الطبيب بَخْتَيْشُوع بن جبرائيل بن بختيشوع

 

 

حدث في الثاني والعشرين من صفر سنة 256

 

 

في الثاني والعشرين من صفر من سنة 256 توفي في سامراء، الطبيب بَخْتَيْشُوع بن جبرائيل بن بختيشوع بن جورجيس، أحد كبار أطباء الدولة العباسية في زمانه، وسليل أسرة طبية عريقة سريانية أصلها من مدينة جنديسابور في الأهواز، وهي مدينة اشتهرت بالأطباء الحاذقين، وبختيشوع، معناه عبد المسيح، وهو لفظ سرياني.

 

ولد بختيشوع في جنديسابور ولا تذكر لنا المصادر سنة ولادته، وكانت عائلته معروفة بممارسة الطب، فقد كان جده الأكبر جورجيس طبيباً في جنديسابور، وطلبه الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور لعلاج مرض في معدته، ونجح في علاجه، وحظي عنده ثم عاد إلى بلده، وطلب منه المنصور إحضار ابنه محله فقال: البيمارستان بجنديسابور محتاج إِليه ومفتقر إلى مثله، وأهل البلد كذلك. وأحضر تلميذاً له اسمه عيسى بن سهلا، ولما تمكن ابن سهلا وعلت منزلته أخذ يستطيل على الأساقفة ويأخذ أموالهم ويتهدّدهم ويقول لهم: أمر الملك بيدي إن شئتُ أمرضته، وإن شئت عافيته! فعلم المنصور بذلك فأمر بنفيه وطلب بختيشوع بن جورجيس، وتوفي جورجيس في حدود سنة 160، ونقل للمنصور كتباً كثيرة من كتب اليونان الطبية إلى العربية.

 

ويبدو أن بختيشوع الجد، ويقال له بختيشوع الأكبر، عاد بعد وفاة المنصور إلى بلده ليزاول الطب فيها، وأنه عاد إلى بغداد في آخر أيام الخليفة موسى الهادي عند وفاته سنة 170، الذي أرسل وراءه لما مرض ولكنه توفي قبل وصوله، ثم طلبه هارون الرشيد في سنة 171، وتميز في خدمته عن أقرانه حتى صار رئيس الأطباء، وكانت له مكانة عالية عند الرشيد، وأثرى ثراء فاحشاً من عطايا الرشيد وغيره، وتوفي نحو سنة 184، وله كتاب مختصر في الطب صنفه لابنه جبرائيل.

 

وأما أبوه جبرائيل بن بختيشوع فكان طبيب جعفر بن يحيى البرمكي وغيره من البرامكة مدة 13 سنة، ثم خدم هارون الرشيد مدة 23 سنة حتى وفاته سنة 193، ثم طبيب الأمين، فلما ولي المأمون سجنه ثم أطلقه وأعاده إلى مكانته، ولما عزم المأمون على الخروج إلى الروم في سنة 213 مرض جبرائيل مرضاً شديداً، فلما رآه المأمون ضعيفاً التمس منه إنفاذ بختيشوع ابنه معه إلى بلد الروم، فأحضره وكان مثل أبيه في الفهم والعقل والسرو، ففرح به المأمون وأكرمه ورفع منزلته، ومات جبرائيل بعد فترة، وأوصى أن يكون الخليفة المأمون القائمَ على تنفيذ وصيته في تركته التي اشتملت على سبعمئة ألف دينار، ودفن جبرائيل في دير مار سرجس بالمدائن، ولما عاد ابنه بختيشوع من الروم جمع للدير رهباناً وأجرى عليهم جميع ما يحتاجون إليه.

 

واستمر بختيشوع في خدمة المأمون، ومن نصائحه للمأمون في كلام جرى بينهما: يا أمير المؤمنين، لا تجالس الثقلاء فإن مجالسة الثقلاء حمى الروح. فأجابه المأمون: وأنا على ذلكم من الشاهدين.

 

وبرز في أيام المأمون طبيب عربي هو حنين بن إسحاق العبادي، قربه الخليفة المأمون، وكلفه بترجمة الكتب الطبية من اليونانية إلى العربية، وكان والد بختيشوع يحترمه ويقدره، ولكن يبدو أن المنافسة اضطرمت بينه وبين بختيشوع في أيام المتوكل، فأوقع به المتوكل وحبسه بمكيدة من بختيشوع، ذكرناها في ترجمة حنين، فلا نعيد ذكرها ها هنا.

 

وبعد وفاة المأمون في سنة 218 صار بختيشوع طبيباً للمعتصم، ولما توفي المعتصم سنة 227 وتولى بعده ابنه الواثق بالله، استمر بختيشوع طبيباً للواثق، ولكن وزيري الواثق؛ محمد بن عبد الملك الزيات وأحمد ابن أبي دؤاد كانا يعاديان بختيشوع، ويحسدانه على فضله، وبره، ومعروفه، وصدقاته، وكمال مروءته، فكانا يغريان الواثق عليه إذا خلوا به، فسخط عليه الواثق، وقبض على أملاكه وضياعه، وأخذ منه جملة طائلة من المال، ونفاه إلى جنديسابور، وذلك في سنة 230، ثم أصيب الواثق بعلة الاستسقاء، وبلغ الشدة في مرضه، فأنفذ من يحضر بختيشوع لعلاجه، ولكن الواثق مات قبل أن يصل بختيشوع، وذلك في سنة 232.

 

وبويع بالخلافة بعد وفاة الواثق أخوه جعفر، المولود سنة 206، وتلقب بالمتوكل على الله، ولما ولي المتوكل أدنى إليه بختيشوع وصار منه بمثابة النديم والطبيب، فبلغ بختيشوع منزلة كبيرة في جلالة القدر والرفعة وعظم المنزلة، حتى أن الشاعر علي بن الجهم هجا بختيشوع فسبَّه عند المتوكل، فحبسه المتوكل سنة ثم أطلقه بعدها ونفاه إلى خراسان، وقال علي بن الجهم أول ما حُبس قصيدة كتب بها إلى أخيه، يهجو فيها بختيشوع وعلي بن يحيى بن المنجم المعتزلي، وكان صديقاً مقرباً من بختيشوع، أولها قوله:

 

توكلنا على رب السماء ... وسلمنا لأسباب القضاء

 

ووطنا على غِيَرِ الليالي ... نفوسا سامحت بعد الإباء

 

وأفنية الملوك محجَّبات ... وباب الله مبذول الفناء

 

توق الناس يا ابن أبي وأمي ... فهم تَبَعُ المخافة والرجاء

 

ولا يغررك من وغد إخاءٌ ... لأمر ما غدا حَسَنَ الإخاء

 

ألم تر مُظهرين عليَّ عيبا ... وهم بالأمس إخوان الصفاء

 

تضافرت الروافض والنصارى ... وأهل الاعتزال على هجائي

 

وعابوني وما ذنبي إليهم ... سوى علمي بأولاد الزناء

 

فبختيشوع يشهد لابن عمرو ... وعزون لهارون المرائي

 

إذا ما عُدَّ مثلُكم رجالا ... فما فضل الرجال على النساء

 

عليكم لعنة الله ابتداء ... وعودا في الصباح وفي المساء

 

إذا سُميتُم للناس قالوا ... أولئك شر من تحت السماء

 

وفي ظل المتوكل ازدادت أحوال بختيشوع حسناً على حسن وكثرت أمواله، وصار يجاري الخليفة في اللباس والزي والطيب والفرش والضيافات والتفسح في النفقات مبلغاً يفوق الوصف، ومن ذلك أن بختيشوع كان يهدي البخور ومعه في دُرْج آخر فحم يتخذ له من قضبان الكَرْم والأُترج والصفصاف المرشوش عليه عند إحراقه ماء الورد المخلوط بالمسك والكافور، وماء الخلاف والشراب العتيق، ويقول: أنا أكره أن أهدي بخورا بغير فحم، فيفسده فحم العامة، ويقال هذا عمل بختيشوع.

 

وقدم بختيشوع هدية إلى الخليفة المتوكل في يوم النيروز لا مثيل لها، وقصتها تدل على عطايا الخلفاء لأطبائهم، قال القاضي التنوخي في نشوار المحاضرة: جلس المتوكل في مهرجان النيروز وجاءته الهدايا من كل علق نفيس وكل ظريف فاخر، فدخل عليه عند الظهر طبيبه بختيشوع بن جبرائيل، فاستدناه المتوكل وأخذ يمازحه ويلاعبه، ويقول: أين هدية اليوم؟ فقال له بختيشوع: يا أمير المؤمنين، أنا رجل نصراني، لا أعرف هذا اليوم، فأهدي فيه. فقال: دع هذا عنك، ما تأخرتَ إلى الآن، إلا أنك أردت أن تكون هديتك خير الهدايا، فيرى فضلها على الهدايا. فقال: ما فكرت في هذا، ولا حملت شيئاً. فقال له: بحياتي عليك. فضرب بيده إلى كمه، فأخرج منه، مثل الدواة، معمولاً من عود هندي، لم ير قط مثله، كالأبنوس سواداً، وعليه حلية ذهب مخرق، لم ير قط أحسن منها عملاً، ولا من الدواة.

 

قال: فقدر المتوكل، أن الهدية هي الدواة، فاستحسنها. فقال: لا تعجل يا مولاي، حتى ترى ما فيها. ففتحها، وأخرج من داخلها، ملعقة كبيرة مخرقة، من ياقوت أحمر. قال: فخطفت أبصارنا، ودهشنا، وتحيرنا. فبُهِت المتوكل وأُبلس، وسكت ساعة متعجباً، مفكراً، ثم قال: يا بختيشوع، والله، ما رأيت لنفسي، ولا في خزانتي، ولا في خزائن آبائي، ولا سمعت، ولا بلغني أنه كان للملوك من بني أمية، ولا لملوك العجم مثلها، فمن أين لك هذه؟ فقال: الناس لا يُطالبون بمثل هذا، وقد أهديتُ إليك ما قد اعترفت بأنك لم تر ولم تسمع بمثله حسناً، فلِمَ مسألتي عن غيره.

 

قال: بحياتي أخبرني. فامتنع، إلى أن كرر عليه إحلافه بحياته، دفعات، وهو يمتنع. فقال: ويحك، أحلفك بحياتي، دفعات، أن تحدثني حديثاً، فتمتنع، وقد بذلت لي ما هو أجلُّ من كل شيء.

 

قال: فقال له: نعم يا مولاي، كنت حَدِثاً، أصحب أبي جبريل بن بختيشوع إلى دور البرامكة، وهو إذا ذاك طبيبهم، لا يعرفون خدمة طبيب غيره، ولا يثقون برأي غيره، ويدخل إلى حرمهم، ولا يستتر أكثرهم عنه.

 

قال: فصحبته يوماً، وقد دخل إلى يحيى بن خالد، فلما خرج من عنده، عدل به الخادم، إلى حجرة دنانير جاريته، فدخلت معه، وأفضينا إلى ستارة منصوبة، في صدر مجلس عظيم، وخلفها الجارية، فشكت إليه شيئاً وجدته، فأشار عليها بالفصد، وكان لا يفصد بيده، وإنما يحمل معه من يفصد من تلامذته، ورسمُ الفصد عليهم خمسمئة دينار. قال: فندبني ذلك اليوم للفصد، وأخرجت يدها من وراء الستارة، ففصدتها، وحملت إليّ في الحال خمسمئة دينار عيناً، وأخذتها، وجلس أبي إلى أن يحمل إليها شراب تشربه بحضرته، ورمانٌ أشار عليها باستعماله.

 

قال: فحُمِل ذلك في صينية عظيمة مغطاة، وتناولتْ منه ما أرادت، وخرج الظرف مكشوفاً، فرآه أبي، فقال للخادم: قدَّمه إليّ، فقدمه إليه، فكان في جملته جامة فيها رمان، وفيها هذه الملعقة، فحين رآها أبي قال: والله ما رأيت مثل هذه الملعقة، ولا الجامة. فقالت له دنانير: بحياتي عليك، يا جبريل، خذها. قال: ففعل، وقام ينصرف.فقالت له: تمضي، ففي أي شيء تضع هذه الملعقة؟ قال: لا أدري. قالت: أهدي إليك غلافها. فقال: إن تفضلت. فقالت: هاتم تلك الدواة. فجاءوا بهذه الدواة، فوضع أبي فيها الملعقة، وحملها، والجامة في كمه، وانصرفنا. فقال له المتوكل: جامة تكون هذه ملعقتها، يجب أن تكون عظيمة القدر، فبحياتي، ما كان من أمر الجامة؟ فاضطرب وامتنع امتناعاً عظيماً، إلى أن أحلفه مراراً بحياته.

 

فقال: أعلمُ، إذا قلتُ أي شيء كانت، طالبتني بها، فدعني أمضي، وأجيء بها، وأتخلص منك دفعة واحدة. فقال: افعل. قال: ومضى، فلم يهن المتوكل الجلوس، ولم يأخذه القرار، حتى جاء بختيشوع، وأخرج من كمه جامة، على قدر الزبدية، أو الجامة اللطيفة، من ياقوت أصفر، فوضعها بين يديه.

 

وحدث في يوم من الأيام أن الأمير المعتز بالله ابن الخليفة المتوكل اعتل علة شديدة من حرارة امتنع معها من أخذ شيء من الأدوية والأغذية، فشقَّ ذلك على المتوكل كثيرا، واغتم له غما شديدا، فصار إليه بختيشوع والأطباء عنده، وهو على حاله في الامتناع وقوة المرض، فحادثه ومازحه فأدخل المعتز يده في كم جبة وَشْي يماني مثقلة كانت على بختيشوع، وقال: ما أحسن هذا الثوب! فقال له بختيشوع: يا مولانا، ما له والله نظير في الحسن، وثمنه عليَّ ألف دينار، كُلْ تفاحتين وخُذْ الجبة. فدعا المعتز بتفاحتين وأكلهما، فقال بختيشوع: تحتاج الجبة إلى ثوب يكون معها، وعندي ثوب هو أخ لها، فاشرب شربة سكنجبين وخذه. فشرب شربة سكنجين وأخذهما، والسكنجبين: شراب مركب من الخل والعسل، فوافق ذلك اندفاع طبيعة المعتز وبرئ، وكان المتوكل يشكر هذا الفعل أبدا لبختيشوع، ويضرب به المثل في حذقه بالطب.

 

وكان بختيشوع بن جبريل عند المتوكل يومًا فأجلسه بجانبه وكان عليه درَّاعة حرير رومية بها فتق فأخذ المتوكل يحادثه ويعبث بالفتق حتى وصل إلى النَّيْفَق، كلمة فارسية تعني: ما اتسع من الثوب، ودار الكلام بينهما حتى سأله المتوكل: بماذا تعلمون أن الموسوس يحتاج إلى التقييد والشد؟ فقال بختيشوع: إذا عبث بفتق دراعة طبيبه حتى النيفق، شددناه. فضحك المتوكل حتى استلقى، وأمر له في الوقت بخلع حسنة ومال جزيل.

 

وحتى ندرك ما كان عليه بختيشوع من تدبير أمور راحته بأفكار تدل على عقل وصنعة، نورد ما ذكره الكاتب ابن أبي الأصبع الكاتب قال: دخلت إلى بختيشوع في يوم شديد الحر، وهو جالس في مجلس مخيّش بعدة طاقات ريح بينهما طاق أسود وفي وسطها قبة عليها جلال من قصب مظهر بدبيقى قد صبغ بماء الورد والكافور والصندل، وعليه جبة يماني سعيدي مثقلة، ومِطْرف قد التحف به، فعجبت من زيه، فحين حصلت معه في القبة نالني من البرد أمر عظيم، فضحك وأمر لي بجبة ومطرف وقال: يا غلام، أكشف جوانب القبة. فكُشفت فإذا أبواب مفتوحة من جوانب الإيوان إلى مواضع مكبوسة بالثلج، وغلمان يروِّحون ذلك الثلج فيخرج منه البرد الذي لحقني، ثم دعا بطعامه، فأتي بمائدة في غاية الحسن، عليها كل شيء حسن ظريف، ثم أتى بفراريج مشوية في نهاية الحمرة، وجاء الطباخ فنفضها كلها فانتفضت، وقال: هذه فراريج تعلف اللوز والبزر قَطُونا، وتسقى ماء الرمان.

 

ولما كان في صلب الشتاء دخلت عليه يوما والبرد شديد، وعليه جبة محشوة وكساء، وهو جالس في طارمة في الدار على بستان في غاية الحسن، والطارمة: بيت كالقبة من خشب، وعليها فرو سَمُّور قد ظهرت به وفوقه جِلال حرير مصبغ، ولُبود مغربية وأنطاع أَدَم يمانية، وبين يديه كانون فضة مذهب مخرَّق، وخادم يوقد العود الهندي، وعليه غلالة قصب في نهاية الرفعة، فلما حصلت معه في الطارمة وجدت من الحر أمراً عظيما، فضحك وأمر لي بغلالة قصب، وتقدم يكشف جوانب الطارمة، فإذا مواضع لها شبابيك خشب بعد شبابيك حديد، وكوانين فيها فحم الغضا، وغلمان ينفخون ذلك الفحم بالزِقاق كما تكون للحدادين، ثم دعا بطعامه فأحضروا ما جرت به العادة في السرو والنظافة، فأحضرت فراريج بيض شديدة البياض، فبشعتها وخفت أن تكون غير نضيجة، ووافى الطباخ فنفضها فانتفضت، فسألته عنها فقال: هذه تعلف الجوز المقشر، وتسقى اللبن الحليب.

 

وقال المتوكل يوماً لبختيشوع: ادعُني إلى بيتك. فقال: السمع والطاعة. فقال: أريد أن يكون ذلك غداً! قال: نعم وكرامة. وكان الوقت صائفاً وحرُّه شديداً، فقال بختيشوع لأعوانه وأصحابه: أمرُنا كلُه مستقيم، إلا الخيش فإنه ليس لنا منه ما يكفي، فأحضر وكلاءه وأمرهم بابتياع كل ما يوجد من الخيش بسر من رأى، ففعلوا ذلك وأحضروا كل من وجدوه من النجادين والصناع، فقطع لداره كلِّها صونها وحجرها ومجالسها وبيوتها ومستراحاتها خيشا، حتى لا يجتاز الخليفة في موضع غير مخيَّش، وفكر في أن رائحة الخيش لا تزول إلا بعد استعماله مدة، فأمر بابتياع كل ما يقدر عليه بسر من رأى من البطيخ، وأحضر أكثر حشمه وغلمانه وأجلسهم يدلكون الخيش بذلك البطيخ ليلتهم كلها، وأصبح وقد انقطعت روائحه، فتقدم إلى فراشيه فعلقوا جميعه في المواضع المكورة، وأمر طباخيه بأن يعملوا خمسة آلاف جُونة، أي سلة ذات غطاء من الجلد، في كل جونة باب خبز سميد ودست رقاق وزن الجميع عشرون رطلاً؛ وحَمَل مشوي وجدي بارد، وفائقة، ودجاجتان مصدرتان، وفرخان مصوصان، أي مطبوخان بالخل، وثلاثة ألوان وجام حلواء.

 

فلما وافاه المتوكل رأى كثرة الخيش وجِدَّته فقال: أي شيء ذهب برائحته؟ فأعاد عليه حديث البطيخ فعجب من ذلك، وأكل هو وبنو عمه والفتح بن خاقان على مائدة واحدة، وأجلس الأمراء والحجاب على سماطين عظيمين لم ير مثلهما لأمثاله، وفرقت الجُون على الغلمان والخدم والنقباء والركابية والفراشين والملاحين وغيرهم من الحاشية لكل واحد جونة، وقال: قد أمِنتُ ذمَّهم، لأنني ما كنت آمن لو أُطعموا على موائد أن يرضى هذا ويغضب الآخر، ويقول واحد شبعت ويقول آخر لم أشبع، فإذا أُعطي كل إنسان جونة من هذه الجون كفته.

 

واستشرف المتوكل على الطعام فاستعظمه جداً، وأراد النوم، فقال لبختيشوع: أريد أن تنومني في موضع مضيء لا ذباب فيه. وظن أنه يتعنته بذلك، وقد كان بختيشوع تقدم بان تجعل أجاجين الدبس، أي قصاع الدبس، في سطوح الدار ليجتمع الذباب عليه، فلم يقرب أسافل الدور ذبابة واحدة، ثم أدخل المتوكل إلى مربع كبير سقفه كله بكِواء، جمع كَوَّة، فيها جامات يضيء البيت منها، وهو مخيش مظهّر بعد الخيش بقماش دبيقي مصبوغ بماء الورد والصندل والكافور.

 

فلما اضطجع للنوم أقبل يشم روائح في نهاية الطيب لا يدري ما هي، لأنه لم ير في البيت شيئاً من الروائح والفاكهة والزهور، ولا خلف الخيش لا طاقات ولا موضع يُجعل فيه شيء من ذلك، فتعجب وأمر الفتح بن خاقان أن يتتبع حال تلك الروائح حتى يعرف صورتها، فخرج يطوف فوجد حول البيت من خارجه ومن سائر نواحيه وجوانبه أبواباً صغاراً لطافاً كالطاقات محشوة بصنوف الرياحين والفواكه واللخالخ، والمشام التي فيها التفاح والبطيخ المستخرج ما فيها، المحشوة بأنواع الريحان كالنمام والحماحم اليماني المعمول بماء الورد والصفصاف والكافور والشراب العتيق والزعفران الشعر، ورأى الفتح غلماناً قد وكلوا بتلك الطاقات مع كل غلام مجمرة فيها ند يسجره ويبخر به، والبيت من داخله إزار من اسفيداج مخرم خروماً صغاراً لا تبين تخرج منها تلك الروائح الطيبة العجيبة إلى البيت.

 

فلما عاد الفتح وشرح للمتوكل صورة ما شاهده كثر تعجبه منه، وحسد بختيشوع على ما رآه من نعمته، وكمال مروءته، وانصرف من داره قبل أن يستتم يومه، وأدعى شيئاً وجده من التياث بدنه، وحقد عليه ذلك فنكبه بعد أيام يسيرة، وذلك في سنة 244.

 

وكان سخط المتوكل على بختيشوع شديداً؛ نفاه إلى البحرين، وهي الأحساء اليوم، وصادر أمواله التي كانت أكثر من الخيال، فحضر الحسين بن مخلد فختم على خزائنه، وحمل إلى دار المتوكل ما صلح منها، ووجد له في جملة كسوته أربعة آلاف سراويل دبيقي سيتيزي في جميعها تكك ابريسم أرمني، وبيعت موجوداته وسيق ثمنها إلى المتوكل، وبقي بعد ذلك حطب وفحم ونبيذ وتوابل، فاشتراه الحسين بن مخلد بستة آلاف دينار، وباع بعضها فيما بعد بمبلغ ثمانية آلاف دينار.

 

وفي نكبة بختيشوع قال أعرابي:

 

يا سخطة جاءت على مقدار ... ثار له الليث على اقتدار

 

منه وبختيشوع في اغترار ... لما سعى بالسادة الأقمار

 

بالأمراء القادة الأبرار ... ولاة عهد السيد المختار

 

وبالموالى وبنى الأحرار ... رمى به في موحش القفار

 

بساحل البحرين للصَغار

 

ثم عاد المتوكل فأمر في رجب من سنة 245 برد بختيشوع وضربه 150 مقرعة، وأن يثقل بمئة رطل من الحديد، وأن يحبس في المُطْبِق.

 

واغتيل المتوكل سنة 247 بتدبير من ابنه محمد المولود سنة 223، الذي حل محله وتلقب بالمنتصر بالله، ولم تطل أيامه فمات بعد ستة أشهر في سنة 248، وخلفه ابن عمه المستعين بالله، أحمد بن محمد بن المعتصم، المولود سنة 219،  فرد بختيشوع إلى الخدمة وأحسن إليه إحساناً كثيرا، وثار الأتراك على المستعين في سنة 251 وعزلوه، وخلفه المعتز بالله، محمد بن المتوكل، المولود سنة 232، حتى خلعه الأتراك بعد قرابة 4 أشهر في سنة 255، وجعلوا مكانه المهتدي بالله، محمد بن الواثق بالله، المولود سنة 222، الذي لم تطل أيامه فانتقض عليه الأتراك وقتلوه في سنة 256.

 

وشكا بختيشوع إلى المهتدي يوماً ما أخذ منه في نكبته أيام المتوكل، فأمر أن يُدخل إلى سائر الخزائن فكل ما اعترف به فليُردُّ إليه بغير استئمار ولا مراجعة، فلم يبق له شيء إلا أخذه، وأطلق له سائر ما فاته وحاطه كل الحياطة.

 

وورد على بختيشوع كتاب من وكيله في بغداد يذكر فيها أن سليمان بن عبد الله بن طاهر، والي بغداد، قد تعرض لبعض بيوته فيها، فعرض بختيشوع الكتاب على المهتدي بعد صلاة العَتمة، فأمر بإحضار سليمان بن وهب في ذلك الوقت، فحضر، وتقدم إليه بأن يكتب من حضرته إلى سليمان بن عبد الله، بالإنكار عليه لما اتصل به من وكيل بختيشوع، وأن يتقدم إليه بإعزاز منازله وأسبابه بأوكد ما يكون، وأنفذ الكتاب، من وقته، مع أخص خدمه إلى مدينة السلام.

 

وشكر بختيشوع المهتدي على ذلك ثم قال له في آخر الوقت بعض انفضاض المجلس: يا أمير المؤمنين، ما افتصدتُ ولا شربتُ الدواء منذ أربعين سنة، وقد حكم المنجمون بأني أموت في هذه السنة، ولست أغتم لموتي وإنما غمي لمفارقتكم. فكلمه المهتدي بكلام جميل، وقال: قلما يصدق المنجم. قيل فلما انصرف كان آخر العهد به ومات بعدها.

 

ولما توفي بختيشوع خلف عبيد الله ولده، وخلف معه ثلاث بنات، وكان الوزراء والنظار يصادرونهم ويطالبونهم بالأموال، فتفرقوا واختلفوا.

 

ولبختيشوع بن جبرائيل من الكتب كتاب في الحجامة على طريق المسئلة والجواب، وكتاب التذكرة في الطب، وكان صديقاً للجاحظ، المولود سنة 163 والمتوفى سنة 255، والذي ذكره في كتابه الحيوان فقال: وزعم لي بختيشوع بن جبريل، أنه عاين الخرق الذي في إبرة العقرب، وإن كان صادقا كما قال، فما في الأرض أحدُّ بصراً منه، وإنه لبعيد وما هو بمستنكر.

 

وكان حفيده بختيشوع بن يوحنا، المتوفى ببغداد سنة 329، حظيا عند الخلفاء وغيرهم، واختص بخدمة المقتدر بالله ثم الراضي بالله، وكان له منهما الإنعام الكثير والإقطاعات من الضياع.

 

وكان حفيد الحفيد جبرائيل بن عبيد الله بن بختيشوع، المولود سنة 311 والمتوفى في ميافارقين سنة 396، من أبرز الأطباء في زمانه، رحل من بغداد إلى شيراز، وصار طبيب عضد الدولة البويهي، ثم أرسله لعلاج الصاحب ابن عباد من مرض هضمي، فأفلح في علاجه وأغدق عليه الصاحب إحسانه، وسافر إلى القدس ودمشق، فاتصل خبره بملك مصر فدعاه إليه، فاعتذر وعاد إلى بغداد، فتوفي فيها. وكانت له مصنفات في الطب منها الكافي، في 5 مجلدات، والكُناش الصغير، والمطابقة بين أقوال الأنبياء والفلاسفة.

 

وللحفيد هذا ابن طبيب هو أبو سعيد، عبيد الله بن جبرائيل، عاش في ميافارقين، وكان من فضلاء الأطباء، متقناً للطب ولأصوله وفروعه. وكان جيد المعرفة بمذهب النصارى، وتوفى سنة 451، وله كتب في طبائع الحيوان.

 

كان بختيشوع خفيف الروح صاحب مداعبة، وكان يداعب الطبيب يوحنا بن ماسويه كثيرا فقال له يوما في مجلس إبراهيم بن المهدي، وهم في معسكر المعتصم بالمدائن في 220: أنت أبا زكريا أخي ابن أبي! فقال يوحنا لإبراهيم بن المهدي: اشهد على إقراره! لأقاسمنه ميراثه من أبيه! فقال له بختيشوع: إن أولاد الزنا لا يرثون ولا يورثون، وقد حكم دين الإسلام للعاهر بالحَجَر. فانقطع يوحنا ولم يحر جوابا.

 

وسئل بختيشوع عن أشعر الشعراء، فقال متأثراً بصنعته: أبو العتاهية الذي يقول:

 

أحمد، قال لي ولم يدر ما بي ... أتحب الغداة عتبة حقا؟

 

فتنفست ثم قلت: نعم! حبا جرى في العروق عرقا فعرقا

 

لو تجسين يا عتيبة روحي ... لوجدت الفؤاد قَرحا تفقا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين