً عليه الصلاة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. لم يقاتل الناس لإكراههم على الإيمان بما أرسل به كما يقول أعداء الإسلام: إن هذا الدين انتشر بقوة الحسام لا بالحجة والبرهان، وسنبيِّن فيما بعد سبب القتال وأنه لم يكن للإكراه على دين، إذ يقول الله صراحة لنبيه صلى الله عليه وسلم:[لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] {البقرة:256}.بعد أن بيَّن أنه هو الحي القيوم، لا تأخذه سنة ولا نوم، له ما في السموات وما في الأرض، إلى آخر الآية.
 

 

بعثة النبي صلى الله عليه وسلم:

 

 

بعث وهو بمكة على رأس الأربعين من عمره الشريف، وأقام بها بعد ذلك اثنتي عشرة سنة وخمسة أشهر وبضعة أيام، وما نزل في هذه المدة من القرآن يقال له المكي، ومكث بالمدينة المنورة، بعد الهجرة تسع سنوات وتسعة أشهر وبضعة أيام.
والمختار عند العلماء أن المدني ما نزل بعد الهجرة، وإن كان في غير المدينة المنورة كالذي نزل في فتح مكة، والمكي من السور ما نزل قبل الهجرة، وإن لم يكن في نفس مكة.
والغالب في السور المكية أن تكون آياتها قصاراً، ومعظم السور المكية زواجر وبيان لأصول الدين بالإجمال. وأما السور المدنية ففي أسلوبها شيء من الإسهاب، ولاسيما فيما خوطب به أهل الكتاب، وفيها بيان ما لابد منه من الأحكام العملية في العبادات والمعاملات الشخصية، والمدنية، والسياسة والحربية، والتشريع كما تراه في طوال السور كالبقرة والنساء والمائدة. أما المكي كما قلنا من السور فهو يدور حول أصول الدين من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وعدم الشرك به، والإيمان بالبعث والجزاء والعمل الصالح، والدعوة إلى الأخلاق.
وترى ذلك مبسوطاً في كتاب تفصيل آيات القرآن الكريم.
 

 

موقف المشركين من رسول الله:

 

 

لقد كان تعنت المشركين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإحراجهم له في نفسه وأصحابه بالغاً أشده، يعمدون إلى أصحابه خصوصاً المستضعفين منهم فيعذبونهم أشد العذاب، ويقولون له: ائت لنا بقرآن غير هذا القرآن أو بدِّله، يعتذر لهم أن ليس في استطاعته أن يبدله من تلقاء نفسه، لأنه متبع لا مبتدع، وآونةً يطلبون منه أن يأتيهم بملائكة تشهد له بالصدق، ومرة ينكرون أن يكون الرسول من جنس البشر، يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، فيريهم أن ذلك هو سنة الله تعالى في الرسل الماضين، ثم بعد هذا كله يرمونه بالسحر والجنون، وأنه نقل كتابه من خرافات الأولين وأساطيرهم، يقول الله تعالى [أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ(6) وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ(7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ(8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ(9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ(10) ]. {الأنعام}. [وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ(6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ(7) مَا نُنَزِّلُ المَلَائِكَةَ إِلَّا بِالحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ(8) ]. {الحجر[وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا(90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا(91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالمَلَائِكَةِ قَبِيلًا(92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا(93) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَسُولًا(94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا(95) ]. {الإسراء}..
إلى غير ذلك مما اقترحوه عليه مريدين بذلك إعجازه وإحراجه، حتى بلغ بهم الأمر أنهم لا يرونه أهلاً لأن ينزل الله عليه القرآن [وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا القُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ(31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ(32) ]. {الزُّخرف}..
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يدركه الضيق من هذه المقالات ويضيق صدره منها، فأنزل الله سبحانه وتعالى عليه تسلية له قوله [قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ(33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ المُرْسَلِينَ(34) ]. {الأنعام}..
ومن هنا نرى أن أغلب قصص الأنبياء التي قصت في القرآن الكريم إنما سيقت ليعلم الرسول صلى الله عليه وسلم ما أصاب إخوانه من قبل، وليعلم المشركون ما أصاب المتكبرين المشركين.
 

 

سبب القتال:

 

 

كانت فاتحة المقال أن الرسول صلى الله عليه وسلم مبلِّغ مبيِّن غير مسيطر على الناس، ولكن قد يكون في ذلك ما ينافي ظاهره ما حدث من رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتال المشركين في جملة غزوات دوَّنها علماء السير وإن بيَّنوا أسبابها ومسبباتها، إلا أن أمر القتال لا يزال فيه خفاء.
قلنا فيما سبق إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام في مكة بعد بعثته نحو ثلاث عشرة سنة قائماً بالدعوة إلى دينه، وهو يصمد على صنوف الأذى والفتنة له ولأصحابه، ثم اضطر المسلمون إلى أن يهجروا مكة فراراً بدينهم إلى بلاد الحبشة، إلى أن أذن الله له بالهجرة إلى المدينة المنورة، ثم أذن له بالقتال بعد أن مضى الشطر الأول من حياته الدينية ولا سلاح له إلا الصمت والصبر، أذن الله بالقتال لرسوله صلى الله عليه وسلم ليدفع عن نفسه و نفس أصحابه أنواع التعذيب التي كان يلقاها المسلم من جراء عقيدته ليرجع عن دينه الذي اختاره لنفسه، كما وقع لعمار بن يسار وبلال وكثير من الصحابة رضي الله عنهم، الذين اسلموا أيام قلة المسلمين، فشرع الله القتال ليكون الناس أحراراً فيما يختارون لأنفسهم من العقائد، لا لإكراههم على الدين، إذ يقول الله تعالى:[لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ] {البقرة:256}. ولكن الله تعالى أباح للناس أن يدفعوا الشر بالشر، وأن يقابلوا العدوان بالعدوان، ولو لا ذلك ما ثبت حق في الأرض، وما عبد الله بنوع من أنواع العبادات.
أذن الله لنبيه أن يقاتل قوماً أخرجوه من بلده، وحالوا بينه وبين وطنه ظلماً وعدواناً، بعد أن بيَّتوا قتله وتفريق دمه في القبائل.
يقول الله تعالى:[أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] {الحج:40}.
فالإذن بالقتال إنما كان لسلامة الدعوة إلى الله حتى لا يقف أحد في سبيلها، ويكون الناس آمنين على أنفسهم وعقائدهم ولذلك جعل الله للقتال غاية هي ألا تكون فتنة للناس في عقائدهم، فيقول:[وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ] {البقرة:193}.ويقول:[وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ] {البقرة:190}. ثم يختم بقوله سبحانه:[ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الكَافِرِينَ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] {البقرة:192}.ويقول: [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ] {الأنفال:61}. أما من لم يقاتل ولم يتسبب في إخراج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من ديارهم فقد أباح الله سبحانه وتعالى البر والعطف عليهم قال تعالى:[لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] {الممتحنة:9}.
وبذلك يظهر جلياً أن الدعوة إلى الإسلام لم تكن بطريق السيف كما يزعم خصوم الإسلام. فقد دخل الناس باختيارهم طائعين غير مكرهين، وتحملوا في سبيل عقيدتهم الأذى في النفس والمال كما كان يعذب من لا عصبية له أيام إقامة الرسول صلى الله عليه وسلم بمكة ولم يؤذن له بالقتال إلا بعد الهجرة وكان الأمر محدوداً بقتال من آذوه وإخوانه بمكة. وقد ورد في غير آية النهي عن القتال والأمر بالصبر كما صبر أولو العزم من الرسل وقد بلغت آيات النهي عن القتال نيفاً وسبعين آية.
فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يهاجم، ولكنه وقف موقف المدافع حتى جاءته قريش فهاجمته، فكان القتال هو لحماية الدعوة وحرية العقيدة يقول الله تعالى:[وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ القَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا] {النساء:75}.
فالقتال ليس أساس العلاقات بين المسلمين وغيرهم، وإنما الأساس هو السلم، وإذن الله تعالى للمسلمين بالقتال لم يكن لإكراه الناس على العقيدة الإسلامية، بل لحماية الدعوة وأصحابها.
ولو أن مشركة قريش لم يثوروا في وجه الدعوة ولم يؤذوا الداعي ولم يفتنوا المدعو ولم يهاجموا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث هو، ما شهر عليهم المسلمون سيفاً ولا أراقوا دماً.
وأما قتال اليهود من أهل يثرب وغيرها فكان موقفه صلى الله عليه وسلم يختلف عن موقفه من قريش: عاهد اليهود أول ما دخل المدينة المنورة، وأمَّنهم على أنفسهم وأموالهم ودينهم، فنقضوا العهد وخانوا الميثاق، وحسدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما آتاه الله من فضله، وزعموا أنهم شعب الله المختار، فكان ينبغي أن يكون الرسول منهم، وأنهم أبناء الله وأحباؤه، فلا يصح أن يكون الرسول من غيرهم ، ولم يطيقوا كتمان ما أضمروه من العداوة، بل جاهروا بذلك في مواضع شتى، فانتهكوا حرمة الدين والمعاهدة، وخانوا الميثاق، أرادوا اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم حينما كان في بني النضير، ونقضوا العهد بتحزيب الأحزاب أو الانضمام إلى بعض الأحزاب لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما حصل من بني قريظة في موقعة الخندق.
ومن ذلك يتبين أن القتال في الإسلام كان تدبيراً وقتياً، وأن المسلمين اضطروا إليه اضطراراً، ولم يكن لحمل الناس على عقيدة بذاتها، لأن العقيدة الصحيحة إنما تبنى على الإقناع بالحجة، والاقتناع بالدليل والبرهان، وليس الشرك في ذاته سبباً في القتال، لأن الله يقول في شأن المشركين:[ فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ] {النساء:91}. ويقول قبل ذلك:[ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا] {النساء:90} .
فالله قد جعل المشركين فريقين: فريقاً معتدياً وفريقاً غير معتد، فأمر بقتال الأول ولم يأمر بقتال الفريق الثاني.
ولو كان الشرك وحده هو جريمتهم لأمَره جل وعز بقتال الجميع وقتلهم.
لعلي أطلت في هذا الموضوع لأبيِّن خطأ القائلين أو المعتمدين بأن الإسلام نشر بالقتال لا بالحق والإقناع [مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا البَلَاغُ] {المائدة:99}.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
 


جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين