الإسلام: دعوة شاملة كاملة -1-

 

 

))الشمول(( من الخصائص التي تميَّز بها الإسلام عن كل ما عرفه الناس من الأديان والفلسفات والمذاهب، بكل ما تتضمنه كلمة ))الشمول(( من معان وأبعاد.

إنه شمول يستوعب الزمن كله. ويستوعب الحياة كلها، ويستوعب كيان الإنسان كله.

لقد عبَّر أحد علماء الإسلام عن أبعاد هذا الشمول في رسالة الإسلام فقال وأجاد: ))إنها الرسالة التي امتدت طولاً حتى شملت آباد الزمن، وامتدت عرضاً حتى انتظمت آفاق الأمم، وامتدت عمقاً حتى استوعبت شئون الدنيا والآخرة((.

رسالة الزمن كله:

إنها رسالة لكل الأزمنة والأجيال، ليست رسالة موقوتة بعصر معين أو زمن مخصوص ينتهي أثرها بانتهائه، كما كان الشأن في رسالات الأنبياء السابقين على محمد صلى الله عليه وسلم.

فقد كان كل نبي يبعث لمرحلة زمنية محدودة، حتى إذا ما انقضت بعث الله نبياً آخر.

أما محمد صلى الله عليه وسلم فهو خاتم النبيين، ورسالته هي رسالة الخلود التي قدر الله بقاءها إلى أن تقوم الساعة، ويطوى بساط هذا العالم، فهي تتضمن هداية الله الأخيرة للبشرية، فليس بعد الإسلام شريعة، ولا بعد القرآن كتاب، ولا بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبي.

إنها رسالة المستقبل المديد ولا شك، وهي أيضاً رسالة الماضي البعيد ـ إنها في جوهرها وأصولها الاعتقادية والأخلاقية ـ رسالة كل نبي أُرسل، وكل كتاب أُنزل.

فالأنبياء جميعاً جاءوا بالإسلام ونادوا بالتوحيد، واجتناب الطاغوت: [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ] {الأنبياء:25}.

[وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ] {النحل:36}.

كل الأنبياء أعلنوا أنهم مسلمين، ودعوا إلى الإسلام.

نوح عليه السلام قال: [وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ] {يونس:72}. وإبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام قالا: [رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ] {البقرة:128}. ووصى إبراهيم بنيه ويعقوب فقالا:[وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ] {البقرة:132}.

ويوسف عليه السلام دعا ربه فقال: [تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ] {يوسف:101}.

وموسى عليه السلام قال:[وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ] {يونس:84}. وسحرة فرعون حين آمنوا بموسى عليه السلام قالوا:[ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ] {الأعراف:126}.

وسليمان عليه السلام بعث لبلقيس وقومها:[أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ] {النمل:31}. والحواريون قالوا لعيسى صلى الله عليه وسلم:[ آَمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ] {آل عمران:52}.

إنها إذن ـ في جوهرها ـ رسالة كل نبي جاء من عند الله تعالى منذ عهد نوح إلى محمد عليهم الصلاة والسلام إنها رسالة الزمن كل الزمن.

رسالة العالم كله:

وإذا كانت هذه الرسالة غير محدودة بعصر ولا جيل ـ فهي كذلك غير محدودة بمكان ولا بأمة، ولا بشعب ولا بطبقة.

إنها الرسالة الشاملة، التي تخاطب كل الأمم، وكل الأجناس، وكل الشعوب، وكل الطبقات.

إنها ليست رسالة لشعب خاص، يزعم أنه وحده شعب الله المختار! وأن الناس جميعاً يجب أن يخضعوا له.

وليست رسالة لإقليم معين، يجب أن تدين له كل أقاليم الأرض، وتجبي إليه ثمراتها وأرزاقها.

وليست رسالة لطبقة معيَّنة مهمتها أن تُسخِّر الطبقات الأخرى لخدمة مصالحها أو اتباع أهوائها، أو السير في ركابها سواء أكانت هذه الطبقة المسيطرة من الأقوياء ثم الضعفاء من السادة أم من العبيد، من الأغنياء أم من الفقراء والصعاليك إنها رسالتهم جميعاً، وليست لمصلحة طائفة منهم دون سواها.

وليس فهمها ولا تفسيرها ولا الدعوة إليها حكراً على طبقة خاصة كما قد يتوهم كثير من الناس. إنها هداية رب الناس لكل الناس، ورحمة الله لكل عباد الله.

[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] {الأنبياء:107}. [قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا] {الأعراف:158}. [تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا] {الفرقان:1}. [إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ] {يوسف:104}.

وقد زعم بعض المستشرقين أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلن في أول أمره أنه مبعوث إلى الناس كافَّة، وإنما فعل ذلك بعدما أتيح له الانتصار على قومه من العرب. ولكن الآيات التي ذكرناها ترد عليهم. فكلها ـ لسوء حظهم ـ من سور القرآن المكية، ومثلها مما نزل من أوائل القرآن الكريم كثير.

رسالة الإنسان كله:

وهي كذلك رسالة الإنسان كله من حيث هو إنسان متكامل.

إنها ليست رسالة لعقل الإنسان دون روحه، ولا لروحه دون جسمه، ولا لأفكاره دون عواطفه، ولا عكس ذلك.

إنها رسالة الإنسان كله، روحه وعقله، وجسمه وضميره، وإرادته، ووجدانه، كما أشرنا إلى ذلك في ))خصيصة الإنسانية((

إن الإسلام لم يشطر الإنسان شطرين، كما فعلت أديان أخرى: شطراً روحياً يوجهه الدين، ويتجه به للمعبد، وهذا الشطر أو النصف من اختصاص رجال الدين (الكهنوت) يتحكم فيه الكاهن أو القسيس، ويقود الإنسان من خلاله، وشطر آخر مادي لا سلطان للدين ولا لرجاله عليه، ولا مكان لله فيه، إنه شطر للحياة، و هذا في الواقع هو الجزء الأكبر من حياة الإنسان.

ترى هل يتفق هذا مع فطرة الإنسان وطبيعته كما خلقه الله؟

كلا، فالإنسان ـ كما خلقه الله سبحانه ـ ليس مجزءاً ولا مشطوراً، إنه ))كل(( متكامل، و ))كيان(( واحد، لا تنفصل فيه روح عن مادة، ولا مادة عن روح، ولا عقل عن عاطفة، ولا عاطفة عن عقل، إنه وحدة، لا تتجزأ من الجسم والروح والعقل والضمير.

فلهذا يجب أن تكون غايته واحدة، ووجهته واحدة وطريقه واحداً، وهذا  ما صنعه الإسلام، فقد جعل الغاية الله، والوجهة الآخرة.

وبهذا لا يتمزق الإنسان بين توجيهين مختلفين، أو سلطتين متناقضتين هذه تشرق به وتلك تغرب، كالعبد الذي له أكثر من سيد، كل واحد يأمره بغير ما يأمره به الآخر، فهمه شعاع، وقلبه أوزاع كما ذكر القرآن الكريم في قوله:[ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا] {الزُّمر:29} .

رسالة الإنسان في أطوار حياته كلها:

إن الإسلام هو رسالة الإنسان كله، وهو رسالته كذلك في كل مراحل حياته ووجوده، فهذا مظهر آخر من مظاهر الشمول الإسلامي.

إنها هداية الله، تصحب الإنسان أنى اتجه وأنى سار في أطوار حياته، إنها تصحبه طفلاً ويافعاً وشاباً، وكهلاً وشيخاً. وترسم له في كل هذه المراحل المتعاقبة المنهج الأمثل الذي يحبه الله ويرضاه.

فلا عجب أن تجد في الإسلام أحكاماً وتعاليم تتعلق بالمولود منذ ساعة ميلاده مثل إماطة الأذى عنه، والتأذين في أذنه، واختيار اسم حسن له، وذبح عقيقة عنه شكراً لله، وغير ذلك مما ضمنه أمام كابن القيم كتاباً مستقلاً له سماه ))تحفة المودود في أحكام المولود((

وتجد أحكاماً تتعلق بإرضاع الرضيع ومدته وفصاله وفطامه، ومن يرضعه وعلى من تكون نفقة المرضعة أو أجرتها، وخصوصاً عند الطلاق وانفصال أم الرضيع عن أبيه، فهنا ينزل القرآن الكريم موضحاً مفصلاً كل ذلك، فيقول: [وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] {البقرة:233}.

وبعد ذلك نجد أحكاماً تتعلق بالإنسان صبياً، وشاباً وكهلاً وشيخاً، فلا توجد مرحلة من حياته إلا وللإسلام فيها توجيه وتشريع.

وأكثر من ذلك أنها تُعنى بالإنسان قبل أن يولد، وبالإنسان بعد أن يموت.

ولا غَرو أن وجدنا في الإسلام أحكاماً تتعلق بالجنين، من حيث وجوب حمايته، والحرص على حياته واستمرار غذائه بمقدار كاف.

ولهذا حرم الشرع الإجهاض، وقدَّر دية محددة تجب على من تسبب في اسقاط الجنين، وشرَع للحامل أن تفطر في رمضان إذا خافت على جنينها أن يقل غذاؤه، وتتأثر صحته. إلى غير ذلك من الأحكام التي تتعلق بالحمل وميراثه، وبالحامل ونفقتها مدة الحمل، وإن كانت مطلقة [وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ] {الطَّلاق:6}.

كما وجدنا في الإسلام أحكاماً أخرى تتعلق بالإنسان بعد موته من وجوب تغسيله وتكفينه والصلاة عليه، ودفنه بكيفية خاصة، ومن شرعية التعزية فيه، والدعاء له، وتنفيذ وصاياه، وقضاء ديونه التي عليه للعباد أو لله تعالى. وغير ذلك مما يشمله كتاب))الجنائز(( وغيره في الفقه الإسلامي.

رسالة الإنسان في كل مجالات حياته:

ومن معاني الشمول في الإسلام أيضاً: أنه رسالة للإنسان في كل مجالات الحياة، وفي كل ميادين النشاط البشري، فلا يدع جانباً من جوانب الحياة الإنسانية إلا كان له فيه موقف: قد يتمثل في الإقرار والتأييد، أو في التصحيح والتعديل، أو في الاتمام والتكميل، أو في التغيير والتبديل، وقد يتدخل بالإرشاد والتوجيه، أو بالتشريع والتقنين، قد يسلك سبيل الموعظة الحسنة، وقد يتخذ أسلوب العقوبة الرادعة، كل في موضعه.

المهم هنا أنه لا يدع الإنسان وحده ـ بدون هداية الله تعالى ـ في أي طريق يسلكه، وفي أي نشاط يقوم به: مادياً كان أو روحياً، فردياً أو اجتماعياً، فكرياً أو عملياً، دينياً أو سياسياً، اقتصادياً أو أخلاقياً.

إن الإسلام ـ كما قال المرحوم العقاد ـ هو العقيدة المثلى للإنسان منفرداً أو مجتمعاً، وعاملاً لروحه أو عاملاً لجسده، وناظراً إلى دنياه، أو ناظراً إلى آخرته ومسالماً أو محارباً، ومعطياً حق نفسه، أو معطياً حق حاكمه وحكومته، فلا يكون مسلماً وهو يطلب الآخرة دون الدنيا، ولا يكون مسلماً وهو يطلب الدنيا دون الآخرة ولا يكون مسلماً لأنه روح تنكر الجسد، أو لأنه جسد ينكر الروح، أو لأنه يصحب إسلامه في حالة ويدعه في حالة أخرى... ولكنما هو المسلم بعقيدته كلها مجتمعة لديه، في جميع حالاته، سواء تفرد وحده أو جمعته بالناس أواصر الاجتماع.

))إن شمول العقيدة في ظواهرها الفردية، وظواهرها الاجتماعية، هو المزية الخاصة في العقيدة الإسلامية، وهو المزية التي توحى إلى الإنسان أ،ه (كل) شامل، فيستريح من (فصام) العقائد التي تشطر السريرة شطرين، ثم تعيا بالجمع بين الشطرين على وفاق(( ([1]).

يريد الكاتب الكبير رحمه الله تعالى أن بعض الديانات كالمسيحية، ارتضت أن تقسم الحياة نصفين: نصف للدين تقوده الكنيسة... ونصف للدنيا تقوده الدولة. كما ذكرنا من قبل.

وسند رجال المسيحية في ذلك ما حكاه إنجيلهم عن المسيح عليه السلام أنه قال لمن سأله عن قيصر قولته المشهورة: أعط ما لقيصر لقيصر، وما لله لله؟

ولكن الإسلام ينكر هذه القسمة للحياة ويرفضها لأمرين:

الأول: أن الإسلام يجعل الكون كله والخلق كلهم ملكاً لله، وليس لقيصر فيه ذرة واحدة، فقيصر إذن وما لقيصر لله الواحد القهار. وفي هذا يقول الله تعالى:[أَلَا إِنَّ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ] {يونس:55}. [لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى] {طه:6}.

[وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا] {آل عمران:83}.

فلا يجوز في عقيدة الإسلام أن يخضع المسلم ـ مختاراً ـ لأمر قيصر، وهو قادر على اخضاع قيصر لأمر الله، ولا يجوز أن يعطي ظاهره لقيصر، وباطنه لله، [بَلْ للهِ الأَمْرُ جَمِيعًا] {الرعد:31}.

والثاني: أن الحياة بكل جوانبها كتلة واحدة، لا تقبل الانقسام والتفريق، إلا في الورق أو الرؤوس. أما في الواقع فالحياة كل لا يتجزأ ولا ينفصل فيه دين عن دولة، ولا اقتصاد عن أخلاق، ولا فرد عن أسرة، ولا أسرة عن مجتمع.

ولهذا تحاول كل المذاهب الكبرى السيطرة على كل نواحي الحياة، وتوجيهها حسب فكرتها وعقيدتها، حتى الكنيسة نفسها في العصور الوسطى بأوروبا، لم تطبق عملياً ما جاء في الانجيل نظرياً، وحاولت هي أن تأخذ مكان قيصر أو ـ على الأقل ـ تسيطر عليه، وتدير السياسة من خلاله.

ولهذا لم يقبل الإسلام أن يكون مجرد عقيدة نظرية، أو عبادة روحية، أو تهذيب خلقي برغم أهمية هذه الجوانب وضرورتها في نظر الإسلام، ولكن لابدَّ لها من سياج يحميها من التشريعات والأنظمة التي هي جزء لا يتجزأ من رسالة الإسلام.

شمول التعاليم الإسلامية:

وإذا كان الإسلام هو رسالة الإنسان كله في كل أطواره، ورسالة الحياة كلها، بكل جوانبها ومجالاتها، فلا عجب أن نجد التعاليم الإسلامية كلها تتميز بهذا الشمول والاستيعاب لكل شؤون الحياة والإنسان.

نجد هذا الشمول يتجلى في العقيدة والتصور. ويتجلى في العبادة والتقرب، ويتجلى في الأخلاق والفضائل، ويتجلى في التشريع والتنظيم.

شمول العقيدة الإسلامية:

فالعقيدة الإسلامية عقيدة شاملة من أي جانب نظرت إليها.

أ ـ فهي توصف بالشمول، باعتبار أنها تفسر كل القضايا الكبرى، في هذا الوجود، القضايا التي شغلت الفكر الإنساني، ولا تزال تشغله وتلح عليه بالسؤال، وتتطلب الجواب الحاسم الذي يخرج الإنسان من الضياع والشك والحيرة، وينتشله من متاهات الفلسفات والنحل المتضاربة قديماً وحديثاً، قضية الألوهية... قضية الكون... قضية الإنسان... قضية النبوة... قضية المصير والجزاء.

فإذا كانت بعض العقائد تعني بقضية الإنسان دون قضية الألوهية والتوحيد، أو بقضية الألوهية دون قضية النبوة والرسالة، أو بقضية النبوة، دون قضية الجزاء الأخروي، فإن عقيدة الإسلام قد عنيت بهذه القضايا كلها، وقالت كلمتها فيها، بشمول واضح ووضح شامل.

ب ـ وتوصف بالعقيدة الإسلامية بالشمول كذلك ؛ لأنها لا تجزئ بين إلهين اثنين: إله الخير والنور، وإله الشر والظلمة، كما كان في المجوسية، أو بين الله والشيطان الذي سمي في الأناجيل باسم رئيس هذا العالم، واسم إله الدهر، وانقسم العالم بينه وبين الله، فله مملكة الدنيا، ولله ملكوت السموات، فيوشك أن يكون عمله في نظر المسيحية مضارعاً لعمل ))أهريمان(( إله الظلام في المجوسية. ([2]).

إن الشيطان في نظر الإسلام، يمثل قوَّة الشر لا مراء، ولكنها قوة لا سلطان لها على ضمير الإنسان، إلا سلطان الوسوسة والإغراء والدعوة إلى الشر وتزيينه في الأنفس، فهذا مبلغ كيده وجهده، وهو كيد ضعيف أمام يقين المؤمنين المعتصمين بالله المتوكلين عليه.

يقول الله تعالى، على لسان الشيطان نفسه في مخاطبة من  أغواهم: [وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي] {إبراهيم:22}.

ويقول سبحانه في مخاطبة الشيطان:[إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ] {الإسراء:65}. ويقول: [إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ] {النحل:100} . ويقول: [إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا] {النساء:76}.

ج ـ وتوصف العقيدة الإسلامية بالشمول من ناحية أخرى وهي: أنها لا تعتمد في ثبوتها على الوجدان أو الشعور وحده، كما هو شأن الفلسفات الإشراقية والمذاهب الصوفية، وكما هو شأن المسيحية التي ترفض تدخل العقل في العقيدة رفضاً باتاً، بحيث لا تؤخذ إلا بالتسليم المطلق، على حد قولهم: أعتقد وأنت أعمى!.

وهي كذلك لا تعتمد على العقل وحده، كما هو شأن جل الفلسفات البشرية التي تتخذ العقل وسيلتها الفذة في معرفة الله وحل ألغاز الوجود.

وإنما تعتمد على الفكر والشعور معاً أو العقل والقلب جميعاً، باعتبارها أداتين متكاملتين من أدوات المعرفة الإنسانية، والوعي الإنساني.

إن الإيمان الإسلامي الصحيح هو الذي ينبعث من ضياء العقل وحرارة القلب، وبذلك يؤدي دوره ويؤتي أكله في الحياة.

ويوم أصبح ))علم التوحيد(( في الإسلام علماً عقلياً بحتاً، يقوم على الجدل حتى سمي ))علم الكلام(( أنكره كثير من أئمة الإسلام، لأن فعل هذا الجدل وحده لا يكون الإيمان الإسلامي.

وبانتشار هذا اللون من المعرفة العقلية الجافة وجد فراغ عاطفي وروحي، هيأ لظهور فئة أخرى تقوم بملئه على طريقتها، وهي ))الصوفية((.

والحق أن ))علم الكلام(( إنما يجدي في مجال واحد وهو مجادلة خصوم العقيدة ودفع الشبهات والأباطيل عنها، أما تكوينها وإثباتها من الأساس فلا يكفي.

د ـ وتوصف العقيدة الإسلامية بالشمول أيضاً، لأنها عقيدة لا  تقبل التجزئة، لابدَّ أن تؤخذ بكل محتوياتها دون إنكار، أو حتى شك في أي جزء منها، فمن آمن بـ 99% من مضمون هذه العقيدة، وكفر بـ 1% لم يعد بذلك مسلماً.

فالإسلام يقتضي أن يسلم الإنسان قياده كله لله تعالى، ويؤمن بكل ما جاء من عنده.

لا يجوز في نظر العقيدة الإسلامية أن يقول مسلم: أنا مؤمن بالقرآن الكريم في شأن الشعائر والعبادات ـ مثلاً ـ ولكن لا أؤمن بما جاء في شأن الأخلاق والآداب أو يقول: آخذ من القرآن العبادة والأخلاق، ولكن لا أستمد منه النظام والتشريع، أو آخذ منه ذلك كله، ولكن لا أصدقه في كل ما يرويه من أحداث التاريخ، أو أصدقه وأسلم له في كل ما ذكرنا ولكن لا أعتقد بحقيقة ما جاء في وصف الآخرة، وحقيقة الجنة والنار.

ومن ثم أنكر القرآن الكريم أشد الإنكار على بني إسرائيل إيمانهم ببعض الرسل دون بعض، وببعض الكتاب الإلهي دون بعض، يقول تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا(150) أُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا(151) ]. {النساء}..

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

المصدر: مجلة الأزهر السنة 48 ذو القعدة 1396 الجزء 9.

 


([1] ) الإسلام في القرن العشرين للأستاذ عباس العقاد: فصل قوة صامدة.

([2] ) انظر: حقائق الإسلام للعقاد ص 103.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين