أمريكا باعت سوريا لإيران -1-

للحكاية بدايتان، بداية قريبة وبداية بعيدة. بدأت القريبةُ مع توقيع الاتفاق النووي المشؤوم، الذي لن تُكشَف خفاياه الكاملة إلا عندما يُفرَج عن الوثائق السرية الملحَقة به بعد خمسين سنة. على أننا لا تهمّنا معرفةُ كلمات الاتفاق بين أمريكا وإيران بقدر ما تهمنا معرفة آثاره على الأرض، وهي الآثار التي نراها كل يوم في سوريا ولبنان والعراق.

 

لا بأس، لنترك هذا الجزء كله، ولنعد ستّاً وأربعين سنة إلى الوراء لكي نقرأ البدايات المبكرة للحكاية، ومَن استطالها فليقفز إلى خلاصتها في آخر هذه المقالة، وليحرص على قراءة جزء المقالة الثاني، فإن هذا الجزء الأول مقدمة تاريخية وذلك الثاني هو لُبّ الموضوع.

 

-1-

 

كانت حرب فيتنام أسوأ كارثة عسكرية في تاريخ أمريكا، فبعد أكثر من ستّ سنوات من قتال شرس شارك فيه نصف مليون جندي أمريكي اضطر الأمريكيون -أواسط عام 1968- إلى الجلوس مع الفيتناميين على طاولة المفاوضات في باريس، وكانت أمريكا حريصة على إنهاء الحرب فأعلن الرئيس الأمريكي جونسون وقف القصف من جانب واحد قبل بدء المفاوضات، لكن الفيتناميين كانوا أكثر تصلباً، فرفضوا وقف إطلاق النار حتى انسحاب آخر جندي أمريكي من فيتنام.

 

بعد ذلك بأشهر قليلة دخل نكسون إلى البيت الأبيض رئيساً جديداً للولايات المتحدة، حينما كان إخفاق أمريكا في الحرب يلقي بظلاله القاتمة على البلاد، فبدأ ولايته بإطلاق خطة لسحب القوات الأمريكية من فيتنام، ثم ألقى في تموز 1969 -في جزيرة غوام بالمحيط الهادي- خطبته الشهيرة التي أعلن فيها السياسة الاستعمارية الجديدة للولايات المتحدة، قائلاً إن أمريكا "لن تستمر بالقيام بدور الشرطي العالمي، لأنه أوقعها في أزمات مالية وعسكرية وسياسية وأخلاقية كثيرة خلال ربع قرنٍ انقضى على نهاية الحرب العالمية الثانية، التي قادت فيها أمريكا دولَ العالم الحرّ إلى النصر". ثم أوضح أن الإستراتيجية الأمريكية الجديدة ستقوم على "دعم أنظمة مؤيدة لأمريكا، لتأخذ على عاتقها الدور الرئيسي في حفظ أمن العالم وحماية مصالح أمريكا والحد من الدور الأمريكي المباشر".

 

-2-

 

سرعان ما تُرجم مبدأ نكسون (Nixon Doctrine) في منطقتنا بمنح إيران الدورَ الرئيسي في حفظ أمن الإقليم ورعاية المصالح الأمريكية، وهو الدور الذي كانت تقوم به بريطانيا بصورة تقليدية قبل انسحابها من الخليج العربي سنة 1971، وبناء على هذا الدور الجديد سَلّمت بريطانيا لإيران الجزرَ الثلاث الواقعة في مدخل الخليج العربي (وهي أصلاً جزء من أراضي الشارقة ورأس الخيمة) لحماية مضيق هرمز و"ضمان تدفق النفط من الخليج إلى العالم الحرّ" كما قالوا آنذاك.

 

صار شاه إيران، محمد رضا بهلوي، هو "المندوب السامي" للمصالح الأمريكية في منطقة الخليج العربي، واستمر بالقيام بهذا الدور بإخلاص لمدة عشر سنوات، ثم خرج من إيران (17/1/1979) ولم يعد. بعد ذلك بأسبوعين وصل الخميني إلى طهران، وبعدها بقليل بدأ انحسار الدور التقليدي لإيران.

 

درَجَ بعضُ المؤرخين على ربط تراجع الدور الإيراني في الإقليم بانحسار حكم بهلوي وتحول إيران إلى حكم الملالي، وربما كان لهذا الانتقال في السلطة بعض الأثر، ولكني أميل إلى تفسير التغيّر الأكبر في طبيعة الدور الإيراني بتغير الإستراتيجية الأمريكية ذاتها، وذلك بعد وصول ريغان إلى البيت الأبيض عام 1981.

 

-3-

 

بدأ ريغان عهدَه الجديد بروح هجومية وطموح استعماري صادم، فأعلن أنه سيصحح الأخطاء التي ارتكبها سلفه كارتر في السياسة الخارجية، وأنه سيسعى إلى استرجاع الدور القيادي لأمريكا على مستوى العالم. الترجمة الحقيقية لهذه السياسة كانت إلغاء مهمة الوكلاء التي ابتدعها نكسون، فدخلت أمريكا في صراع حاد مع الاتحاد السوفيتي في أفريقيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط، واستطاعت توسيع نفوذها بشكل غير مسبوق.

 

فصلَتْ سبعُ دورات انتخابية بين رحيل كارتر وعودة أوباما إلى البيت الأبيض، وهما من الديمقراطيين. دورتان فقط من السبع شغلهما الرئيس الديمقراطي كلنتون، أما الدورات الخمس الباقية فكانت من نصيب الجمهوريين، وشهدت ارتفاعاً غير مسبوق في العنجهية الاستعمارية الأمريكية، ولا سيما خلال السنوات الثماني التي حكم فيها بوش الابن، الذي كان ألعوبة في أيدي العصابة التي صارت تُعرَف في المدوَّنات التاريخية الحديثة باسم "المحافظين الجدد".

 

-4-

 

النقطة الجوهرية التي يهمنا التركيز عليها هنا: خلال تلك الفترة لم تغير أمريكا تحالفاتها الإستراتيجية، ولكنها تقدمت إلى خشبة المسرح بعدما كانت تدير مصالحها من وراء الكواليس، وتضاءل دور الوكلاء ولكنه بقي موجوداً، وبقيت إيران هي الحليف الإقليمي المفضل كما كانت أيام الشاه. في هذا السياق جاء التدخل الأمريكي السافر في الحرب العراقية الإيرانية، حيث زوّدت أمريكا إيران بأسلحة وصواريخ إسرائيلية، وهي القضية التي عُرفت بعد ذلك بفضيحة "إيران كونترا" (أو إيران غيت) لأن صفقة الأسلحة الإسرائيلية مُوِّلت جزئياً عبر صفقة مخدرات كانت منظمة الكونترا طرفاً فيها، وهي منظمة معارضة لحكم ساندينستا اليساري في نيكاراغوا.

 

من عام 1969 إلى اليوم استمرت أمريكا في الاعتماد على إيران لحفظ مصالحها في الإقليم. كانت إيران هي الذراع الأمريكية الضاربة في منطقة الشرق الأوسط أثناء حكم الشاه، وبقيت كذلك مع قدوم الملالي. كل ما حصل هو تغيّر قواعد اللعبة، فقد كانت علاقة ظاهرة فصارت مستترة، وكانت علاقة تعاون وتكامل فصارت علاقة تعاون وتنافس؛ كل من الطرفين يحاول "شدّ اللحاف" ناحيته لتغطية أوسع مساحة من مصالحه، ولكن أياً منهما لا يفكر في إخراج الآخر من الميدان، لأن كلاً منهما بحاجة إلى الآخر في لعبة التوازنات والمصالح والنفوذ.

 

-5-

 

أخيراً جاء أوباما الذي وجد نفسه في موقف يشبه موقف نكسون في أيامه الأولى في البيت الأبيض: مغامرة عسكرية حمقاء قام بها بوش في العراق وأفغانستان تذكّرنا بمغامرة جونسون في فيتنام، وإرث ثقيل ورثه الرئيس الجديد في الحالتين، مع خسائر بشرية ومادية فادحة وطريق مسدود ورغبة ملحّة في الانسحاب من المستنقع. ولكن ما البديل؟ وكيف ستستمر أمريكا في حماية مصالحها حول العالم؟

 

مرة أخرى تجد أمريكا نفسها مضطرة إلى الاعتماد على الحليف القديم، فإن ثلاثين ألف قتيل في العراق ثمنٌ يفوق قدرةَ أمريكا على الاحتمال، وهو كفيل بإسقاط الرئيس وتغيير السياسة الخارجية، أما إيران فإنها سخيّة بالدم، فهي فيه كمَن يغرف من بحر، وما حرب الخليج الأولى عنا ببعيد. هنا اقتنع أوباما بأن الطريقة القديمة أرخص وأسهل بكثير، فاستخرج "مبدأ نكسون" من الأدراج ونفض عنه الغبار.

 

-6-

 

لقد نجح التفويض الأمريكي الذي منحته إدارة بوش لإيران في العراق، وعندما سحب أوباما آخر جندي من العراق كان مطمئناً إلى أنه تركه في أيدٍ أمينة ترعى مصالح أمريكا الإستراتيجية في المنطقة، ولم يلبث أن صرّح قائلاً: "عندما ننظر إلى السلوك الإيراني سنجد أن للإيرانيين إستراتيجية وأنهم ليسوا متهورين. إنهم يملكون رؤية عالمية، فإيران دولة كبيرة وقوية، ترى نفسها لاعباً مهماً على المسرح العالمي ويمكنها الاستجابة للحوافز". ثم قرر استرجاع الدور الإيراني القديم وتسليم مفاتيح الإقليم لإيران.

 

بقيت عقبة صغيرة: لا بد أولاً من تطبيع العلاقة ورفع العقوبات وإقناع الكونغرس بخطة البيت الأبيض وتوجّهه الجديد. تمّ توظيف وكيل محلي للقيام بدور الوساطة, وسرعان ما التقى الأمريكيون والإيرانيون، ثم ساعد الإسرائيليون من وراء الستار، فلعبوا في هندسة الاتفاق دوراً خفياً خطيراً كشفته رئيسة الوفد الأمريكي المفاوض، وندي شيرمان، حين أكدت "أن إسرائيل كان لها دور كبير في صياغة الاتفاق النووي، وأن المشاورات المطوّلة التي جرت مع خبراء إسرائيليين لأكثر من عام نجحت في معالجة كثير من التفاصيل".

 

*   *   *

 

الخلاصة: منذ إعلان مبدأ نكسون الشهير قبل ست وأربعين سنة صارت إيران هي "الوكيل الإقليمي لرعاية المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط". هذه الوكالة جُمِّدت لبعض الوقت حينما حاول ريغان وبوش الأب ثم بوش الابن تعطيل دور الوكلاء واختاروا حكم العالم بالأصالة لا بالوكالة، لكن إيران بقيت حليفاً مفضلاً على الدوام، لأن إلغاء دور الوكلاء لم يُلْغِ دور الحلفاء. كان شاه إيران هو "شرطي الخليج" الذي عُهد إليه بحفظ أمن المنطقة ورعاية مصالح أمريكا فيها، واليوم يعود الشرطي نفسُه ليتولى المهمةَ من جديد، إلا أنه يعود بلحية وعمامة، ويعود بصلاحيات وحدود لم يحلم بمثلها الشاهُ البائد.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين