الثورة السورية تواجه داعش والمخابرات العالمية

 

 

 

لم تعايش الثورة السورية لحظة تأزم وانعطاف تاريخي منذ انطلاقتها وتقدم ميدانها العسكري تحديدا كالتي تعايشها الآن، وهي المرحلة التي بدأت منذ منتصف 2012 بقطع الطريق على مقترح التسليح النوعي والكمي والتضييق على الواقع اللوجستي للثوار، وتزامن ذلك مع حركة دفع مادي وبشري لقوى أُخرى دفع بها إلى ميدان الثورة الخاص.

قد تكون بعض نوايا مموليه حسنة، لكنه شهد اختراقات مخابراتية دقيقة هدفها الكبير والخطير اقتحام الميدان العسكري للثورة الذي كان ولا يزال يشكل الممانعة الإستراتيجية.

 

هذا الاختراق والخنق هيأ البرنامج للوصول إلى صفقة سان بطرسبرغ وتوافق أركانها الأربعة (تل أبيب وواشنطن وطهران وموسكو) للتقدم لتصفية الثورة السورية. وهذه الخطورة غير المسبوقة تتمثل في أن الثورة السورية وعلى مدى 30 شهرا وبعد تطوير قدراتها القتالية، باتت تحت الحصار ومواجهة الحرب الإرهابية الدموية.

 

كل تلك الحرب التي سُخّر لها التفجير الطائفي الإقليمي والسياسي وحضنه اللوبي الإسرائيلي والإيراني معا، عجزت عن تفجير الميدان الثوري وبقيت الصفقات وحلقات التآمر عاجزة عن هذا الاختراق النوعي.

 

هنا تكمن أهمية مشروع داعش -المصطلح الذي يرمز إلى تنظيم دولة العراق والشام المنشق عن القاعدة- للمخابرات الدولية بمنظور إستراتيجية الحرب القذرة. وهذا التشكيل من المخابرات المتنوع دوليا وإقليميا وعربيا قد ينخرط في توجيه حرب داعش على الثورة السورية مركزيا، وقد تكون المساهمة في هذا التوجيه عشوائية، كل في مساحته، لكن نهاية الحرب القذرة في مركز العمليات الدولي ضد الثورة، يشعر أنه قطف الثمرة ودمر ميدان الثورة.

 

ومركز العمليات الدولي لا يعني تجسده جغرافيا في موقع محدد، لكنه خلاصات هذه التوافقات التي بات الغرب يعلنها صراحة بعدما كانت موسكو تتبناها طوال موسم المواجهة، وبالتالي فهو خليط لشبكة العقيدة الأمنية لمواجهة الثورة السورية يُنفذ عبر أذرع متعددة تصب خلاصاتها في شارع واحد يؤدي إلى تحييد ميدان الثورة بعد تفجيره.

 

رغم أن حسابات هذه الأطراف المتعددة قد تختلف في النتيجة النهائية لمستقبل نظام الأسد، لكنها لم تقبل بالبديل الثوري الذي صاغ العقد السياسي وكان قادرا على تنفيذه لو أعطي مادة الحسم العسكري.

 

هنا نفهم طبيعة هذه الفوضى الخلاّقة في حرب المخابرات القذرة، ولماذا داعش هو الذراع القادر على تحقيق ما عجزت عنه قوات النظام والخبراء الروس والمليشيات الطائفية الإيرانية التي تقاتلها داعش بشراسة، لكن تعود إيران لتستفيد من حرب داعش الأخرى على الثورة السورية استفادة مركزية حاسمة لو استمر المشهد على وضعه.

 

وهنا نحتاج أن نعدد نقاط الإشكالية المدمرة التي تنتهي إليها تجارب تنظيمات القاعدة، وإن كان الميدان السوري شهد لأول مرة تحولا في طريقة التعاطي مع ميادين المقاومة أو ساحات الاحتلال والكوارث نزع إلى رؤية متعقلة تراعي قواعد الشريعة في ميادين الثورات.

 

وهي ما تمخضت عنه تجربة جبهة النصرة التي انشقت عنها داعش، ومع ذلك كان غالبية من يُهاجر من الشباب العرب تحت راية نصرة الشام ينضم إلى داعش لا إلى جبهة النصرة، وينخرط اليوم في قتال الجيش السوري الحر وإخضاع مناطقه المدنية لسلطته في ذات الوقت الذي يُهاجم فيه النظام وإيران هذه المناطق ويحاصرها!!

 

ولكن قبل هذه العناصر، لا بد من التأكيد أن التوافق بين جبهة النصرة والقيادة المركزية الأقوى للجيش السوري الحر الممثلة بلواء التوحيد وحلفائه في الفصائل الإسلامية وخاصة حركة أحرار الشام الإسلامية، لا يزال هشا، وهذا خطير جدا. ويلعب التمويل المادي الشعبي الخليجي الذي يقوم على فرز جبهة النصرة وإضعاف الجيش الحر دورا إشكاليا فيه حين يتدخل في خريطة الميدان في هذا التوقيت الحساس.

 

وهذه الفوضى في التمويل الشعبي الخليجي التي تقوم على غيرة صادقة، لكن تنقصها الحكمة وقد تنفذ إليها مشاريع المخابرات التي يُحذر شيوخ هذا التمويل منها، فتتسرب إلى ميدانها أو قرارها وتعود هذه الفوضى مرة أخرى لخدمة مصالح أعداء الشعب السوري.

 

إن هذه التجارب مرت بشخصيات عديدة أدركت خطأها في مناطق النكبات والاحتلال لكن بعد حين من الزمن لم يعد فيه فرصة لتصحيح الخطأ الكارثي.

 

ولقد تعقّد المشهد الثوري وتأثر في مسارات التمويل لغياب قدرات الدعم المركزي الذي تملكه دول حين يتحول دعمها إلى برنامج تسليح نوعي يحسم المعركة ويعزز القيادة المركزية ويساعد في انتظام فصائل الثورة وتنسيقها المركزي، خاصة حين يُقدم من خلال الكتلة الصلبة للثورة إلى كل حلفاء السلاح والمقاومة المؤمنين بحق الشعب السوري وقراره على أرضه، وليس إحراق أرضه على رأسه وكأنه يُعاقب بأيدٍ صديقة على قرار ثورته.

 

أما إشكاليات داعش فهي تتركز في التالي:

 

1- طبيعة الفكر السلفي الطائفي الذي تتثقف به عناصر داعش أو جناح الغلو التكفيري في القاعدة يتركّز على منهج عقدي وفقهي يعتقد المفاصلة المطلقة مع أمة أهل السُنة وإن أعلن أنه مجنّدٌ للدفاع عنها، لكنه لا يعتد بمدارسها ولا منهجيتها الشرعية ولا أولويات الأحكام والقياس في المصالح والمفاسد، وبالتالي لا يعتد بالرؤى المخالفة له التي تنصحه، وقد يُكفّرها أو يُضللها فيقاتلها لأنها خالفته.

2- للفكر السلفي مدارس متعددة وفيها من يقود اليوم الاعتدال الشرعي ويقوّم مسارات فقه الجهاد وميادينه، لكن الإشكال هو أنه لا يستطيع اليوم السيطرة على هذا الفكر وليس مسؤولا عنه، وإن تأخر كثيرا في إعلان موقفه من الأيدولوجية التي تصنع نماذج داعش، إضافة إلى الدور الاستخباراتي المتداخل في صناعتها.

 

3- المشهد الدامي وعنف الحرب الطائفية التي شنتها إيران يستفز مهج شبابٍ لا يعرف أبجديات الوعي السياسي، وكيف تُدار الحرب السياسية للمعركة وهي الحرب التي تقطف ثمرات الصراع، فيهوي بنفسه في مساحات المعركة معبأ بهذه الروح المخلصة، لكنها مغيبة عما وراء المدفع والساحة القتالية المباشرة مندفعا بصوت الحُداء، وقد يقاتل أهل البلاد الذين جاء لنصرتهم وهو تحت هذا التولّه الروحي.

 

4- أثبتت التجارب وبالرصد المباشر من الميادين وباعتراف جهات وشخصيات دولية وتقارير مباشرة وقصص موثقة تروى من قيادات ميدانية مقاومة، أن الولوج المخابراتي العربي والإقليمي والدولي لهذه المجموعات ممكن، وكذا توجيهها بل وصناعة قواعد منها أو اختراق بعضها أو تسعير مواجهتها مع شعب المقاومة.

 

5- النظرية التي يستخدمها الاختراق دائما ترتكز على عدم مراجعة هذا الشاب للمشهد ولا قراءته مركزيا، في حين تُقدَّم له فصائل المقاومة الأصلية على أنهم ثوار متخاذلون أو خونة، ولا يُناقش أو يُجادل بل يعتمدها كمسلمات بعد ضخ عاطفي تُشعل به روحه فينطلق لهذه المهمات الموكل بها لمواجهة قوات الثورة السورية أو مدنييها.

 

6- كل ما تقدم يبين لماذا يُعتبر تنظيم داعش عنصرا مهما جدا وبتكاليف أقل لتفجير ميدان الثورة السورية ومواجهة فصائلها الرئيسية، وبالتالي الوصول إلى تحييد الميدان ورفض الشعب الكفاح المسلح للتحرير أو سقوط مناطق مركزية للثورة، وعليه تُصنع حكومة الأسد الجديدة كما جرى صناعة حكومة المالكي في العراق، وتُختتم معركة المخابرات المستعدة لحرب استنزاف طويلة المدى، وقودُها قتل المدنيين من هذا الطرف أو ذاك.

 

7- هذا الدفع والحشود الشبابية التي تنضم مجددا إلى داعش من الخليج العربي تُشير إلى التركيز القوي باتجاه تفجير ميدان الثورة، وهي لن تقف عند معركة سوريا بل ستضرب في جغرافيا جهات تورطت في هذا الدفع، فضلا عن فقدان هذا الشباب في تلك المعارك بعد تحويلهم لمحاربة الجيش الحر، وقد تمولهم إيران ومخابرات عربية بثوب شيخ متدين.

 

وحين نسرد هذه الوقائع بموضوعية وتجرد فنحن لا نقرأ بذلك خسارة الثورة السورية، بل على العكس هي لا تزال صامدة وقوية، ولكن لا بد من مواجهة هذا السيناريو الأخير لحرب داعش والمخابرات الدولية المتعددة بمنهجية مركزية يقظة تخرج من هذا الحصار والإحباط، وتساعدها في ذلك العناصر التالية:

 

1ـ مصير استخدام نماذج داعش في العراق مروع وخدم الأميركيين والإيرانيين في تحييد المقاومة والطعن في حاضنتها، لكن البناء الاجتماعي خاصة في حلب التي ادعت داعش بيعة قبائلها لها وفي كل سوريا، أقوى لمواجهة هذه المحاولة الخطيرة.

 

2- الضجيج الذي يحتج به تنظيم داعش عن صحوات العراق هو من هيأ الوضع لتأسيسه، ثم أهدر الدماء حتى من المنسحبين منه وكأنه ينفذ خطة المالكي لتصفيتهم، ولكن في سوريا هناك مساحة كبيرة للكتلة الصلبة للثورة السورية في ألوية الجيش الحر بقيادة لواء التوحيد وحركة أحرار الشام لمواجهة هذا الاستنساخ المزدوج.

 

3- الميدان هو محور المؤامرة المركزي، ومهمة الثوار اليوم في الجيش السوري الحر وحلفائه تنظيم وضعهم الداخلي بمركزية أكبر، وتعزيز الاتفاق مع جبهة النصرة بوضوح ومعالم محددة حتى لا يتطور الخلاف إلى صراع جديد.

 

4- القدرات العسكرية والتنسيق مع اللواء سليم إدريس وتقدير حاجته للحوار والتفاوض مع أطراف عربية ودولية لتحييد خصوم الثورة، هي مهمة ضرورية ينبغي أن تستمر ويتم التوافق حولها.

 

5- تأمين جسور الإمداد والدعم المعنوي والإعلامي والسياسي للقيادة المركزية وكتلتها الصلبة في الثورة السورية هي مهمة العمل السياسي الوطني سواء في المجلس الوطني أو الخط المستقل في الائتلاف، وتقديمه على أي خلاف سياسي، فترك الساحة للمخابرات الدولية وداعش يشكل الكارثة الكبرى.

 

6- تركيا هي المتضرر الأول من لعبة داعش والمخابرات العالمية، ولذلك هي الأصدق في دعم الترسانة المركزية للثورة السورية، وفرص دعمها للثورة ممكن رغم تعقد المشهد الإقليمي والدولي حولها وركون دول خليجية لمغازلة إيران.

 

7- القوى الشعبية العربية والإسلامية تحتاج إلى وعي هذا البعد الخطير وضرورات دعم الكتلة الصلبة للثورة، وتكثيف مساندتها.

 

8- مراكز الدعم الشعبي في الخليج العربي تحتاج إلى مصارحة من قبل المشايخ ذوي العلاقات الجيدة مع مصادرها، بتحذيرهم من توجيه الدعم لإضعاف الكتلة الصلبة للثورة.

 

وإن كان هؤلاء المشايخ الداعمون ضد عدوانية تنظيم داعش، فإن بعض مساهماتهم المادية والإعلامية تخدم أهدافه في إضعاف جسم الثورة.

 

9- الاستمرار في التقاط أي دعم عربي أو خليجي أو دولي لدعم الثورة هو حاجة ميدانية، سواء كان الدعم سياسيا أو اقتصاديا، إغاثيا أو عسكريا، لكن مع الحذر من شروط بعضهم وتدخلاته، وهناك تململ وصدمة من بيع واشنطن موقف الخليج في البازار الإيراني، وقد يُساهم ذلك في تغيير قواعد اللعبة ولو نسبيا، وهذا مهم للثورة أن تلتقطه.

 

كل هذه العناصر بطاقات متاحة في ملعب المشهد المعقد لكن لا يُضمن تحصيلها، وإحراز مساحة منه سيعتمد على حكمة وسياسة الثورة وخاصة في ضمان ممانعة ميدانها الثوري.

 

الخيار الآخر خيار مدمر يضمن بقاء الأسد وكتلة نظامه ويُمرَّر بمشاركة معارضة وهمية، ويُصادق عليها دوليا، وقد يسند بدعم عسكري بحجة حماية الأقليات كما ألمح الروس إلى ذلك، وبالتالي زيادة معاناة الشعب في دورة زنازين وقتل جديدة بيد النظام أو إيران أو داعش.

 

ولذلك فإن الثورة وكل سواعدها وفصائلها وداعميها بحاجة اليوم إلى انتفاضة معنوية داخلية تستقي من شعار الشعب "ما لنا غيرك يا الله" الدفع الإيماني المعنوي، وإعادة الحماس إلى التحرك الميداني والسياسي الذي يأخذ بكل سبب لنصرة الثورة، ولا يشتغل بالتناكف الذي هو ذاته أحد عناصر التهديد للثورة، حينها ستستشعر الثورة -بعد حماية الميدان في هذه الجولة- أن هذا الانعطاف الأخطر ربما يكون بوابة الفرج الأكبر للشعب المصابر وقرابين فدائه نحو حرية قراره.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين