من الخصائص العامة للإسلام: الإنسانية

 

تحدثنا في عددين سابقين عن الخصيصة الأولى للإسلام وهي: الربانية واليوم نتحدث عن خصيصة أخرى من خصائص الإسلام العامة، وهي: الإنسانية.

 فالإسلام يمتاز بفرعيه الإنسانية الواضحة الثابتة الأصيلة في معتقداته وتوجيهاته إنه دين الإنسان.

بين الربانية والإنسانية:

ربما خيل لكثير من الناس ـ لأول وهلة ـ أن هناك تناقضاً حول إثبات خصيصة (الربانية) وخصيصة (الإنسانية) في وقت واحد.

فالظاهر والمفهوم والمفترض في أذهانهم أن ثبوت إحدى الخصيصتين ينمي الأخرى ويطردها شأن كل متضادين لا يجتمعان.فإذا وجد الله لم يبق مكان للإنسان.

وإذا كنا قد قلنا في خصيصة الربانية أنها عني من ناحية ربانية الغاية والوجهة، وعلى معنى أن حسن الصلة بالله تعالى وابتغاء مرضاته هو غاية الإنسان وهدف الإسلام.

كما تعني ـ من ناحية أخرى ـ ربانية المصدر والمنهج، على معنى أن الإسلام منهج إلهي، صاحبه وشارعه هو الله وحده، وإنما الرسول مبلغ عنه ـ فمعنى هذا أن لا موضع للإنسان ـ.

وأين يكون مكان الإنسان ما دام الله تعالى هو الغاية، ومرضاته هي الهدف والوجهة، وما دام الله أيضاً هو واضع المنهج إلى تلك الغاية...

إن إثبات قدر الله يلغي دور الإرادة الإنسانية، وإثبات شرع الله يلغي دور التفكير الإنساني، وماذا يبقى للإنسان إذا ألغى دوره إرادياً وفكرياً؟ وهل الإنسان إلا إرادة وفكر...؟!

هذا ما يخالج تفكير بعض الناس، الذين يفهمون قدر الله وشرعه، ودور الإنسان معهما، ذلك الفهم المغلوط، معتمدين على النظرة الجبرية للقدر؟والنظرة الظاهرية للشرع، وكلتاهما خاطئة كما سنبين بعد.

ليس الإنسان نداً لله:

على أن الخطأ الأول والأساسي من موقف هؤلاء هو النظر إلى الله والإنسان  كأنهما ندان متقابلان، وهؤلاء ينسون ما هو الإله وما هو الإنسان؟

والحقيقة التي لا ريب فيها أن الله تعالى هو صاحب هذا الكون وربه ومدبره [قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ] {الأنعام:164}.

والإنسان هو مخلوق حادث من مخلوقات الله جل شأنه، ولا يتصور أن يكون المخلوق نداً للخالق، ولا الحادث مضاهياً للأزلي، ولا الفاني كفوأ للأبدي الباقي [قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ(1) اللهُ الصَّمَدُ(2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ(3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ(4) ]. {الاخلاص}.. 

إنا لإنسان مخولق لله، ولكنه مخلوق ذو مكانة خاصة، وله شأن ودور في هذا الوجود، والذي منحه هذه المكانة، وجعل له هذا الشأن والدور هو خالقه ذاته، هو الله تبارك وتعالى.

فلينظر الإنسان إذن على هذا الأساس وبهذا المنظار.

إنه مخلوق، ولكنه أكرم المخلوقات على الله تعالى، وهو الوحيد من بينهما ـ على كثرتها ـ الذي اختاره الله ليكون خليفته في الأرض، وكرمه بالعقل، وهداه السبيل وعلمه البيان، وعلمه ما لم يكن يعلم، وكان فضل الله عليه عظيماً.

لا تناقض بين الربانية والإنسانية:

إذا عرفنا ما ذكرناه من حقائق اتضح لنا.

أن الإسلام مع ربانيته في غايته ووجهته، هو إنساني أيضاً في الغاية والوجهة، ومن هنا نقول: أن للإنسان مكاناً أي مكان في غايات الإسلام العليا، وأهدافه الكبرى، مع تقرير غايته الربانية وإبرازها وتثبيتها، إذ لا تنافي بين الغاية الربانية والغاية الإنسانية، بل هما متكاملتان.

أجل، لا تنافي ـ في نظر الإسلام ـ بين الربانية والإنسانية، فتقدير إنسانية الإنسان هو من الربانية التي قام عليها الإسلام.

فالله هو الذي كرم هذا الإنسان، ونفخ فيه من روحه، وجعله في الأرض خليفة وسخر له ما في السموات ونفخ فيه من روحه، وجعله في الأرض خليفة وسخر له ما في السموات وما في الأرض جميعا منه، وأسبغ عليه نعمة ظاهرة وباطنة.

وإذا كان مصدر الإسلام (ربانياً) فإن (الإنسان) هو الذي يفهم هذا المصدر، ويستنبط منه، ويجتهد على ضوئه، ويحوله إلى واقع تطبيقي ملموس.

وإذا كانت الربانية هي غاية المجتمع المسلم، كما هي غاية الفرد المسلم، فإن مضمون هذه الغاية هو سعادة الإنسان، وفوزه بالنعيم المقيم في جوار رب العالمين.

وإذا كانت الربانية هي رسالة المسلم، فإن أهداف هذه الربانية هي تحقيق الخير للإنسان والسمو به، والحيلولة بينه وبين الانحراف والسقوط.

والمعاني الرباني التي توجه المسلم، من الإيمان والتوحيد والإنابة والرجاء والخوف.. الخ. هي في حقيقتها معان إنسانية، لأنها جزء من كيان الإنسان كما فطره الله، وهي سر من أسرار قوله تعالى:[فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي] {الحجر:29}. 

وفكرة الإسلام: أن الإنسان لا يستطيع أن يكون ربانياً حقاً، دون أن يكون إنسانياً، كما لا يستطيع أن يكون إنسانياً حقاً، دون أن يكون ربانياً.

إن الربانية ـ باعتبارها غاية ووجهة ـ تقتضي إخلاص النية والعمل والوجهة لله وحده، وجعل رضوانه ومثوبته نهاية المقصد، وغاية السعي وراء كل حركة وكل قول أو عمل.

ولكن المقصود بهذا كله هو تحرير الإنسان، وإسعاد الإنسان، وتكريم الإنسان وحماية الإنسان، والسمو بالإنسان.

فهذه كلها أهداف وغايات يحرص الإسلام عليها، ويسعى إليها، ويعمل بكل وسيلة على بلوغها والاجتهاد في تحقيقها.

إيجابية الإنسان أمام القدر الإلهي:

والذي يراه الدارس للإسلام أن إثبات القدر الإلهي لا ينفي إيجابية الإنسان فوق هذه الأرض ودوره في هذا الكون.

فإن الله الذي خلق الإنسان هو الذي منحه العقل، ومنحه الإرادة، ومنحه القدرة، فو بالعقل يفكر، وبالإرادة يرجح، وبالقدرة ينفذ، وهذه كلها منح من الله للإنسان، فهو قادر بقدرة الله، ومريد بإرادة الله تعالى، وهذا معنى [وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ] {الإنسان:30}.  فالإنسان يشاء: لأن الله شاء له أن يشاء، ومعنى: ( لا حول ولا قوة إلا بالله) أي: أن الإنسان له حول وقوة، يجلب بهما  النفع، ويدفع بهما الضرر، و لكن حوله قوته ليسا من ذاته، بل حوله وقوته بالله، ومن الله.

وعلى هذا الأساس أمر الله الإنسان ونهاه، وبعث له الرسل، وأنزل عليه الكتب ووضع نصب عينيه الثواب والعقاب، ولولا أن الإنسان ذو إرادة وقدرة، ما كان لتحميله أمانة التكاليف معنى، ولا كان لثوابه وعقابه مما يوافق العدل الإلهي، والحكمة الإلهية، ولا كان هناك معنى لاستخلافه في الأرض، واستعماره فيها:[ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا] {هود:61}. أي: طلب إليكم عمارتها.

إن الإنسان مخلوق لله، ولكنه مخلوق متميز بمواهبه وملكاته وقواه الروحية والعقلية والمادية، التي أهله الله بها ليحمل مسؤولية الخلافة وأمانة التكاليف، وهي أمانة بلغت من العظم والثقل مبلغاً عبر عنه القرآن بهذه الصورة الفنية البليغة حين قال: [إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ] {الأحزاب:72}.

إن الإنسان مخلوق مكلف مسؤول، وعليه أن يكدح حتى يلقى ربه، فجيزيه بكدحه إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، ولهذا وجه الله إليه الخطاب بقوله:[يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ] {الانشقاق:6}.

ولا ينبغي للإنسان أن يغره شيء أو يخدعه خادع عن ربه وماله عليه من حق، وإن كان نفر من بني الإنسان للأسف غرتهم الحياة الدنيا، وغرهم بالله الغرور، واستحقوا أن يناديهم ربهم بهذا النداء العاتب:[يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ] {الانفطار:8}.

بين العقل الإنساني والوحي الإلهي:

وإذا كان الإسلام منهجاً إلهياً وضعه رب الناس للناس، فليس معنى بالسلبية المطلقة تجاهه، فليس له إلا التلقي والتنفيذ والتسليم، د...ن أن يقول: لم ؟ أو كيف؟ إذ لا تكافؤ بين الوحي الإلهي والعقل الإنساني، فإذا قال الوحي كلمته، فليس على العقل إلا الإذعان والتسليم.

وهذا في الواقع غير سليم.

فإن القدر الإلهي لم يلغ دور الإنسان وفاعليته في الكون، مع وجود يد الله تعالى فيه، ومع انعدام التكافؤ بين الإرادة الإلهية، والإرادة الإنسانية، وبين قدرة الخالق، وقدرة المخلوق.

وكذلك لا يلغي الوحي الإلهي دور العقل الإنساني وإيجابيته في فهم الوحي، والاستنباط منه والقياس عليها، وملء ما سكت عنه من فراغات تشريعية.

إن وجود النص الإلهي المقدس، ليس عائقاً للعقل عن التحليق والإبداع، فقد ترك الوحي للعقل مجالات عديدة يثبت فيها ذاته، ويبرز قدراته.

لقد ترك الوحي للعقل أموراً كثيرة في مجالات متعددة:

أ ـ ترك للعقل في مجال العقيدة أن يهتدي إلى أعظم حقيقتين في هذا الوجود:

الحقيقة الأولى: وجود الله ووحدانيته ـ موجود لله ـ كما تهدي إليه الفطرة السليمة ـ يقتضيه كذلك النظر الصحيح، والعقل الصريح، ولا غرو إذا أقام القرآن الأدلة من الكون ومن النفس على وجود الله سبحانه وتعالى:[إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ] {آل عمران:190} .

[أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ] {الطُّور:36}.

ويتبع ذلك الأدلة العقلية التي ذكرها القرآن على وحدانية الله بقوله تعالى:[لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ] {الأنبياء:22} [أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ] {الأنبياء:24}.  

وفي موضع آخر يقول:

[مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ] {المؤمنون:91}.

الحقيقة الثانية: ثبوت الوحي والنبوة والرسالة، فالعقل هو الذي يثبت إمكان ذلك ووقوعه بالفعل، وأن هذا الشخص المعين رسول من عند الله...العقل هو الحكم الأول والأخير في هذه القضية، ولا مدخل هنا للاستدلال بالنقل ونصوص الوحي: إذ كيف يستدل بما لم يثبت بعد. ولهذا قال علماء الإسلام: أن العقل أساس النقل، ذلك أن العقل ـ بعد اقتناعه بوجوده تعالى وكماله سبحانه ـ يعلم أن من تمام حكمة الحكيم ورحمة الرحيم ألا يترك عباده سدى، وألا يدعهم في بحر لجي من الجهالة والعمى والغي، وهو قادر على أن يهديهم ويخرجهم من الظلمات إلى النور عن طريق تبليغه عنه.

والعقل بعد أن يعلم ذلك ـ لا يسلم لكل من ادعى أنه رسول من الله، بل يطالبه بما يثبت صحة دعواه وأنه لا يمثل نفسه، وإنما يمثل إرادة الله الذي ارسله، فيطالبه بالآية المعجزة التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى.

والعقل هو الذي يميز بين الآيات المعجزة الحقيقية التي لا تظهر إلا على أيدي رسول الله حقاً وبين مظاهر الخفة والشعوذة التي تظهر على أيدي السحرة والدجالين.

والعقل هو الذي يعرف وجه دلالة المعجزة الخارقة على صدق من أظهرها الله على يديه، وأنها ت صديق من الله في دعواه، فهي بمثابة قوله: (صدق عبدي ففيما يبلغ عني) والله تعالى لا يصدق الكاذب، لأن تصديق الكاذب كذبك ـ والكذب محال على الله تعالى ـ كل هذه مقدمات عقلية محض، ولولاها ما ثبت الوحي أصلاً، ولا قام الدين رأساً.

والعقل ينظر في سيرة كل شخص يدعي الرسالة ويتأمل في صفاته وأخلاقه، وأقواله وأعماله، ومدخله ومخرجه، ليعرف منها: هل هو أهل لاصطفاء الله أو ليس كذلك فيرفضه ويعرض عنه، ومن أجل ذلك احتكم القرآن في إثبات صدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، إلى العقول المفكرة وحدها، فقال في صرامة ووضوح: [قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا للهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ] {سبأ:46}. 

وقال يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم :[قُلْ لَوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ] {يونس:16}.

ب ـ وترك للعقل في مجال التشريع أن يجول ويصول في فهم النصوص، فيفرع على الأصول، ويقيس على الفروع، ويستنبط الأحكام، ويكيف الوقائع، ويرعى القواعد في جلب المصالح، ودرء المفاسد ورفع الحرج، وتحقيق اليسر وتقدير الضرورات بقدرها واعتبار العرف، ورعاية ظروف الزمان والمكان.

ولا عجب، أن اختلفت المشارب، وتعددت المذاهب، وتنوعت الأقوال، وخلف لنا العقل الإسلامي في ضوء الوحي، ثروة فقهية طائلة، لها مكانها الرفيع في تراث الفقه العالمي.

جـ ـ وترك للعقل في ميدان الأخلاق أن يصدر حكمه وفتواه في كثير من الأعمال، التي يلتبس فيها الخير بالشر ويشتبه الحلال بالحرام، ولم يغفل شأنه ـ بجانب الوحي ـ كمصدر للإلزام الأدبي، ومقياس للحكم الخلقي.

فإن الشريعة نفسها، بعد أن بينت الحلال الصريح، والحرام الصريح، تركت المنطقة التي تختلط فيها الأوصاف، ويشتبه فيها الحكم وفوضت لكل أمرئ أن يستفتي فيها قلبه، ويتحرى فيها طمأنينة نفسه، أخذاً بالأحوط والأسلم، هكذا قضى الرسول الحكيم حيث يقول: (الحلال بيِّن، والحرام بيِّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه ) الحديث رواه البخاري وغيره.

ويقول: (استفت نفسك وأن  أفتاك  المفتون) حديث حسن رواه البخاري في التاريخ عن قبيصة.

د ـ ثم ترك الوحي للعقل بعد ذلك أن يجول في آفاق هذا الكون العريض ما شاء، صاعداً إلى الأفلاك وهابطاً إلى الأرض، ومتأملاً في النفس:[قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ وَفِي الأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ] {الذاريات:20} . 

ترك له أن يكتشف من ظواهر هذا الكون ما استطاع، وأن يسخر من قواه ما قدر عليه، فكل ما فيه سخره الله لمنفعته:[وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ] {الجاثية:13} .

[وَسَخَّرَ لَكُمُ الفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي البَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ] {إبراهيم:33}. 

هـ ـ ترك له أن يبتكر ويخترع في وسائل الحياة وأمور الدنيا ما شاء، ما دام ملتزماً حدود الحق والعدل: (أنتم أعلم بشؤون دنياكم) [وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا] {القصص:77}. 

و ـ ترك للعقل أن يستفيد من تجارب الآخرين، وينتفع بتراث السابقين، ومعارف اللاحقين [فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ] {الحشر:2}. [أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ] {الحج:46}. [اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ] {الأحقاف:4}. [فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ] {النحل:43}.

وبهذا كله يتبين أن الوحي الإلهي لم يشل الفكر الإنساني ولم يجمده، بل كان له هادياً ومعيناً في بعض المجالات، وترك له الحرية الكاملة، والاستقلال المطلق في مجالات أخرى، وأنها لكثيرة ورحيبة.

القرآن: كتاب الإنسان:

وإذا نظرنا إلى المصدر الأول للإسلام وهو القرآن كتاب الله، وتدبرنا آياته، وتأملنا موضوعاته واهتماماته، نستطيع أن نصفه بأنه (كتاب الإنسان).

أن كلمة (الإنسان) تكررت في القرآن 63 ثلاثاً وستين مرة، فضلاً عن ذكره بألفاظ أخرى مثل (بني آدم) التي ذكرت ست مرات، وكلمة (الناس) التي تكررت 240 مائتين وأربعين مرة في مكي القرآن ومدنيه.

هذه الآيات هي [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(1) خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ(2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ(3) الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ(4) عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ(5) ]. {العلق}..

دلالة الآيات الأولى من الوحي:

[اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ] {العلق:1}. إن هذه الآيات الكريمة التي تكتب في أقل من سطرين، والتي بدأ بها الوحي الإلهي تاريخاً جديداً للبشرية، تعبر أوضح التعبير عن نظرة الإسلام إلى الإنسان وعلاقته بالله تعالى، وعلاقة الله تعالى به، إنها خطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم ولكل إنسان يفهم الخطاب من بعده.

الإنسان يف هذه الآيات مأمور أن يقرأ، والقراءة هنا رمز لكل عمل نافع يقوم به الإنسان، وإنما خص القراءة بالذكر، لأنها نقطة الانطلاق للإنسان، ومفتاح رقيه، ولأن العمل في الإسلام يجب أن يقوم على العلم والعلم مفتاحه القراءة.

وأمر الإنسان بالقراءة معناه قدرته على أن يفعل، وقدرته على أن يترك أيضاً، وهذا يعني إثبات مسئوليته ودور أرادته،  فالآية لا تؤمر ولا تنهي.

ولم يؤمر الإنسان هنا بمجرد قراءة، بل بقراءة مقيدة (باسم ربه) الخالق، والقرآن هنا حريص على التعبير عن ذات الله سبحانه وتعالى في هذا المقام باسم (الرب) مضافاً إلى ضمير المخاطب وهو الإنسان، وذلك لما يوحي به اسم الرب من معاني التربية والرعاية والترقية في مدارج الكمال، وما توحي به الإضافة والخطاب من القرب والاختصاص والتكريم.

وقد تكرر اسم الرب هكذا مرتين، مع وصفه مرة بالخالقية، ومرة بالأكرمية وربك الأكرم، فعلاقة الإنسان ليست بمجرد رب، ولا برب كريم فقط، بل برب أكرم، بل بالرب الأكرم على الإطلاق، لأنه يعطي بغير حساب، وبغير عوض ولا مقابل.

وذكر القرآن من دلائل أكرميته تعالى: [الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ] {العلق:5}. فالله تعالى بالنسبة إلى الإنسان (معلم) والإنسان متعلم ما لم يكن يعلم، هذه ميزته: استعداد للتعلم بالقراءة والكتابة بالقلم.

هذا أول نص نزل به الوحي الإلهي على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو نص فريد ورائع حقاً، فقد حرص على تأكيد أمور معينة من أول لحظة، منها:

1 ـ إن الإنسان مخلوق مكلف.

2 ـ العناية بشأن الإنسان حيث ذكره مرتين.

3 ـ أول ما أمر به الإنسان القراءة.

4 ـ تعظيم شأن القراءة حيث أمر بها مرتين.

5 ـ أول أداة ذكرها الوحي: القلم.

6 ـ أول ما وصف الله به نفسه: الرب ـ الخالق ـ الأكرم ـ المعلم.

7 ـ أول ما وصف الله به الإنسان: القدرة على التعلم.

محمد الرسول الإنسان:

وإذا نظرنا إلى الشخص الذي جسد الله فيه الإسلام، وجعله مثالاً حياً لتعاليمه، وكان خلقه القرآن ـ نستطيع أن نصفه أيضاً بأنه (الرسول الإنسان) وسيرته ليست سيرة إله، ولا بعض إله، ولا ملاك متجرد من اللحم والدم، بل هي سيرة النبي الإنسان.

والقرآن الكريم حريص على الحرص في شتى المناسبات على تأكيد إنسانية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، بمثل قوله تعالى:[قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ...] {الكهف:110}.

 ويرد على المشركين المتنتعين من مقترحي الآيات الكونية ما يتصور منها وما لا يتصور، مثل أن يفجر لهم من الأرض ينبوعاً، أو تكون له جنة من نخيل وعنب أو يسقط السماء عليهم كسفاً، أو يأتي بالله والملائكة قبيلاً، الخ... هذه السلسلة منا لمقترحات السخيفة العجيبة، فيطلب من الرسول أن يرد عليهم بهذه الكلمات الموجزة:[ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا] {الإسراء:93} . 

ولما استبعد بعضهم أن يكون  الرسول بشراً مثلهم، يمشي على الأرض، وافترضوا أن يكون الرسول ملكاً ينزل من السماء، رد عليهم القرآن فقال: [قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا] {الإسراء:95}.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: مجلة الوعي الإسلامي رمضان 1395 العدد 129

الحلقة السابقة هنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين