دستور الأسرة المسلمة ( مقدمة كتاب المرأة بين الفقه والقانون) -3-

 

 

إن المشكلة التي هي موضوع الكتاب وهي مشكلة المرأة والأسرة وتوزع الأعمال بين الرجل والمرأة ومسلك كل منهما في الأسرة هي في الواقع من أكبر المشكلات التي نجابهها في العصر الحاضر والتي تظهر فينا صفة التبعية والتقليد إلى درجة مخزية، وهي ناحية من نواحي الحياة التي جرفنا فيها تيار شديد أفقدنا الكثير من خصائصنا العربية والإسلامية في آن واحد، وعم حتى كاد يشمل جميع الطبقات ونحتاج إلى ثورة عنيفة عميقة تستمد قوتها من إيماننا بحضارة الإسلام وصحة عقيدته ومثله العليا وأحكامه الأخلاقية لنتحرر من هذه التبعية الشائنة لحضارة الغرب ونظامها الإجتماعي ومفاهيمها وأفكارها.

وأستطيع القول بلا مبالغة: إنّ أكثرية سكان المدن في البلاد العربية والإسلامية عامة (والريف مقتف أثر المدن) تعيش في نظام ينتهي إلى الإباحية الجنسية ولا يكترث بالنتائج العاجلة والآجلة التي هي اعتبار (حادثة الزنى) أمرا عاديا لا يهز الضمير ولا يثير النخوة ولا يفكك الأسرة ولا أستثني من هذا الحكم -وأنا آسف- كثيرين ممن يوصفون بالتدين ويقيمون شعائر الدين الظاهر.

وإيضاحا لهذا الكلام المجمل أقول: إن في العالم قديمه وحديثه المتمدن منه والمتأخر نظامين للحياة الاجتماعية المتعلقة بالأسرة والمرأة والحياة الجنسية، أحدهما: يقوم على ضرورة حصر الحياة الجنسية والتمتع بها في نطاق الأسرة أو الحياة الزوجية، وتتفرع من ذلك جميع العادات المتصلة بحياة المرأة والرجل بحيث تؤدي إلى تلك الغاية وتنسجم معها وتعضدها فلا إثارة للغريزة في السوق والشارع والمجالس والمجتمعات، ولا إثارة للغريزة عن طريق عري المرأة وتزيينها وتبرجها ولا فسح المجال للاختلاط المزدوج والخلوات الخاصة وكل ذلك مقترن بآداب وأعراف وتقاليد ومعتقدات وأحكام خلقية وأحكام تشريعية.

أما النظام الآخر فهو رائج في حضارات أخرى سواء أكانت قديمة ابتدائية أم حديثة متمدنة -فلا علاقة للحداثة والقدم ولا للتقدم المادي أو التخلف بذلك- ويقوم هذا النظام على التساهل في موضوع العلاقات بين الرجل والمرأة وعدم الاهتمام بحصر الحياة الجنسية وتحقيق متعتها في نطاق الحياة الزوجية ، بل يسود الاعتقاد في مثل هذا النظام بحرية هذه الصلات وعدم التفريق الكبير بين الحياة الجنسية في صورة حياة زوجية أو علاقة زنى. 

نعم إن الحياة الزوجية وحياة الأسرة موجودة في هذا النظام الثاني، ولكن لا يجد أصحاب هذا النظام أمرا كبيرا إذا حدثت صلات جنسية تامّة بين غير المتزوجين من الرجال والنساء، وربما أدى الأمر إلى الاستخفاف بأمر هذه الصلات إذا حدثت من أناس متزوجين من الرجال أو النساء، وواقع البلاد الأوربية والأمريكية هو هذا كما هو معروف ومتحقق لدى من أقاموا مدة طويلة في تلك البلاد، وهذا لا يمنع أن يوجد فيهم من كل من لا يرضى بهذه الحال أو يحتفظ بشيء من العفة والحصانة ولكنه قليل نادر والشائع خلافه.

 

وفي مثل هذا النظام تنشأ عادات تنسجم معه، وتتفرع عنه، فتزين المرأة في المجتمع، والزينة والألبسة المثيرة لشهوة الرجل واختلاط النساء بالرجال جماعات وفرادى، وتنظيم الحياة على أساس إمكان فسح المجال بشكل مشروع ومنظم ولخلوة الرجل بالمرأة مدة طويلة ومتكررة، وتأمين هذا اللقاء وتكرره ونشوء الجيل الجديد، وخاصة من سن الخامسة عشرة حتى الخامسة والعشرين وفي كل سن بوجه عام، في هذا الجو المثير في ظروف لا يؤمن فيها الزواج لأسباب إجتماعية، وكذلك الرقص المشترك بين الرجال والنساء ولو متزوجات واعتباره في رأس سلم الآداب الإجتماعية في المحافل إلى درجة أن يعتبر امتناع المرأة عن تلبية من يطلب مراقصتها عيبا منها منافيا للطبيعة الإجتماعية والآداب العامة.

 

 إن ذلك كله ليس إلا عادات تحقق هذا النظام وتنسجم معه، وتتفرع عنه، وتوصله إلى غاياته وأهدافه التي هي الإباحية في العلاقات الجنسية والشيوع وعدم التخصيص، وينشأ الأحداث والشبان خاصة وقد تعودوا على الإثارة ،واستخفوا بأمر هذه العلاقات واعتادوا ممارستها في أي وقت شاءوا فلا يحصنهم زواج، ولا تحصنهم أسرة ولا حياة زوجية، ولاسيما إن الفترة الواقعة في المجتمع الحديث بين سن البلوغ وسن الزواج أصبحت طويلة تزيد على عشر سنين.

 

 تلك هي الحقيقة التي لا مهرب منها. فنحن بين نظامين : نظام العفة والأسرة والزواج، ونظام الإباحية الجنسية ولو وجدت الأسرة، ولكل من هذه النظامين عادات وتقاليد وأفكار وتشريعات وقوانين تتفرع عنه وتنسجم معه، وعلينا أن نختار ولا سبيل إلى المزج بين النظامين.

 

فإذا أخذنا نظام تزين المرأة وتعريها وتبرجها وتعطرها ونظام المجتمع المختلط في البيوت والأسواق والمدارس والدوائر، ونظام المساواة التامّة بين أعمال المرأة وأعمال الرجل المؤدية إلى هذا الاختلاط وإلى تسهيله وتسهيل الانفراد والاختلاء، فلا يمكن أبدا أن ندّعي أننا أخذنا بنظام العفة والحصانة ونظام الأسرة حصرا. وليست القضية -كما يزعم أحيانا أنصار كل من النظامين- في جزئية من هذه الجزئيات، فليس كشف وجه المرأة أو تغطيته هو الفاصل بين النظامين فتلك نظرة سطحية، ولكن هناك مجموع عادات وشعارات وتقاليد وتنظيمات تتعاون وتتساند وتتجاوب حتى تؤدي إلى النتيجة التي هي غاية أحد النظامين.

 

 وأحب كذلك أن ألفت النظر إلى أمر آخر أن الحكم الذي ذكرناه هو الحكم العام أو الغالب فليس من الضروري أن ينطبق على كل فرد، فمن الممكن جدا أن يكون في بعض أفراد نظام الإباحية محصنون أعفاء، وفي بعض أفراد نظام العفة متحللون، وليس من الضروري أن يؤدي الأخذ بعادات وتقاليد أحد النظامين إلى نتيجته وغايته حتما بالنسبة إلى كل فرد. وهذا كما لو قلنا: إن الطاعون متشر في البلد الفلاني فليس معنى هذا أن كل فرد في ذلك البلد مصاب به حتما ولكن الحكم للغالب والشائع لا للقليل النادر.

 

ومثال ذلك :أننا لو قارنا ولو قايسنا بين منطقة بدوية أو ريفية في بلادنا وحي من أحياء باريز أو واشنطن لوجدنا حتما أن نسبة حوادث الزنى أو عدد اللقطاء في البلاد الغربية أكثر بكثير منها في البلاد الإسلامية. وما على القارئ إلا أن يطالع هذه الصفحات الشيقة التي أضافها الاستاذ السباعي رحمه الله إلى آخر كتابه وضمنها من نوادر الإحصاءات وغرائب الحوادث وطرائف الأخبار المتعلقة بالمرأة والحياة الجنسية والأسرية ما يتعذر على المرء جمعه في سنين طويلة بعد تصفح العشرات من الصحف والمجلات العلمية. وهذه الملاحق التي زادت صفحاتها على المئة هي مما تفرد به هذا الكتاب بالإضافة إلى المزايا التي سبق الكلام عنها، وهي تحبب المرء مطالعته وتطوف به في شتى بلدان العالم وأرجاء الأرض، عدا أنها تجعل من الكتاب مرجعا قلما يظفر بمثله الإنسان.

 

 

إن قراءة هذه الإحصاءات والحوادث تقنع القارئ بأن في الغرب أزمة شديدة في موضوع الأسرة والمرأة.

وأود أن أقول بهذه المناسبة : إنه اتيح لي قراءة عدد من الكتب القيمة في الموضوع في اللغة الفرنسية لمؤلفين كبار من مفكرين وأطباء أمثال الكسيس كاربل، وأندره مورا، وإلدوس هاكسلي (الإنجليزي) وكنت أتمنى لو تتاح لي فرصة أوسع لأعرض هذه الأفكار عرضا مسهبا لأنها قد تقنع فئة لا تقتنع إلا بهذا الأسلوب من التفكير وبالاستناد إلى مثل هذه المصادر، ولكنني سأكتفي بعرض بعض موجز لجوانب من هذه الأفكار التي لا تزيدها الأيام إلا وضوحا، ولا تقلب الحضارة وتطورها إلا تصديقا وجلاء.

إن تطور الحضارة وارتقاءها من بعض الجوانب يسير في اتجاه إظهار الفروق بين الأفراد وازدياد التخصص والتنوع، وبالتالي اختلاف توزيع الأعمال بحيث أن المجتمع أي مجتمع كان كلما كان أرقى كان الأفراد فيه أبعد عن التماثل والتشابه، وأقرب إلى تنوع الشخصية واختلاف الاختصاص، بحيث أن تضامن المجتمع وتكامله ينشأ من اختلاف الصفات والمزايا، فلكل فرد مزيَّة ليست في الفرد الآخر ، وكل واحد يتمم الآخر ويكمله، ولو كانا متماثلين لما احتاج أحدهما للآخر ولا كان مكملا له بل مكررا.

 

وعلى هذا الأساس العام نفسه يقوم التعاون بين الرجل والمرأة في المجتمع، بل إن مبدأ التكامل المتولد عن التنوع والتخصص أظهر هنا منه في أي مجال آخر.

 

فالبشرية تتكون من مجموع (أزواج) لا من (أفراد) والمجتمع الذي يتساوى فيه جميع الأفراد في المزايا والخصائص وفي الخبرة والمعلومات ، وبوجه خاص يتساوى فيه الرجل والمرأة في نوع العمل والخبرة هو مجتمع ابتدائي، وكلما كان التنوع في الخبرة المزايا والخصائص والاختلاف في الخبرة والمعلومات أكثر وأعمق كان ذلك المجتمع أرقى.

يقول كاريل في كتابه (الإنسان ذلك المجهول): (إن ما بين الرجل والمرأة من فروق ليست ناشئة عن اختلاف الأعضاء الجنسية وعن وجود الرحم والحمل أو عن اختلاف طريقة التربية، وإنما تنشأ عن سبب جد عميق وهو تأثير العضوية بكاملها بالمواد الكيماوية ومفرزات الغدد التناسلية، وإن جهل هذه الوقائع الأساسية هو الذي جعل رواد الحركة النسائية يأخذون بالرأي القائل كلا الجنسين الذكور والإناث يمكن أن يتلقوا ثقافة واحدة، وأن يمارسوا أعمالا متماثلة. والحقيقة أن المرأة مختلفة اختلافا عميقا عن الرجل، فكل حجيرة في جسمها تحمل طابع جنسها، وكذلك الحال بالنسبة إلى أجهزتها العضوية ولا سيما الجهاز العصبي وإن القوانين العضوية (الفيزولوجية) كقوانين العالم الفلكي لا سبيل إلى خرقها، ومن المستحيل أن نستبدل بها الرغبات الإنسانية، ونحن مضطرون لقبولها كما هي، فالنساء يجب أن ينمِّين استعداداتهن في اتجاه طبيعتهن الخاصَّة دون أن يحاولن تقليد الذكور، فدورهنَّ في تقدُّم المدنية أعلى من دور الرجال فلا ينبغي لهن أن يتخلين عنه).

وقال أيضا: (يغفل الناس عادة شأن وظيفة الولادة بالنسبة إلى امرأة مع أن هذه الوظيفة ضرورة لكمال نموها، ولذلك كان من الحمق والسخف صرف المرأة عن الأمومة، فلا ينبغي أن يتلقى الفتيات والفتيان ثقافة واحدة، ولا أن يكون لهم أسلوب واحد في الحياة، ولا مثل أعلى واحد، وعلى المربين أن يعتبروا الفروق الجسمية والعقلية بين الذكر والاثنى، وما بين دوريهما الطبيعيين، فبين الجنسين فروق فروق لا يمكن أن تزول، ومن الواجب اعتبارها في بناء العالم المتمدن.)

ويقول الدكتور مارانون: (إن من المحقق أن كمال الإنسانية في حياة الجنس يتم ويجب أن يتم في اتجاه التطلع إلى التنويع أو التفريق الجنسي الآخذ نحو الدقة بأن يصبح الرجل أكثر ما يكون رجلا، والمرأة أكثر ما تكون امرأة.)

إن الدعوة إلى المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة تؤدي إلى التزاحم والتنافس والصراع بين الجنسين، والدعوة إلى التكامل بسبب الاختلاف وانفراد كل جنس بمزايا وخصائص يؤدي إلى التعاون والائتلاف.

والأسرة هي البيئة الصالحة الطبيعية المادية والمعنوية لتكوين العواطف الطبيعية في الإنسان. والمرأة لها فيها دورها الخاص فهي العنصر الثابت، والركيزة الدائمة، وهي المنبع الطبيعي لعواطف الود والحنان، في حين أن الرجل هو عامل الارتباط مع ما هو خارج الأسرة، مع المجتمع، وهو الذي يمارس الصراع في الخارج، الصراع مع الطبيعة أو مع المجتمع، وهو سواء أكان صراعا ماديا لكسب العيش أو معنويا في سبيل عقيدة أو دعوة، أم كان مجموعا منهما. فالرجل تبنى طبيعته على الصراع القاسي، والمرأة قوام طبيعتها اشعاع الحب والحنان، ولذلك كانت الأسرة أو الزوجة بوجه خاص البيئة التي يجد فيها أفراد الأسرة من زوج وأولاد السكينة والطمأنينة ويجد الرجل من تبادل الود ما لا يجده في الخارج.

ذلك هو جوهر الأسرة وهو ما أشارت إليه الآية الكريمة (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة).

ومن أروع وأجمل ما قيل في تلخيص وظيفة المرأة الأساسية الحديث الوارد في الصحيحين (خير نساء ركبن الإبل، صالح نساء قريش أحناه على ولد في صغره وأرعاه على زوج في ذات يده)

إن السكينة والطمأنينة، والمودة والرحمة المتبادلة بين الزوجين وحنو الأم على الصغير ورعايتها لمال الزوج وبيته هي العناصر الأساسية التي أوردتها الآية والحديث على أنها قوام الحياة الزوجية المشتركة بين المرأة والرجل.

إن سلامة هذه البيئة التي يتكون فيها الإنسان تكونا طبيعيا سليما، وهي الأسرة لا تكون إلا بتقوية أواصر الأسرة وجعلها المتنفس الطبيعي الوحيد للحياة العاطفية والجنسية المشتركة سواء بالنسبة للمتزوجين الذين كونوا هذه الخلية الأساسية أم بالنسبة لغير المتزوجين. وإن الخلل إلى المجتمع يأتي من خرق هذا الجدار، ومن نشوء علاقات جنسية خارج الأسرة ومن ورائها.

 

وشيوع ذلك سواء بالنسبة إلى حياة ما قبل الزواج أم بالنسبة إلى فترة الحياة الزوجية وهو إضعاف للأسرة، وإفساد لتكوينها، وخرق لجدرانها. وأن المجتمع كلٌ واحدٌ، وإن أي حادثة بهذا المجتمع ولا سيما إذا شاعت وأصبحت ظاهرة عامة في تكوين هذا المجتمع، تؤثر في كيان الأسرة التي يتكون منها ولو لم يكن لهذه الأسر علاقة مباشرة بالحادثة أو الظاهرة.

إن أخصائيا كبيرا قام بأبحاث هامة واحصاءات دقيقة نشرها كتاب عنوانه (الثقافة والجنس) ونقل عنه المفكر الكبير (ألدوس هكسلي) في كتابه (الغايات والوسائل) بعض النتائج ووصفه بأنه عظيم، وأهم هذه النتائج وجود علاقة عكسية بين النشاط الفكري والاجتماعي والفني من جهة والإباحية الجنسية من جهة أخرى، وأنه لا يمكن تلازمهما أكثر من جيل، وأن العفة أو الإحصان شرط ضروري يسبق كل نوع من الحياة الخلقية التي تسمو على الحياة الحيوانية إلى غير ذلك من الأفكار والنتائج الهامة التي هي وليدة أبحاث اجتماعية ودراسات والمجال هنا ضيق. يتبع

الحلقة الثانية هنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين