يوم لا ينسى في حلب

 

 

كنتُ طالباً في الأزهر ولكن كنتُ أقضي غالبَ السنة في دمشق؛ للقُرْبِ الجغرافي والثقافي والتاريخي، ثم كان السفرُ إليها أقلَّ تَكْلِفَةً من السفر إلى بلدي أَرْتْوِينْ التي تقع في آخر شاطئ البحر الأسود، والتي تنتهي عند حدود جُورْجِيا، وكنتُ أَصِلُ إلى دمشق في نفس المدة التي أَصِلُ فيها إلى بلدتي شَاوْشَتْ _وهي إحدى مُقاطَعاتِ أَرْتْوِينْ_، وهي منطقة غابية جَبَلِيَّة مرتفعة، تَرى فيها مَناظِرَ ساحِرَةً خَلَّابة للقلوب والأبصار، وتُحِسُ كأنك في حُلْمٍ دائم.

 

وكنتُ أنزل في أوقات الفراغ إلى الحَلْبُوني، وأُكْثِر الطوافَ على دُورِ النشر، وأسمع حينَها أن في حلب مكتباتٍ أيضاً، فعزمتُ الرَّحِيل إليها، وحجزت تذكرة من الكَرْنَكِ _شركة النقل_ وذهبت..

 

فلما وصلتُ إلى حلب نزلتُ في حي أَقْيُولْ _على ما أذكر، وهي تَعني بالتركية: الطريق الأبيض_ واتجهتُ إلى أول مكتبة لَفَتَتْ نظري، وهي مكتبة الزيتوني _إن لم تَخُنِّي ذاكرتي_، فدخلتُ، فلما دخلتُ صادفني رجل أَرْعَبَني شكلُه؛ ملتصِق الحاجِبَيْن، فدخل قلبي ما اللهُ به عليم، ثم تَنَبَّهْتُ إلى أنه ملأ عُلْبَةً كبيرةً بالكتب وما زال، مختاراً إياها من بين الرُّفوف بدون عَناء، فعلمتُ وقتَها أن مكتبة عالمٍ قد بِيعَتْ، فيا لَلْموت! ويا لَلْخبر الأسود! فبادرتُ؛ عَلِّي أَلْحَقُ بعضَها، فكان نصيبي ضئيلاً، فأخذتُ كتاباً خفيفاً طويلَ القَدِّ والقامة، بوَرَقٍ أصفرَ رقيق، بَيِّنٌ عليه أنه من مطبوعات الهند، ولمَّا فتحتُ الكتاب رأيتُ في صفحة العنوان، مكتوبةً في إطار: (والشمسُ والقمرُ والنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بأمره)، ودائرةً في وسط الصفحة مكتوبةً في داخلها بعضُ العبارات العربية _وذلك قبلَ أن أُدَقِّقَ النظرَ فيها_ ، وقَلَبْتُ الصفحة وقرأت عنوان: الفَلَك الدَّوَّار، ثم لَحَظْتُ اسم: أبو الحسنات محمد عبد الحي، ففرحتُ وقلتُ: وإنْ كان كتاباً في الفلك (!) ما دام أنه للشيخ عبد الحي اللكنوي، أشْتَرِيه، ولم يكن كثيرُ وقتٍ لِإفْساحِ المَجال للنظر فيها، ثم اهتديتُ إلى طبعة عثمانية قديمة من الكتاب المعروف في بلادنا بـ(داماد، أو: داماد أفندي)، والذي هو مَجمع الأَنْهُر في شرح مُلتقى الأَبْحُر الكتابِ الذائعِ الصِّيت في بلادنا خاصةً للعلامة إبراهيم الحلبي إمام وخطيب مسجد السلطان محمد الفاتح، فكان مكتوباً عليه اسم: سعيد عُلْوان، فقلت في نفسي: هذه المكتبة للشيخ عبد الله ناصح علوان.

 

فلما كلمتُ صاحبَ المكتبة _وكان يبدو أنه رجل صالح من الإخوان_ واطمأنَّ إليَّ، أخبرني أن المكتبة للشيخ علوان _هذا العالم الداعية الغيور الصالح، وقد كنتُ قرأتُ كُتُبَه المترجمة إلى لغتنا، وبنيتُ بعضَ محاضراتي عليها_ باعَها وَرَثَتُه، وأخرج لي بعضَ الأوراق والصَّوَر التي تَخُصُّ بالشيخ علوان مما يرجع عهدُها بأيام شبابه، رحمة الله عليه، وأسكنه فَرادِيسَ جِنَانِه، وأهدى لي بعضاً منها.

 

ولما صارت الساعةُ قُرابةَ الخامسة نادَوْا بإغلاق المكتبات، فدُهِشْتُ، كان اليومُ رمضانَ، وكانت العودةُ إلى دمشق في الساعة الحادية عشر ليلاً، فاشتريتُ رغيفاً ومشيت، فدَلَّني الأخ أحمد البَعَّاق ممن أعرفهم من دمشق إلى مسجد الصفا، مسجدٍ صغيرٍ قريبٍ من سَكَناتِ هَنَانُو، وسَلَّمَني إلى قَيِّمِ المسجد _قيوم المسجد بلغتنا الدارجة_ فاستقبلَني هذا الرجل الشيخ بصدرٍ رَحْبٍ وسُرَّ بي وقال إن ابنَه يُتاجِر بين سوريا وتركيا، وأنزلني في غرفة صغيرة مُثَلَّثَةٍ تُدْفِئُها مِدْفَأَةٌ كهربائية صغيرة، وأجلسني على فَرْوَةٍ بيضاء، و وأكرمني وأتاني بصحن أو صحنين من الطعام، فلما وَلَّى نَبَّهَني آمِراً ببعض تركيته الغليظة: قَبُويُو قَابَات! يعني: سَكِّرِ الباب.

 

فلما خلوتُ مع نفسي بالغرفة، وأفطرتُ وعادتْ إليَّ نفسي، وأنا متلبِّسٌ بالبُرْدة الحمراء للاِحْتماء من البرد قلتُ: أنظر في هذا الكتاب الفَلَكي _هكذا كان ظني_ للشيخ عبد الحي، ولم يكن في الغرفة مصباحٌ، وكنتُ أستنير بنور المِدْفَأة، فكان أولَ عنوان رأيتُه: الفَلَكُ الدَّوَّار في رؤية الهلال بالنهار، فقَلَبْتُ صفحتين أو ثلاثة، فإذا الرسالة تنتهي، ففتحتُ صفحةً أيضاً، فإذا رسالة أخرى مُسَمَّاة: الكلام المشهور في هلال خير الشهور، فشعرتُ وقتئذٍ أن الكتاب ليس في الفَلَك، وأنه مجموعٌ يحتوي على رسائلَ لمولانا أبي الحسنات عبد الحي اللكنوي، هذا العالم الذي رُزِقَ حظّاً في التأليف ولم يُرْزَقْ حظّاً في العمر، ومات وما زال شابّاً فَتِيّاً، وخَلَّفَ مائة وعشرة؛ ما بين جزءٍ وكتاب، أحسن الله إليه وأَجْزَلَ مَثُوبَتَه، فطِرْتُ فَرَحاً، واشتعلتْ عَيْنايَ ضياءً أنارَتِ الغرفةَ الصغيرة، بل الدنيا حولي والعَوالِم! وما زِلْتُ أتتبَّعُ الصفحاتِ أَقْلِبُها بشَغَفٍ ونَهَم، وتَعْتَرِضُني رسائل: قوت المغتذين بفتح المقتدين، والإفصاح عن شهادة المرأة في الإرضاع، وتحفة النُّبَلاء في جماعة النِّساء، والكلام الجليل فيما يتعلق بالمنديل، والأجوبة الفاضلة للأسئلة _هكذا_ العشرة الكاملة، التي نشرها الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله.

 

وكما يقولون: هَبَّتِ الرِّياح، ومَضَتِ الأيام، وجَرَتْ أزْمِنَةٌ كثيرة على تلك الحِقَبِ والأعوام، ومع ذلك فكلما أتذكر ذلك اليوم وما كنتُ فيه، أمتلئ بهجةً وسروراً، ثم يَعْلُوني شعور دافِئٌ يأخذني إلى تلك الأَصْقاع، ويجعلني أُحِسُّ بنفس الإحساس، مع حُرْقَةٍ في القلب ومَرَارَةٍ في اللسان، وشدةِ تَحَسُّرٍ واشْتِياقٍ إلى تلك اللحظات والأزمان، فكانتْ لَحَظَاتٍ لا تُنْسَى، ويوماً مِنْ أَحْلَى أيامِ العُمْر.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين