دور المسجد في الدعوة

عني بتصحيحها وتخريج أحاديثها الشيخ مجد مكي

تنوَّعت أساليب الدعوة إلى الله، وتعدَّدت الطرق، وساعد اتساع رقعة بلاد المسلمين واختلاطهم بغيرهم على الاطِّلاع على الطرق التي يسلكها أصحاب الآراء والنظريات لنشر أفكارهم ونظرياتهم وإيصالها إلى غيرهم، فلقد اختار هؤلاء طرقاً وأساليب مدروسة دراسة وافية وطبقوها في نشر آرائهم وأفكارهم، بل أوجدوا أجهزة علميَّة مختصة تتابع دراسة هذه الأساليب وتطوُّرها حتى غدت كما نرى علماً مستقلاً له مناهجه وكتبه، هذا كله يدعو المسلمين إلى الاستفادة من جهود غيرهم فيما لا يتعارض مع معتقداتهم وأصول دينهم.
والدعوة إلى الله مهمَّة كل مسلم، يؤمن بالله ورسوله واختيار الطريق لإيصال الدعوة إلى القلوب موضحة بقوله تعالى:[
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] {النحل:125} .
وبإمكان كل داع مسلم أن يدعو إلى الله، ويبلِّغ هذه الدعوة، ويختار الطريقة الملائمة والأسلوب الناجح في إيصال دعوته، وأن يختار الأمكنة ويهيئ الأشخاص للاستماع إليه والإنصات إلى دعوته والالتفاف حول قوله.


ولكن يجب أن يسبق هذا كله إعداد وافٍ دقيق يؤهِّل الداعية إلى الله تأهيلاً يتلاءم مع مهمته العظيمة، من وسائل نشر الدعوة وأماكنها وطريقة نجاحها، كل هذا يجب أن يدخل في الحسبان، وأن يحرز قدراً كبيراً من اهتمام المسؤولين عن نشر الدعوة ونجاحها.
فإعداد الدعاة أمر أساسيٌّ تقوم عليه مقوِّمات الدعوة الناجحة، والأماكنُ التي تصلح لنشر الدعوة تعدَّدت وتنوَّعت، ولكن مع كل هذا يبقى للمسجد دوره وأثره، بل يعتبر المسجد هو المكان الأساس الصالح لنشر الدعوة مهما تعدَّدت الأماكن وكثرت الأساليب.
والمسجد لو هيِّئت له الأسباب وأُمِّنَت له الوسائل لأدَّى دوره في هذا المجال وخرَّج أسوداً وأشبالاً أعادوا سيرة سلفهم، وأحيوا ذكر تاريخهم، وربطوا حاضر هذه الأمة بماضيها.


أهمية المسجد ورسالته:
خلق الله الإنسان للعبادة [
وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ] {الذاريات:56} .
فالغاية من الخلق هي العبادة، وأخذ عليهم العهد عند التمكين أن يقيموا الصلاة:[
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ] {الحج:41} .


وشاء الله أن تكون المدينة المنورة المهدَ الأول الذي مكَّن الله فيه للإسلام والمسلمين، وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل من على ظهر ناقته ويختار قبل أن يستريح مكان المسجد؛ ليعليَ فيه كلمةَ الله، وأصبح المسجد أول ما يخطر ببال المسلمين حينما يخطِّطون مدينة أو قرية، سنَّة سنَّها نبيهم صلى الله عليه وسلم، وسار عليها من بعده، وأصبح المسجد هو الطابع المميز لهذه الحضارة يعبر عن صلتها الوثيقة بربِّ العالمين، ويؤْذن بمهمتها التي عليها أن تضطلع بها في هذا العالم، فالمسجد هو أول ثمار تمكين الله للمسلمين في الأرض، وهو فاتحة تاريخهم الحضاري ( ) .


فمهمة المسجد تنحصر في صياغة الحياة على أساس من توجيه الدين، وقدر وعى المسلمون الأوَّلون هذه الحقيقة، فكان المسجد قلبَ المجتمع النابض، وعقلَه المفكر، وضميرَه الوازع، وإرادَته الدافعة.
وأراد الإسلام أن تبقى المساجد منزهة كل أسباب الانحراف والتشويه، فحذر من بنائها على القبور، وجنَّبها الصور، ونهى عن زخرفتها وارتفاعها وتطويلها ليحافظ على بساطتها، وليستكثر المسلمون منها، وليقف فيها المسلم بين يدي ربه خاشعاً متبتِّلاً.
ولما للمسجد من أثر في توحيد المسلمين وتوجيههم وتقوية أواصر الأخوة والألفة والمحبة، ونشر التعاون والتكافل بينهم، جاءت النصوص تحثُّ على مداومة التردد إليه، والمحافظة على تأدية العبادة فيه، ورغَّبت بمضاعفة ثواب من حافظ على ذلك، فقد روى البخاري في الفتح 1/131 عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (
صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ – يعني أن يصليَ الرجل منفرداً في بيته أو عمله – بسبع وعشرين درجة) .


وروى في الفتح 1/131 أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمساً وعشرين ضعفاً، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخطُ خطوة إلا رُفعت له بها درجة، وحطَّ عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه: اللهم صلِّ عليه، اللهمَّ ارحمه، ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة) .


وهدَّد من يتخلف عنه بغير عذر وتوعده، فقال عليه السلام - في البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه الفتح 1/125 –: (والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذَّن لها ، ثم آمر رجلاً فيؤمّ الناس، ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم، و الذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقاً سميناً أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء).


وروى الحسين بن الحسن المروزي – الفتح 1/125 – عن الحسن في رجل تنهاه أمه أن يصلي العشاء في جماعة، فقال: ليس ذلك لها هذه فريضة .


وتعدَّدت الأساليب التي ترّغب الناس في الارتباط بالمسجد والمحافظة على العكوف عليه، فقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن عتبة بن عامر ، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في الصفة، فقال: (أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان – اسم موضع بقرب المدينة – أو إلى العقيق فيأتي منه بناقتين كوماوين – الكوماء من الإبل العظيمة السنام – في غير إثم ولا قطع رحم، فقلنا: يا رسول الله نحب ذلك. قال: أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله عزَّ وجل خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع، ومن أعدادهنّ من الإبل) .


والصحابة رضي الله عنهم سلكوا نفس مسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشدوا الناس إلى المساجد بأساليب شتى وطرق متنوعة، فقد روي أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يحبُّ أن يجمع الناس على الخير ويرشدهم إليه .


واهتم الإسلام اهتماماً عظيماً بالمساجد وأولاها من العناية والرعاية ما يلفت النظر ويجعل الإنسان يولي هذا الاهتمام نظره، ويجعل فيه فكره، فالرسول الكريم عليه الصلاة والسلام اهتم ببناء المسجد وساهم فيه أول قدومه المدينة المنورة فاختار المكان المناسب وهيَّأه بعد أن شرى أرضه وساهم معه أصحابه في بنائه، فقد روى البخاري في صحيحه قصة اشتراك النبي صلى الله عليه وسلم مع الصحابة رضوان الله عليهم في البناء، وبعد اكتمال البناء اهتموا بالطريقة التي تجمعهم فيه لأداء العبادات، وجاء الوحي يحدد ألفاظ الأذان وسيلة للاجتماع.
ثم أدَّى المسجد دوره فيما بعد فرأيناه مقراً لتجهيز الجيوش، ومجلساً للقضاء، ومنبراً للدعوة.


فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلِّم أصحابه ويثقِّفهم في المسجد، وأستطيع أن أجزم بأن المسجد كان معهداً علمياً مستوفياً لأرقى وسائل العلم وطرق المعرفة، كيف لا والمربِّي الأول رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القائم عليه والمشرف على توجيهه والمبدع لأساليب نشر الدعوة بطرق محبِّبة، وإلقاءٍ فريد، وكلامٍ بيِّنٍ فصلٍ جامع، كل هذه الأساليب دعت الصحابة رضوان الله عليهم للالتفاف حوله والاغتراف من خضمّ عبابه حتى كان الواحد منهم – البخاري في صحيحه 1/82 – إذا اضطر أناب غيره ليحضر مجلس العلم فيه، يتناوبان الحضور لئلا يفوتهم شيء .
ولم يقتصر الإرشاد فيه على الرجال، بل ساهم النساء بالحضور فقد طلبن من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخصِّصَ لهنَّ وقتاً بعد أن استحوذ الصحابة على أكثر الأوقات.


وقد سجل البخاري أنماطاً من هذا الجانب فقد روى في صحيحه 1/90 عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قالت النساء للنبي صلى الله عليه وسلم:" غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوما من نفسك، فوعدهن يوماً لقيهنَّ فيه فوعظهن وأمرهن فكان فيما قال لهنَّ :" ما منكنَّ امرأة تقدِّم ثلاثة من ولدها إلا كان لها حجاباً من النار " ،فقالت امرأة :– واثنتين؟ فقال: واثنتين .


وكان الصحابة يُحضرون معهم أبناءهم، بل يشجعونهم على المساهمة في مجالس العلم، فقد روى البخاري في صحيحه 1/111 عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وهي مثل المسلم: حدّثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البادية، ووقع في نفسي أنها النخلة، فأردت أن اقول هي النخلة، فإذا أنا أصغر القوم، قال عبد الله : فاستحييت، فقالوا: يا رسول الله أخبرنا بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي النخلة، قال عبد الله : فحدَّثت أبي بما وقع في نفسي، قال: فلأن تكون قلتها أحب إليَّ من أن يكون لي كذا وكذا...


وحسبك أن تعلم أن هذا المسجد خرَّج الصحابة يحملون شهادات تبيّن اختصاصهم، أكرمهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد خرَّج الصديق والفاروق وذا النورين، وفتى خيبر ،وسيدا الشباب، وأسد الله وأسد رسوله، وذا الجناحين، وأمين هذه الأمة، وسيف الله، وكثيراً سواهم ممن لا يستطيع العادُّ المستقصي أن يحصيَهم وهم الذين وقفوا بعد انتقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى يساهمون في تكوين الجيوش التي أعادت للإسلام عزَّه ووقفت موقف الأسد الهصور تعيد الحق إلى نصابه، والضالَّ إلى الهداية، والمنحرفَ إلى الجادة، وحسبك أن تعلم أن المادة التي كانت تعلَّم فيه هي: كتاب الله، وسنة نبيه، ممزوجة بلمحات فيها الإرشاد والتوجيه والرأي والمشاورة.


واستمر المسجد في عصور الإسلام الأولى مركز التوجيه والإشعاع العلمي والتربوي والأدبي والفكري والحربي.
ولم يقتصر المسجد على الجانب العلمي، بل ساهم في وضع مخطط متكامل لمواجهة الأحداث الكبرى في حياة المسلمين، فمنه انطلقت جحافل المسلمين، وفيه جُيِّشت الجيوش، وعُقدت الألوية، ومنه انطلقت يوم أحد ويوم مؤتة، والمسجد منه تصدر الفتاوى التي تنظِّم الحياة الاجتماعية وتُحل فيه المشكلات، وتُعالج فيه الأمور بل تُفصل فيه الخصومات، وتعلن فيه الأحكام، وفيه قام الشعراء ينشدون والخطباء يبلغون، وفي المسجد تداوى الجرحى، وعُقدت المفاوضات وتمَّت المعاهدات، وهو المنتدى لاستقبال الوفود، وعقد الندوات والمجتمع لفضِّ المنازعات، وهو الموئل إذا حزب المسلمين أمر، ومنه انطلق رسلُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يحملون كتبه إلى أرجاء المعمورة بعد أن هيَّأهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه وأعدهم للقاء أعظم الملوك وأدهى الساسة.


وفي المسجد تلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً من آيات القرآن، وفيه كان الكتاب يكتبون الوحي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ساحته كان يتمُّ التدريب على فنون القتال وإعداد السلاح، وكان هو المركز الأول لألسنة الأعلام المنافحين عن الإسلام.
فالمسجد أدَّى في فترات سلفت مهمته، بل ازدهر ، وذاك يرجع إلى اقتدار المسجد نفسه على أداء دوره في توجيه الحياة توجيهاً متكاملاً؛ لأنها في حاجة حقيقيَّة إليه، وساعد على هذا المجتمع المتخلق بأخلاق الدين، المسيطر على حياة الناس، والمهيمن على تصرفاتهم، وساعد على ازدهار المسجد عدم وجود مؤسسات اجتماعية تزاحم المسجد وتنافسه في دوره، فكان هو الموئل مستقلاً بلا مشارك ولا مدافع.


أدى المسجد في القرون الأولى دوره وقام به خير قيام فكان قاعدة الحضارة ومشعل الهداية، ومنبع الخير والتوجيه، ومركز الدعوة فهل هو الآن كذلك؟!
إنَّ الحياة المعاصرة تبدو في ظاهرها مستغنيةً عن المسجد أو مُعْرِضة عن توجيهه، وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدلُّ على سطحيَّة الناس في أخذهم للدين وضعف إيمانهم بالعقيدة، وهم بهذا يرثى لهم لأنهم في حقيقتهم أشد ما يكونون حاجة إلى رجوعهم إلى أصولهم وأصالتهم.
لكن في الحقيقة هي محتاجة إليه بل هي في أمس الحاجة إلى توجيهه والعودة إليه بشرط أن يرتفع هذا التوجيه إلى مستوى يجعله أهلاً لأن يُستمع إليه، قادرا على الصمود عند مقارنته بسواه.


ولقد استطاع في العصور الأولى أن يكون مجالاً تنبعث فيه القيم الإسلامية، وتمارس فيه أنماط السلوك العلمي، وتنبعث منه أشعة الحضارة الإسلامية إلى مختلف الجهات.


هل من عود إلى المسجد؟
إن المسجد اليوم ينبغي أن تتوافر له الأسباب الكفيلة لإنعاش وإعادة الحياة إلى أوصاله لإنقاذه من الوضع الذي هو عليه الآن، فلقد أصبح مكاناً للصلاة فحسب، لا يقصده في بعض بلدان المسلمين إلا الضعفاء ومن انقطعت بهم سبل الحياة، وأصبح لا ينظر إليه إلا أنه من كمالات الحياة لا من ضروراتها، لذلك لم يُعْن به العناية الكافية.


وفي رأيي إن أردنا أن يعود للمسجد دوره فالخطوة الأولى فيه أن نعدَّ الأئمة ومساعديهم، ونرفع كفاءتهم ومكانتهم ليكونوا على مستوى المسؤولية، والكفاءة العلمية ليستطيعوا معالجة الموضوعات المطروحة ومناقشتها مناقشة علمية مؤيدة بالدليل والأسلوب الحسن والثقة التامَّة بالإسلام.
إن المسجد اليوم ينبغي أن يؤمًّن له إمام مسلم مؤمن ينطلق في عمله من قاعدة الإيمان، يراقب الله في عمله، ويتقي ربه في تصرفاته، ويكون قدوة حسنة في حاله ومقاله، واثقاً من نفسه مؤمناً بمهمته التي اختارها الله له، ملاحظاً كل حركة وسكنة تصدر عنه لينتزع الثقة من جماعته المحيطين به، والمتردِّدين عليه، وليصل إلى قلوبهم عن طريق القدوة الحسنة والإرشاد المستقيم، وهذا كله لا يتم إلا بعد اختيار الإمام وإعداده، والاختيار يجب أن يتم على أساس الاقتناع بأن الإمام داعية تقوم على أكتافه مهمة دعوية وقيادة مجتمع لا على أساس عمل وظيفي تنتهي وظيفته بأداء الشعائر ثم انتظار قبض الراتب.


لهذا يجب أن يهيأ للإمامة أنماط معينة من الدعاة لهم دراية فقهية، ومشاركة في الدعوة والإرشاد ، سيرتهم حسنة، متصفون بالإخلاص والفضيلة والتفاني في حب الدعوة والجهاد في سبيلها، ويجب أن يؤمَّن له دخل يتلاءم مع خطورة هذا العمل وأهميته ليستعين على التفرُّغ له والانصراف إليه بكليَّته.
-الاستفادة من يوم الجمعة بتخصيص هذا اليوم في المسجد لمصلحة أبناء الحي يجتمعون بوسائل مغرية تشدُّهم إلى المسجد باختيار ما يرغِّبهم في التعلق بالمسجد عن طريق تنظيم دروس من شأنها أن تغطي جميع حاجاتهم الثقافيَّة والعلميَّة وتؤمِّن لهم الثقة بأنفسهم وضمان تأدية واجباتهم على اختلاف مراحلهم وتنوع ثقافتهم، ويستعين الإمام بمن يتوسم فيه من أبناء الحي، أو من الطلاب الذين يختارهم لمعاونته.


- تخصيص دقائق بعد كل فريضة يؤديها يوجِّه فيها كلمةً أو حديثاً أو نصيحة، أو حكمة، أو يشرح آية، وقد لمست فائدة كبيرة من هذا العمل.
-الاستفادة من الأوقات التي تتلاءم مع مصلحة أبناء الحي لتعليمهم ما ينفعهم، وقد جربت الاستفادة من الوقت الواقع بين المغرب والعشاء في تعليم القرآن الكريم، ونجح هذا العمل نجاحاً لا زال أثره باقياً إلى الآن.
-إحياء المسجد بالمحاضرات والبحوث العلمية التي تتناسب مع المستوى الثقافي لأبناء الحي، يقوم بإلقائها خيرة المتخصِّصين بحيث تشمل الجوانب الدينيَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة، وتكون مرتبطةً بواقعهم، تعالج مشكلاتهم وتبصّرهم بحقيقة هذا الدين وبسيرة أسلافهم الصالحين، وتربطهم بدينهم ربطاً روحيَّاً، وتنشر روح المحبة والتعاون والإخاء بينهم.


-تخصيص يوم من كل شهر يجتمع فيه أئمة مساجد الحي، يتدارسون العقبات التي تعترضهم، ويتعاونون على حلها وإيجاد السبل الكفيلة بمعالجتها، وكم يحسن أن يتبادل الأئمة الزيارات بين مساجد الحي، فيتعرف أهل الحي جميعاً على هؤلاء الدعاة، ويكونون بعملهم هذا قد أعطوا نموذجاً رائعاً يدلُّ على الحب والتعاون.
-كم يحسن أن يخرج الدعاة للتجوال على أبناء الحي وزيارة آبائهم في بيوتهم فيدخلوا الثقة إلى قلوب الآباء ولو تمكَّن دعاة الحي من الاتصال ببقية الدعاة على مستوى أحياء البلدة لارتفعوا بمستوى المسجد إلى المرتبة العالية، ولأصبح وضع المسجد في حالة حسنة تبشر بالخير وتدعو إلى التفاؤل.
ولا يجب أن يقتصر الداعية على المسجد بل لابد من غشيان مجالس الناس ومجتمعاتهم ومنتدياتهم، وهو مكلف بتبليغ الدعوة إلى كل من يحيط به بكل وسيلة.


وفي تقديري لو أمِّن للمسجد هؤلاء الدعاة ، وسلك الدعاة هذه الطرق لعادت للمسجد مكانته، وعظمت هيبته، وانطلق منه الأشبال يعيدون سيرة سلفهم، ويمكِّنون لدعوة الله في الأرض.
ولا يفوتني أن أذكر الاستفادة من أيام الإجازات المدرسيَّة الطويلة والقصيرة، فهي فرص لو استغلها الدعاة في توجيه النشء إلى المسجد، باختيار ما يؤمِّن لهم مصلحتهم ويرعاهم فهي فرص لو استغلت لأدَّت كثيراً من الفائدة، وإن فعلنا هذا فلسنا مبتدعين، فلقد فعل هذا سلفنا الصالح، فقد روى الطبراني في مجمع الزوائد 1/123 أن أبا هريرة رضي الله عنه دخل السوق، وأغرى الناس بحضور المسجد، فقال: أنتم هنا وميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم يوزَّع في المسجد ، فشدهم إلى المسجد وأغراهم بحضور حلقاته وجمعهم على ما قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم بهذا الأسلوب التربوي الرائع، وما أجدرنا بالاقتداء به والتمسك بسيرة هؤلاء الأئمة القادة.
نسأل الله أن يوفق للمسجد الدعاة الصَّادقين، ويعيد له سيرته الأولى، وما ذلك على الله بعزيز.

 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم


--------------------
بث قدم إلى المؤتمر العالمي لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة من 24- 29 / 2/1397هـ- 1977م
( ) وكيل عمادة شئون مكتبات الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
( ) من مقال للدكتور: محمد حسين ذهبي.
- متفق عليه: رواه البخاري في الأذان (645)، ومسلم في المساجد (650).
- متفق عليه: رواه البخاري في الصلاة (477)، ومسلم في المساجد (649).
- متفق عليه: رواه البخاري في الأذان (644)، ومسلم في المساجد (651).
- ذكره ابن حجر في فتح الباري (2/125)، وصحح إسناده.
- رواه مسلم في صلاة المسافرين (803)، وأحمد (17408).
- عن أبي هريرة ، أنه مر بسوق المدينة، فوقف عليها، فقال: «يا أهل السوق، ما أعجزكم» قالوا: وما ذاك يا أبا هريرة؟ قال: «ذاك ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم، وأنتم هاهنا لا تذهبون فتأخذون نصيبكم منه» قالوا: وأين هو؟ قال: في المسجد» فخرجوا سراعا إلى المسجد، ووقف أبو هريرة لهم حتى رجعوا، فقال لهم: «ما لكم؟» قالوا: يا أبا هريرة فقد أتينا المسجد، فدخلنا، فلم نر فيه شيئا يقسم. فقال لهم أبو هريرة: «أما رأيتم في المسجد أحدا؟» قالوا: بلى، رأينا قوما يصلون، وقوما يقرءون القرآن، وقوما يتذاكرون الحلال والحرام، فقال لهم أبو هريرة: «ويحكم، فذاك ميراث محمد صلى الله عليه وسلم. رواه الطبراني في الأوسط (1429)، وحسن إسناده المنذري في الترغيب والترهيب (138)، والهيثمي في مجمع الزوائد (505).
- إشارة إلى الحديث المتفق عليه: عن عبد الله بن عباس، عن عمر، قال: كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد وهي من عوالي المدينة وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينزل يوما وأنزل يوما، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك... رواه البخاري في العلم (89)، ومسلم في الطلاق (1479).
- متفق عليه: رواه البخاري في العلم (101)، ومسلم في البر والصلة (2633).
- متفق عليه: رواه البخاري في العلم (131)، ومسلم في صفة القيامة (2811).
- سبق تخريجه.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين