المدارس في العهد الأيوبي‌ بمصر

 

 

أن بناء المدارس في الاسلام لم يعرف‌ الا في القرن الخامس الهجري، أما قبل‌ ذلك فقد كان المسجد للمسلمين هو مكان صلاتهم وعباداتهم ومكان تلقيهم‌ لعلوم الدين واللغة وغيرها من العلوم.

 

وقد انتشرت حلقات العلم في المساجد الجامعة بالحجاز ومصر والشام والعراق‌ والقيروان وقرطبة وغيرها من البلدان‌ الاسلامية، وسمي الدرس حلقه لان الطلاب‌ كانوا يتحلقون حول شيخهم، وكان الشيخ‌ يستند إلى سارية أي إلى عمود بالمسجد يظل‌ وقفا عليه ما ظل قائما بالتدريس، ويبقي‌ مشهورا باسمه حتى بعد وفاته.

 

وقد تعددت حلقات العلم بمصر في مسجد عمرو بن العاص وفي المسجد الطولوني وفي الجامع الازهر وفي مسجد الحاكم بأمر الله‌ حتى أنه ليقال أن عدد هذه الحلقات في مسجد عمرو بن العاص بلغ في نهاية القرن الرابع‌ الهجري مائة وعشر حلقات، ولم تكن هذه‌ الحلقات مقصورة على علوم الدين، بل شملت‌ أيضا علوم اللغة والنحو والتاريخ وغيرها من‌ العلوم النقلية، وبعض هذه الحلقات كانت‌ من الكبر والاتساع بحيث تدور على سبعة عشر عمودا ( ) .

 

ثم أنشئت إلى جانب المساجد دور للعلم‌ وبيوت للحكمة. أنشأها الخلفاء وجمعوا فيها أمهات الكتب، وكانت تلقي بها الدروس أحيانا، ومن ذلك بيت الحكمة الذي أنشأه الرشيد في بغداد ودعمه المأمون من بعده، ودار العلم‌ بالموصل أنشأها جعفر بن محمد بن حمدان‌ الموصلي، ودار الحكمة بالقاهرة أنشأها الحاكم‌ بأمر الله(386-411 هـ).

 

وكان انشاء هذه الدور والبيوت أول خطوة من قبل الخلفاء والامراء للتدخل في شئون‌ التدريس، ثم حدث أن عينوا بعض العلماء للتدريس مقابل راتب محدود، وشاع ذلك منذ أوائل القرن الخامس الهجري، وكان ترتيب‌ ( ) مساجد القاهرة ومدارسها ص 176.

المدرسين وتحديد راتب لكل منهم وتعيين أجر معلوم للطلاب وبناء عرف لسكني الفقهاء والطلاب هو الخطوة التاريخية الثانية التي‌ اتخذها الخلفاء والولاة للتدخل في شئون‌ التدريس، وقد أطلق على هذه الدور اسم‌ المدارس.

 

وأول مدرسة بنيت في الاسلام هي المدرسة النظامية في بغداد بناها الوزير نظام الملك‌ وزير السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان‌ السلجوقي سنة 459 هـ ثم بني مدرسة أخري في نيسابور سميت باسم النظامية أيضا، ثم‌ اقتدي الناس به من يومئذ في العراق وخراسان‌ وبلاد الجزيرة1.

 

وفي الشام أول مدرسة بنيت في حلب سنة 515 هـ بناها سليمان ابن ارتق لأهل السنة وسماها المدرسة الزجاجية، حتى كان نور الدين‌ محمود زنكي فانه أنشأ كثيرا من المدارس، وأنشأ أول مدرسة الحديث بنيت على وجه‌ الارض في دمشق‌ ( ) .

 

أما بالنسبة إلى مصر فإنها كانت بيد الفاطميين ومذهبهم شيعي اسماعيل وهو مذهب‌ فيه نوع من الغموض والسرية، لهذا لم‌ يشجعوا بناء المدارس، لأن التدريس يكون‌ فيها علناً، وإنما كانت هناك دروس تلقي من‌ بعض علماء الشيعة في الجامع الأزهر، وفي جامع عمرو بن العاص وجامع الحاكم بأمر الله‌ لهذا فانه حينما دخل صلاح الدين الأيوبي‌ مصر لم يكن شيء من المدارس النظامية التي‌ تشرف عليها الدولة.

 

وقد استطاع صلاح الدين أن يقضي على المذهب الشيعي بسهولة دون كبير عناء بالرغم‌ من قدم هذا المذهب الذي كان له من العمر أكثر من مائتي عام بمصر، وذلك لان صلاح الدين‌ اتجه أولا إلى عقول الناس فأنشأ المدارس‌ لأول مرة في مصر بحيث تمكنت في وقت قصير من اشاعة مذهب أهل السنة والاجهاز على المذهب الاسماعيلي دون ظهور أية بادرة اعتراض آنئذ، حتى أن بعض المؤرخين يقول: ان السبب في انشاء المدارس بمصر هو مناهضة الشيعة ونشر السنة واعداد أئمة يختصون بالوعظ فيها1.

 

ونحن نقصد بالمدارس هنا تلك الدور المنظمة التي يأوي اليها طلاب العلم، وتوزع‌ عليهم فيها الارزاق، ويتولى التدريس بها فئة صالحة من المدرسين يختارون ممن يحسنون‌ القيام بتلك المهنة.

 

وكان نظام الداخلية هو المطبق في تلك‌ المدارس للدارسين والمدرسين، أي هيئ‌ للجميع كل وسائل العيش والراحة النفسية والمادية من أكل وشرب واقامة فضلا عن منحهم‌ المال، وذلك لكي يتفرغ الجميع للعلم والتحصيل‌ والبحث دون أن يصرفهم أي شاغل من شواغل‌ الحياة، وهذا هو المثل الأعلى للنظام المدرس‌ الذي لم تستطع أكثر الدول الحديثة أن تقوم‌ به على قدر ما وصلت اليه من تقدم وحضارة.

 

ولا تنسي أن هذا العصر-وهو العصر الايوبي- كان الناس فيه لا ينتظرون من‌ الحاكم الا بأن يعتدل فيما يفرض عليهم من‌ ضرائب، وأن يؤمنهم من الداخل والخارج، أما تقديم خدمات أخرى ثقافية ودينية واجتماعية للمجتمع كما هو مألوف لدينا الآن‌ فانه يُعد سبقا لهذا العصر وتفرداً لمن قام به‌ غيره.

 

وفي العصر الايوبي بمصر: أنشئت مدارس‌ كثيرة منها مدرستان بالفيوم وأربع وعشرون‌ مدرسة بالفسطاط والقاهرة، وقد أشار اليها المقريزي كلها في خططه، وكان معظمها لا يزال‌ قائما على عهده.

 

وفي الشام: أنشئ أثناء العصر الأيوبي‌ خمسون مدرسة في دمشق واثنتان وعشرون‌ مدرسة في حلب.

 

أما المدارس التي أنشئت بالفسطاط (مصر القديمة) والقاهرة في العصر الايوبي‌ فهي كما يلي:

1-المدرسة الناصرية أو الشريفية أو مدرسة زين التجاري أنشأها صلاح الدين‌ الايوبي في أول المحرم سنة 566 هـ(1170م) جنوب مسجد عمرو بن العاص رضي الله عنه ، ووقفها على المذهب الشافعي وكانت أول مدرسة أنشئت‌ بديار مصر تحت اشراف الدولة وأول من درس‌ بها الفقيه ابن زين التجار2.

 

2-المدرسة القمحية: أنشأها صلاح الدين‌ ( ) معجم الادباء جـ 5 ص 415.

(2)ابن الاثير.الكامل جـ 11 ص 148.

 

في 15 محرم سنة 566 هـ بجوار مسجد عمرو بن العاص أيضاً ووقفها على المذهب‌ المالكي ووقف عليها ضيعة بالفيوم كانت تدر قمحاً كثيرا يوزع على طلابها وعلى العالمين بها فلذلك سميت بالمدرسة القميحة.

 

3-المدرسة القطبية: أنشأها الامير قطب الدين خسرو في سنة 570 هـ سنة 1174 م‌ بالقاهرة، وهو أحد أمراء صلاح الدين ووقفها على المذهب الشافعي‌1.؟

 

4-مدرسة ابن الارسوقي: أنشأها التاجر العسقلاني ابن الارسوقي بالقسطاط سنة 570 هـ.

 

5-المدرسة السيوفية: أنشأها صلاح‌ الدين سنة 572 هـ سنة 1176 م ووقفها على المذهب الحنفي، وكانت قريبة من سوق‌ الصنارقيين.

 

6-المدرسة الصلاحية أو مدرسة الخيوشاني: أنشأها صلاح الدين سنة 575 ه سنة 1179 م بجوار ضريح الامام الشافعي، ووقفها على المذهب الشافعي، وأشرف على بنائها الشيخ نجم الدين بن الموفق الخبوشاني‌ ودرس بها.

 

7-مدرسة المشهد: أنشأها صلاح الدين‌ بجوار المشهد الحسيني.

 

8-المدرسة التقوية: نسبته إلى الملك‌ المظفر تقي الدين عمر ابن أخ صلاح الدين، وقد أنشأها سنة 579 هـ سنة 1173 م‌ بالفسطاط في المكان المقابل لجزيرة الروضة، ووقفها على المذهب الشافعي‌2،وحينما  كانت الفيوم اقطاعا لتقي الدين عمر بني بها مدرستين احداهما للشافعية والاخرى للمالكية.

 

9-المدرسة الفاضلية: أنشأها القاضي‌ الفاضل عبد الرحيم بن على البيساني سنة 580 هـ سنة 1184 م بالقاهرة ووقفها على مذهبي الشافعية والمالكية وجعل لها مكتبة ضخمة قوامها حوإلى مائة ألف مجلد.

 

10-المدرسة العادلية: أنشأها الملك‌ العادل ووقفها على المذهب المالكي.

 

11-المدرسة الأزكشية: أنشأها الامير أباز كوج أحد أمراء صلاح الدين في سنة 592 ه سنة 1195 م ووقفها على المذهب الحنفي.

 

12-المدرسة الغزنوية: بناها الأمير حسام‌ الدين قايماز مملوك السلطان نجم الدين‌ أيوب، ووقفها على المذهب الحنفي.

 

13-المدرسة القطبية: أنشأتها السيدة عصمة الدين مؤنسة خاتون ابنة الملك العادل‌ سنة 605 هـ سنة 1108 م ووقفها على مذهبي‌ الشافعية والحنفية.

 

14-المدرسة الشريفية: أنشأها ابن نصر اسماعيلي بن ثعلب سنة 612 هـ سنة 1215 م‌ ووقفها على المذهب الشافعي.

 

15-المدرسة الفائزية: أنشئت سنة 612 ه سنة 1215 م ووقفت على المذهب الشافعي.

 

16-المدرسة الصاحبية: أنشأها صفي الدين عبد الله بن شكر، ووقفها على المذهب‌ المالكي وعلم النحو.

 

17-المدرسة الكاملية: وكانت تعرف‌ بدار الحديث. أنشأها الملك الكامل سنة 622 ه سنة 1325 م بخط ما بين القصرين قريبا من‌ شارع الخرنفش، وكانت قائمة إلى عهد المقريزي سنة 840 هـ ولا تزال أطلالها باقية حتى الآن.

 

18-المدرسة الفخرية: أنشئت سنة 622 ه سنة 1225 م.

 

19-المدرسة السيفية: أنشئت فيما بين‌ سنتي 577،593 هـ.

 

20-المدرسة العاشورية: وتاريخها مجهول.

 

21-المدرسة المسرورية: أنشئت في سنة 610 هـ سنة 1213 م.

 

22-المدرسة الصيرمية: أنشئت قبل سنة 636 هـ.

 

23-مدرسة ابن رشيق: أنشئت في سنة 640 ووقفت على المذهب المالكي.

 

24-المدرسة الصالحية: أنشأها الملك‌ الصالح نجم الدين أيوب في سنة 640 هـ سنة 1243 م بخط ما بين القصرين قريبا من الصاغة ووقفها على المذاهب الأربعةـ وهو أول من عمل‌ بديار مصر دروساً أربعة في مكان واحد، ودخل‌ في هذه المدرسة باب القصر الشرقي الكبير المعروف بباب الزهوتة، وكانت قائمة إلى عهد المقريزي، ولا تزال بوابتها وواجهتها الشمالية ومئذنتها قائمة حتى الآن قريبا من الصاغة بشارع المعز لدين الله.

يتضح من هذا العرض السابق أن جملة المدارس المعروفة بمصر القديمة والقاهرة في العصر الأيوبي كانت أربعاً وعشرين مدرسة منها:

 

ست مدارس خصصت للمذهب الشافعي.

ثلاث مدارس خصصت للمذهب الحنفي.

ثلاث مدارس خصصت للمذهب المالكي.

مدرسة واحدة خصصت للمذهبين الشافعي‌ والمالكي معاً.

مدرسة واحدة خصصت للمذهبين الشافعي‌ والحنفي معاً.

مدرسة واحدة خصصت للمذهب المالكي‌ وعلم النحو.

مدرسة واحدة خصصت للمذاهب الأربعة.

مدرسة واحدة خصصت للحديث.

سبع مدارس لم تحدد مذاهب الدراسة بها.

وهكذا تجد أن هذه الفترة حفلت بإنشاء المدارس وساهم في بنائها الجميع جنباً إلى جنب مع الجهاد المستمر ضد الصليبيين‌ والفضل في ذلك يرجع إلى صلاح الدين لأن‌ الرعية وأولي الأمر فيها يحبون دائما أن‌ يتشبهوا بحاكمهم ويقتدون به في كل أعماله‌ وتصرفاته ويتقربون اليه بعمل ما يعرفون أنه‌ يرضيه ويدخل السرور على نفسه.

 

والمدرسة في الاسلام: هي منشأة دينية لها شروط خاصة وتعريفها مستمد من البيوت‌ المخصصة فيها لسكني الشيوخ والطلاب.

 

ويمكن تعريف المدرسة في الاسلام بأنها هي المسجد الجامع الذي أقيمت في حرمه بيوت‌ لسكني فريق مختار من الفقهاء والطلاب ورتب‌ لتدريسهم فيه مدرسون بأجر معلوم، ووفرت‌ للجميع فيه سبل البحث والدراسة والمعيشة وأجريت عليهم الجرايات الوافرة1.

 

وحتى الآن لم تحدد بصفة قاطعة المراحل‌ التاريخية والاثرية الأولي لنظام تخطيط المدارس، بل تعارضت في مصادر هذا النظام نظريات علماء الآثار، فمن قائل أنه كان‌ تطورا من نظام المسجد الجامع، ومن قائل‌ أنه مأخوذ من نظام الكنائس السورية البيزنطية.

 

ومن قائل أنه اقتبس من أنظمة القصور الفارسية الساسانية ذات الاواوين. ومن قائل‌ أنه استن أصلا من نظام المساكن المصرية التي‌ كان بها قاعة ذات ايوانين، والرأي الذي يقره‌ العقل والمنطق أن المدرسة الاسلامية نبعت من‌ المسجد الجامع واحتفظت بصفتها الجامعية هذه، وأصبحت لها وظيفتان مزدوجتان‌ متلازمتان، الدراسة والصلاة بحيث لا تخلو مدرسة إسلامية من بيت للصلاة، لأننا حينما نتدبر نرى أن مراحل تخطيط المسجد الجامع وعناصره الرئيسية هي كما يلي:

1-جدار القبلة: وهو قاعدة التخطيط وبمثابة المحور منه.

 

2-بيت الصلاة: وهو أهم بناء بالمسجد الجامع، ويمتد في موازنة هذا الجدار طولاً أكثر من امتداده في اتجاهه عرضاً.

3- بهو فسيح يتوسط المسجد الجامع، وهو مكشوف يطل عليه بيت الصلاة ويستمد منه‌ الضوء والهواء.

4-هذا البهو محاط بمجنبات ومؤخر أي‌ ممرات ومظلات مسقوفة.

 

وهذه العناصر الرئيسية لتخطيط المسجد الجامع هي نفسها العناصر الرئيسية لتخطيط المدارس فيما عدا العنصر الرابع الذي قد تطور في تخطيط المدرسة واستبدلت المجنبات‌ والمؤخر ببيوت لسكان المدرسة وقاعات‌ وأواوين، وكان هذا التعديل لملاءمة الوظيفة الاضافية التي تؤديها تلك المدارس، ولمسايرة التطور في نظم البناء.

 

وهكذا نرى من تخطيط هذه المدارس أن بكل‌ مدرسة بيتاً للصلاة يتصدر بناءها، وهذا البيت أكثر قاعاتها أهمية واتساعا ثم يوجد البهو وهو مكشوف وفسيح مربعا أو مستطيلا، ثم ايوانين يطلان عليه، ثم بيوت للطلاب من‌ غرف صغيرة، بعضها من طابق واحد وبعضها من طابقين، ثم قاعات متعددة تتناسب‌ مساحاتها مع الغرض التي أعدت له كخزانات‌ للكتب أو قاعات لتذكير الدروس وتناول الطعام‌ وجلوس المدرسين والنظار والمشرفين والكتبة، كما يوجد بها مطابخ ومخابز وحمامات وغير ذلك من المنافع العامة.

 

ولإذا أنشئت المدرسة لتدريس المذاهب‌ الأربعة فإنه غالبا كانت تتكون من أربعة ايوانات متعامدة داخل إطار مربع على هيئة صليب حول بهو وسيط.

 

ولا تكاد تخلو شروط أي وقفية من وقفيات‌ المدارس في أي من البلدان العربية من ذكر امام‌ أو خطيب يُعين من بين المدرسين أو بالاضافة إليهم، وكذلك من ذكر مؤذن، إذ أنه كان‌ غالبا ما يراعي تزويد كل مدرسة بمئذنة، ولا تزال مئذنة مدرسة الصالحية قائمة حتى الآن، لأن المئذنة توكيد لصفة الجماعة بالمدرسة.

 

وأرجوان يكون بحثي هذا قد أتى بالفائدة وأوفى بالغرض.

والله ولي التوفيق

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر : مجلة الازهر العدد  751، السنة الرابعة والخمسون، جمادى الأولى 1402 - الجزء 5

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين