من لوازم النجاح للعمل الإسلامي (8) الشورى الصادقة

 

 

5- تنشيط الشورى والإفادة منها بصورة منهجية:

 

الشورى في شرع الله تبارك وتعالى، لها أهمية بالغة في مناحي الحياة كافة، ولها أَثر كبير، في التسديد والتصويب، واختيار الرأي الأمثل، والموقف السليم، والوقوف على جادة الحق والصواب.

 

من هنا أمرنا الله بالشورى لأنها أيضاً من مستلزمات الشريعة الإلهية الكاملة الدائمة التي لا تقبل التعديل لموافقتها كل زمان ومكان، فالشورى إذن ليست مقصورة على الجماعة التي تقطع شوطاً في التقدم والرقي، إنما هي من أسس الشريعة الدائمة فهي من حاجيات الطبائع البشرية، وقد أمر الله تعالى بها العرب على الرغم من أنهم كانوا في حالة جاهلية وعصبية قبلية، وتفكك اجتماعي، وبساطة في العيش.

 

إن إقرار مبدأ الشورى في جماعة يحملها على التفكير في شؤونها المادية وغيرها، والتطلع إلى مستقبلها، فتشترك في الحكم بطريق غير مباشر، وهذا كله يؤدي إلى رقي الجماعة وتقدمها في مضمار الحضارة والعمران.

 

فالاستفادة من الشورى ليست مقصورة على الجماعات الراقية المتمدنة، وإنما تحتاج إلى الشورى كل جماعة ترغب في إصلاح شأنها وتقدم بلادها؛ لأنها من أهم أسباب صلاح المجتمع، ومن أهم أسس الحضارة الإسلامية الإنسانية)(1).

 

لذا كان التأكيد على الشورى في كتاب الله تبارك وتعالى، ليس في موضع واحد، وإنما في عدة مواضع، وكذلك في سُنة النبي صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلّم؛ حتى يستطيع الباحث وهو يتابع سيرة وسنة النبي صلى الله عليه وسلّم، يجد مبدأ الشورى في العمل والممارسة، محوراً من المحاور الأصلية التي تحيط هذه السيرة، سواء على مستوى السياسة أو الحرب، أو قضايا الاجتماع، أو لأي طارئ من الطوارئ.

 

ومن الآيات التي فيها دلالة هذا المعنى الذي ذكرنا، قوله تعالى، عن بلقيس الملكة وما جرى لها مع قومها إثر إرسال سليمان عليه السلام لها بكتاب يدعوها فيه إلى الإسلام.

 

إذن حدث جليل، وقضية في منتهى الأهمية، ولها صفة الجدية، بحيث إن مصيرها ومصير من حولها قد يكون مرتبطاً بهذا الحديث.

 

لذا، كان عليها أن تتعقل وتتروى، ولا تأخذها العزة بالإثم، إلى الفردية والعتو والعناد، عليها ألا تسمح لنزعة الملوكية والتسلط أن تتحكم بها فتتخذ من ثم القرارات الهوجاء، ذات الصفة الآنية، التي يحوطها الغضب للنفس، والاعتداد بها، فيكون من بعد ذلك ما يكون، في باب النتائج.

 

والمحتم في الإطار العام، أن التعقل والتروي له أسس وركائز يعمل بها،  ولعل أبرزها الخروج من فردية الرأي والفكر والقرار، إلى "الشورى" وتقليب وجهات النظر في المسألة، حتى يتضح الأمر أكثر، ومثل هذا مثل المنطقة المظلمة، التي تحار في معرفة ما فيها بسبب الظلمة، وتريد أن تبني على الرؤية موقفاً ما، أو تصرفاً ما، فما عليك إلا أن تحضر الأنوار، لأجل أن تتضح الرؤية، فتحضر نوراً فيضيء لك جانباً، وآخر يضيء لك جانباً آخر، فإذا استكملت الحاجة في باب المطلوب من الأنوار، اتضحت لك المساحة المطلوبة بشكل جلي، واتخذ القرار المناسب بعد كل هذا.

 

أما إذا كان اتخاذ القرار أياً كان في شأن هذه البقعة المظلمة، من غير إنارة أو إضاءة، سيكون هذا القرار هوجائياً، له صفة الانفعال، وهذا أمر في الغالب الأعم يؤدي إلى الفشل والتداعيات الخطيرة، ونماذجها كثيرة في التاريخ والواقع فالأول عنوان نجاة، لذا كان اختيار بلقيس له.

 

(قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ {29} إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {30} أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ {31} قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ {32} قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ {33} قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ {34}) (النمل).

 

قال الإمام الآلوسي: "استدل بالآية على استحباب المشاورة والاستعانة بالآراء في الأمور المهمة"(2).

 

ويقول القرطبي: "وكان في مشاروتهم وأخذ رأيهم عون على ما تريده من قوة شوكتهم، وشدة مدافعتهم، ألا ترى إلى قولهم في جوابهم: نحن أولو قوة، وأولو بأس شديد"(3).

 

وربنا تبارك وتعالى جعل لنا سورة في القرآن اسمها سورة "الشورى"، وهذا دليل بارز وواضح وعظيم على أهمية الشورى، ودورها في حياة الفرد والجماعة والدولة والمجتمع والأمة.

 

وأنها سبيل من سبل الوقاية، إذ يد الله مع الجماعة، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، والإنسان ضعيف بنفسه قوي بإخوانه، والإنسان مهما علا كعبه في العلم والمعرفة والفضل، يبقى ضعيفاً، وما أوتي من العلم إلا قليلاً.

 

يبقى محدود الحفظ، محدود المدارك، نظره له بعد – مهما قوي – لا يتجاوزه، تفكيره له مدى لا يستطيع أن يتخطاه، وقواه لها قدرات يعجز أن يضيف إليها بعد إفراغها.. وهكذا.. بحيث إِن هذا الأمر صار أصلاً، بقول الله تبارك وتعالى: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ {38}) (الشورى).

 

فمدحوا لاتفاق كلمتهم، وتداول الرأي فيما بينهم، وتشاورهم فيما يعرض لهم، فلا ينفردون برأي، ولا يتسلطون بقضية، ولا تظهر في أوساطهم الفردية، بل أن الأمر ما لم يجتمعوا عليه لا يقدمون عليه(4).

 

ولا يستثنى مما ذكرنا سوى الأنبياء، بسبب العصمة والوحي، فلا عصمة ولا وحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلّم.

 

ورغم هذا تجد في كتاب الله تعالى أن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلّم أن يشاور أصحابه الكرام، رغم أنه قدم له وصفهم كبشر بأنهم يخطئون، وأنهم يذنبون، فعلى الرغم من أنهم يخطئون ويذنبون عليك أن تشاورهم.

 

(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ {159}) (آل عمران).

 

فإذا كان الله قد أمر نبيه المعصوم الموحى إليه صلى الله عليه وسلّم أن يستشير أصحابه فلاشك أن غير النبي أولى بهذا التوجيه.

 

يقول العلامة السعدي: "أي: برحمة الله لك ولأصحابك، من الله عليك أن ألنت لهم جانبك، وخفضت لهم جناحك، وترققت عليهم، وحسنت لهم خلقك، فاجتمعوا عليك وأحبوك، وامتثلوا أمرك؛ فالأخلاق الحسنة من الرئيس في الدنيا، تجذب الناس إلى دين الله، وترغبهم فيه، مع ما لصاحبه من المدح والثواب الخاص.

 

والأخلاق السيئة من الرئيس في الدين، تنفر الناس عن الدين، وتبغضهم إليه، مع ما لصاحبها من الذم والعقاب الخاص.

 

فهذا الرسول المعصوم يقول الله له ما يقول، فكيف بغيره، أليس من أوجب الواجبات، وأهم المهمات، الاقتداء بأخلاقه الكريمة، ومعاملة الناس بما كان يعاملهم به صلى الله عليه وسلّم، من اللين وحسن الخلق، والتأليف، امتثالاً لأمر الله، وجذباً لعباد الله، لدين الله، ثم أمره الله تعالى بأن يعفو عنهم ما صدر منهم من التقصير في حقه صلى الله عليه وسلّم، ويستغفر لهم في التقصير، في حق الله، فيجمع بين العفو والإحسان، الأمور التي تحتاج إلى استشارة، ونظر، وفكر"(5).

 

ثم ذكر العلامة السعدي بعض الفوائد والمصالح الدنيوية والدينية، لأن إحصاءها جميعاً لا يمكن حصره.

 

فمن هذه الفوائد التي ذكرها ما يأْتي:

 

أ- إن الشورى من العبادات المتقرب بها إلى الله، كيف لا، وهي اتباع لكتاب الله تعالى، واقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلّم.

 

ب‌- إن في الشورى تسميحاً لخواطر المستشارين، وإزالة لما يصير في القلوب عند الحوادث، فإن من له الأمر على الناس – إذا جمع أهل الرأي والفضل، وشاورهم في حادثة من الحوادث – اطمأنت إليه نفوسهم وأحبوه، وعلموا أنه ليس يستبد عليهم، وإنما ينظر إلى المصلحة الكلية العامة للجميع، فبذلوا جهدهم ومقدورهم في طاعته، لعلمهم بسعيه في مصالح العموم، بخلاف من ليس كذلك، فإنهم لا يكادون يحبونه محبة صادقة، ولا يطيعونه، وإن أطاعوه فطاعة غير تامة، (لأنها ليست نابعة من القلب، بالقناعة الكاملة، وإنما تتم عادة إما بدافع الخوف، أو الحياء، أو الإحراج، أو ما إلى ذلك.

 

والنفس البشرية لا تحب الذي لا يبالي بها، ولا يقدر أمرها وشأنها، ولا يعتبرها، ويهملها ولا يقيم لها وزناً، وكأن الناس ذر، وهو البشر الوحيد، أو أن الناس عقم، وهو الولود الأوحد، من هنا كان ما يعرف اليوم بـ"الدكتاتورية" قضية مذمومة عند جميع الأمم.. سلطة الفرد.. وحكم الفرد.. إنها كارثة ما بعدها كارثة، ومصيبة تقع على رؤوس جميع العاملين.. وطامة تنزل في ساح كل من يمارسها ومن حوله..

 

من هنا يمكن التأكيد على أن كل حكم خلا من الشورى، هو حكم فاشل، بل يقود نفسه وغيره إلى الهلكة والهاوية، فترى الأنظمة "الديكتاتورية" أنظمة فاشلة، ولحق بها وبمن تحكم الخراب والدمار.. وقل مثل ذلك على الفرد، أو المؤسسة أو أي ممارسة في حدود الجهد البشري.

 

فجسور الثقة بين الرئيس والمرؤوسين، إنما تتم بعدة عوامل، منها شيوع "روح الشورى"، ومشاركة الآخرين في القرار.

 

جـ- إن في الاستشارة تنويراً للأَفكار، بسبب إعمالها فيما وضعت له، فصار في ذلك زيادة العقول "لمزيد من الإنارة، كما شبهنا هذا بالمصابيح للمنطقة المظلمة".

 

د- ما تنتجه الاستشارة من الرأي المصيب، فإن المشاور لا يكاد يخطئ في فعله، وإن أخطأ، أو لم يتم له مطلوب، فليس بملوم(6).

 

إضافة إلى أن عدم الشورى، من عمل الشيطان، فهو الذي يوسوس لهذا الذي لا يشاور، بهذا الشر والسوء، ويغريه به، ونفخ له في رأسه هذا المعنى.

 

بوسوسة.. أنت.. أنت.. أنت.. أنت المثقف.. أنت العالم.. أنت المتميز.. فمن هؤلاء الذين من حولك؟! كلهم أَقزام، جميعهم سذج، أَكثرهم لا يعقلون، ويحقر من إمكاناتهم، ويقلل من مواهبهم وعلومهم.. ليصدق هذا الأمر فيمارسه.

 

وأكبر دليل على أنه من عمل الشيطان، أن عدم الشورى مخالفة صريحة لكتاب الله تعالى، وسُنة النبي صلى الله عليه وسلّم، وما وقع عليه الإجماع.

 

قلت: قوله: "إن كان يحتاج إلى استشارة"؛ يعني: إن هناك أموراً بدهية لا تحتاج إلى استشارة، بل من الفضول والثقل الاستشارة فيها، مثل قضايا الطعام، وما شابه ذلك.

 

هذا جانب، وهناك جانب آخر مهم وضروري جداً يتعلق في هذه القضية، هذا الأمر يقول: بأن الاستشارة إنما تكون في المسائل التي تقبل الاجتهاد والشورى.. أما القضايا الثابتة بالنصوص القطعية، والتي تم الاتفاق عليها، ووضح الحكم فيها، فالشورى فيها لا تجوز، بل طرحها على موائد الشورى، يعتبر جريمة في حد ذاتها، لأنه – والحالة هذه – يعتبر اعتداءً على شرع الله تعالى، وتعد على نصوص الشرع.

 

فمثلاً لا يمكن أن نطرح موضوع حرمة الزنا أو اللواط أو الخمرة للشورى، لنقرر هل هي جائزة أَم غير جائزة، أو يقر أمرها أم يرفض.. وهكذا سائر المسائل الأخرى.

 

فالمقرر شرعاً، لا يجوز تجاوزه تحت أي ذريعة، فإن تجاوزه، يعتبر اعتداءً صارخاً على دين الله تعالى، فيتحول الأمر في هذه الحالة إلى الهدم بدلا من البناء.

 

يقول د. محمود بابللي: "فإذا كان النص صريحاً واضحاً في إفادة الحكم الذي ورد لأجله بصورة لا تحتمل التأويل، لم يجز تأويله بما يخرجه عن ظاهره، ولا يحتمله، أي أن الاجتهاد الممنوع في مورد النص هو ما كان مصادماً لنص ثابت، وواضح في المعنى الذي ورد فيه، وضوحاً لا يحتمل التأويل.

 

فالمحرم في التشريع، أن تخرج على الأمة بقواعد تتصادم مع نصوص الشريعة، ولا تتفق مع مقاصدها وغاياتها، وأن تحلل ما هو حرام، أو تحرم ما هو حلال، ولو جاء ذلك عن شورى؛ لأن المحلل والمحرم في الشرع الإسلامي هو الله سبحانه، ورسوله الموحى إليه، من الله سبحانه.

 

وقد يتجاوز بعضهم الحدود التي رسمها القرآن الكريم، وبينتها السُّنة النبوية المطهرة، فيرون أنهم أصحاب حق في التشريع بصفتهم أولياء أمر المسلمين، فيحرمون ويحللون، ويزين لهم الشيطان أعمالهم، فيحسبون أنهم يحسنون صنعاً) (7).

 

لذا كان الأمر العملي في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتسم بالشورى، ويمكن أن نأخذ بعض النماذج في هذا الشأن، ونذكر منها:

 

ما حدث في غزوة بدر: إذ إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم استشار الصحابة في ثلاث قضايا مفصلة.

 

الأولى: وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما خرج إنما خرج يريد العير، ولا يريد القتال، ولم يتجهز له، وجاء في صحيح البخاري عن كعب بن مالك رضي الله عنه إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم يريد عير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد.

 

إذن القدر الإلهي، هو الذي جمع بين الطرفين، وهنا بدأت شورى رسول الله صلى الله عليه وسلّم في المسألة.. خرجنا للعير، وإذا بالأمر يتطلب اللقاء، فلابد من الوضوح والصراحة والشفافية، بين القائد وجنده، في هذا الحادث الطارئ.

 

وكانت نتيجة الشورى، أن قام أبو بكر رضي الله عنه فأحسن القول، ثم قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأحسن القول، ثم قام المقداد بن عمرو رضي الله عنه فقال قولته الشهيرة التي تكتب بماء الذهب، وتسطر بأحرف من نور: يا رسول الله، أمض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكن: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه(8).

 

وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلّم يطلب المشورة، وهو يقول: "أشيروا علي أيها الناس"، ففهمت الأنصار من تكرار طلب رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالمشورة أنه يعنيهم، ويريد سماع رأيهم، فبادر سعد بن معاذ رضي الله عنه

 

فقال: يا رسول الله! كأنك تعرض بنا؟ وكان أنما يعنيهم، لأنهم بايعوه على أن يمنعوه من الأحمر والأسود في ديارهم، فلما غزم على الخروج، استشارهم ليعلم ما عندهم، فقال له سعد رضي الله عنه: لعلك تخشى أن تكون الأنصار حقاً عليها أن لا ينصروك إلا في ديارها، وإني أقول عن الأنصار، وأجيب عنهم: فاظعن حيث شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت، وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك، فوالله لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان، لنسيرن معك، ووالله لئن استعرضت بنا هذا البحر خضناه معك (9).

 

فانظر كيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يلح على الشورى، وسماع آراء الصحابة من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم بكل وضوح وجلاء وصراحة.

 

وكان بإمكانه صلى الله عليه وسلّم – وحاشاه أن يفعل – أن يأخذ طرف كلامهم، ويكتفي في هذا، ليقرر المعركة، ولكن أراد أن يعلم الأمة أن الشورى من الدين، وجزء مهم، من أجزاء السياسة الشرعية، ومن ضروريات المسيرة الإسلامية إذا أردنا لها النجاح.

 

الثانية: النزول عند ماء بدر، ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم جاء أدنى ماء من بدر ونزل به.

 

فلما نزل النبي صلى الله عليه وسلّم بالمسلمين هذا المنزل، قال الحباب بن المنذر الخزرجي رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلّم: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال صلى الله عليه وسلّم: "بل هو الرأي والحرب والمكيدة"، فقال الحباب: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم، فننزله ثم نغور ما وراءه من القليب، ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماء، ثم نقاتل فنشرب ولا يشربون، فقال صلى الله عليه وسلّم: "لقد أشرت بالرأي".

 

فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلّم ومن معه من الناس، فسار حتى أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه، ثم أمر بالقليب فغورت، وبنى حوضاً على القليب ونزل عليه، فملئ ماء، ثم قذفوا فيه الآنية (10).

 

لقد أرت الأحداث الصحابة أصالة النزوع إلى الشورى في قلب النبي صلى الله عليه وسلّم وفكره وتصرفه، تقرباً إلى الله، فإنه على الرغم من رفعة قدره ووفرة عقله، وسداد نظره، وتأييد الله – عز وجل – له بالوحي، وتوقير الصحابة لمكانته، ينأى بنفسه وبأصحابه عن الاستبداد بالرأي، ولا يأنف أن ينزل عن رأيه إلى رأي رجل عادي من أصحابه، فعلموا من ذلك أهمية مكانة الشورى في دين الله تعالى، إذ جعل نبيه أعظم قدوة حسنة للإنسانية في تطبيقها، حتى في أحلك الظروف.

 

أخرج الترمذي بسند حسن، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "ما رأيت أحداً أكثر مشورة من رسول الله صلى الله عليه وسلّم".

 

وبناء عليه، فإن أبناء الحركة الإسلامية، والعمل الإسلامي، مطالبون بما يأتي:

 

1- تفعيل دور الشورى الصادقة المخلصة، لأن الشورى الشكلية الصورية، فلا نفع منها، بل قد تضر أكثر مما تنفع.

 

2- وهذا يعني إن أبناء العمل الإسلامي، يحتاجون إلى مؤسسات شورية قوية، ذات آليات عمل تتناسب مع معطيات العصر، العلمية والتكنولوجية، حتى تكون الشورى مثمرة.

 

3- توسيع دائرة الشورى، ومنها شورى المرأة، وإشراك الشباب في الرأي.

 

4- الاستماع للمخالفين، أكثر من الإنصات للموافقين، فالبناء الحقيقي، يبدأ من حرية الكلمة، وفضاءات التفكير الحر.

 

5- ولا يجوز أن نضيق برأي مخالف، فلربما كان الخير فيه، ونشجع أصحابه ونشكرهم عليه، سواء أخذنا به، أم لم نأخذ.

 

6- على أبناء العمل الإسلامي، ونحن في زمن الحديث، عن الحريات والشورى، والرأي الآخر، أن يضربوا أروع الأمثلة، في الممارسة والسلوك، لمثل هذه المسائل.

 

7- إعمال دوائر شورى الاختصاص: وذلك من خلال مجالس خبراء، في كل شأن من الشؤون، السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، وغير ذلك من مناحي الحياة، فلا يمكن أن أشاور منشداً بارعاً في مجاله، في كيفية إنشاء بنك، على أحدث قواعد العلم، في هذا الباب، وهكذا في الأمور كلها.

 

الهوامش

 

(1) الشورى، د. حسن محمد عتر، ص 35.

 

(2) روح المعاني، الإمام الألوسي، (19/197).

 

(3) الجامع لأحكام القرآن، الإمام القرطبي، (13/194).

 

(4) انظر: تفسير الرازي، الإمام الرازي (27/178)، تفسير ابن كثير، الحافظ ابن كثير (7/197).

 

(5) تفسير السعدي، ص 132.

 

(6) المرجع السابق، ص 132.

 

(7) الشورى في الإسلام، د. محمد بابللي، ص 68 – 69.

 

(8) سيرة ابن هشام، (2/253)، وبنحوه في البخاري ومسلم.

 

(9) زاد المعاد، ابن القيم (3/173).

 

(10) سيرة ابن هشام (2/260)، زاد المعاد (3/175)، مرويات غزوة بدر، حسن صاحب، قصة الحباب رضي الله عنه، ص 157 – 165.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين