تنازل حكومة الاتحاد والترقي عن أقاليم البلقان

 

 

حدث في الثالث والعشرين من جمادى الآخرة 

في الثالث والعشرين من جمادى الآخرة من سنة 1331=30/5/1913 وقعت حكومة الاتحاد والترقي التركية معاهدة لندن التي تنازلت فيها عن أقاليم البلقان التي كانت تحت حكمها، ووقعت المعاهدة القوى الأوربية الكبرى؛ بريطانيا وألمانيا وروسيا وإيطاليا والنمسا- هنغاريا، ووقعتها من طرف ثالث دول العصبة البلقانية التي انتصرت على تركيا: بلغاريا وصربيا والجبل الأسود، ومعها كذلك اليونان.

 

وكانت شيخوخة الدولة العثمانية قد بدأت مع تطلع الأقاليم المسيحية الأوربية إلى الاستقلال ثم حصولها عليه، وكانت اليونان أول هذه الأقاليم حين استقلت في سنة 1832، ثم تلتها بعد قرابة 50 سنة صربيا وبلغاريا والجبل الأسود التي استقلت في سنة 1878، وفي نفس السنة احتلت الإمبراطورية النمساوية البوسنة والهرسك، وضمتها في سنة 1908 بعد أن أثمرت جهود جمعية الاتحاد والترقي في الإطاحة بالسلطان عبد الحميد، والإتيان بالسلطان محمد رشاد، وتسلمها عملياً مقاليد البلاد، ثم بدا في أواخر سنة 1911 أن تركيا قد أصبحت فعلاً الرجل المريض الذي لا يقوى على دفع العلل والأمراض، وذلك عندما هاجمت إيطاليا ليبيا واحتلتها واحتلت جزراً أخرى في بحر إيجة غير بعيد عن سواحل الأناضول، ولم تستطع تركيا أن تصد الهجوم الليبي أو أن ترد عليه، واستسلمت للأمر الواقع عندما أبرمت مع إيطاليا اتفاقية لوزان التي تنازلت فيها عملياً عن ليبيا.

 

وكانت دول البلقان؛ اليونان وصربيا وبلغاريا والجبل الأسود، أضعف من أن تفكر الواحدة منها بمواجهة الدولة العثمانية، وكان التقاء هذه الدول أمراً ليس بالهين، فقد كانت خلافاتها مزمنة ومعقدة، نظراً لتضارب مصالحها وتداخل أراضيها ومطامعها وتطلعاتها الوطنية، ولكن أمرين ساهما في أن تتوصل هذه الدول في سنة 1912 لعقد تحالف سري عرف باسم العصبة البلقانية، أولهما خوفها من توسع الإمبراطورية النمساوية في أراضيها وتكرارها لما فعلته في البوسنة، والثاني قيام حكومة روسيا القيصرية بمساع حثيثة أقنعت هذه الدول أن تضع جانباً خلافاتها وتستغل ضعف الدولة العثمانية، وتطردها وللأبد من المناطق الأرثوذكسية في البلقان، فقد كان القيصر يعتبر نفسه راعي الكنيسة الأرثوذكسية، ورغم قوة بلغاريا التنظيمية والعسكرية، كانت صربيا قطب الرحى في التحالفات التي أنتجت العصبة البلقانية، أما اليونان فكانت تريد انتزاع سالونيك وجزيرة كريت من تركيا وضمها إليها.

 

وكان لسياسات الحكومة التركية دور في جمع شمل هذه الدول المتنافرة في العادة، وكانت حكومتا اليونان وبلغاريا الجديدتين قد نهجتا منهجاً مسالماً لتركيا، ومغايراً للرأي العام في البلدين، ثم ما لبثتا أن بدأتا في معاداتها بسبب اعتماد الحكومة العثمانية على القمع العسكري  كمنهج وحيد في ضبط المناطق التي بدأت تطلب الحكم الذاتي، وكذلك فرضها  سياسة التتريك على الشعوب بتأثير من جمعية تركيا الفتاة، وبرز ذلك بشكل واضح في المناطق المختلطة مثل سالونيك ومقدونيا، وزاد الطين بلة أن زادت الحكومة التركية من التوتر في المنطقة حين قررت إجراء مناورات في منطقة أدرنة، خشيت منها الدول البلقانية أن تكون ستاراً لهجوم تشنه تركيا عليها، فاستنفرت قواتها إلى مناطق الحدود، وبدأت الدول الأوربية الكبرى مساعي واسطة لتجنب تصعيد الموقف واندلاع حرب بدت وشيكة، وتعهدت هذه الدول فيما بينها أن تبقي على الوضع الراهن في البلقان وألا تسمح بوقوع حرب فيه، وأن تواصل مساعيها مع استانبول لتنفيذ الإصلاحات الموعودة، وفي هذا يقول أمير الشعراء أحمد شوقي:

 

هَبَّ النسيمُ على مقدونيـا بَرداً ... من بعد ما عَصَفَت جَمراً سَوافيها

تَغلي بِساكِنِها ضِغناً ونائرَةً ... عَلى الصُدورِ إِذا ثارَت دَواعيها

عاثَت عصائبُ فيها كالذئابِ عَدَت ... على الأَقاطيعِ لَمّا نام راعيها

مظلومةٌ في جوارِ الخوف ظالمة... والنفسُ مُؤذيةٌ مَن راحَ يُؤذيها

أَعلامُ مملكة فـي الغرب خائفة        لآل عثمان كادَ الدهرُ يطويها

 

واستجابت تركيا لهذا المساعي واعدة بأن تقدم برنامجها للإصلاحات الإدارية في مقدونيا وغيرها، وذلك في نفس اليوم الذي قررت فيه إمارة الجبل الأسود إعلان الحرب على تركيا، في 26 شوال 1330=8/10/1912، لتلحق بها بعد 10 أيام دول العصبة الأخرى.

 

ولم تكن تركيا في حالة تسمح لها بخوض حرب صغيرة فضلاً عن حرب مع هذه الدول وعلى عدة جبهات، فقد كانت الحكومات التركية تعاني من الصراعات الداخلية والانقسامات الحادة التي جعلت تركيز كل حكومة منصباً على تقوية موقعها تجاه القوى الداخلية المعادية لها، ورغم تعاونها مع الألمان لتحديث الجيش التركي وتطوير دفاعاته إلا أن ذلك الأمر لم يكن قد آتى ثماره بعد، ولذا واجهت تركيا بعد إعلان الحرب مشاكل في التعبئة وحشد القوات والمعدات، ويكفى أن نذكر أنه مع بداية الحرب كان عدد الجيوش التركية الثلاثة في منطقة العمليات حوالي 200.000 جندي، بينما يفترض أن يكون ملاكها 600.000 جندي، وفي المقابل كانت الإمبراطورية البلغارية تستطيع حشد 450.000 جندي من إجمالي سكانها البالغ عددهم 4.300.000 نسمة، وعبأت مملكة صربيا 230.000 جندي من مجموع سكانها البالغ عددهم حوالي 3 ملايين نسمة، وحتى مملكة الجبل الأسود التي بلغ عدد سكانها 250.000 نسمة حشدت جيشاً وصل تعداده إلى 44.500 جندي، أما مملكة اليونان فحشدت 110.000 جندي، وكان عدد سكانها قرابة 2.700.00 نسمة، ولكن اليونان تمتعت بأسطول بحري متفوق وحديث، فكان لها زمام المبادرة في المعارك البحرية.

 

وهكذا واجه الجيش التركي قوات تفوقه بأكثر من 4 أضعاف، وأحدث منه عدة وتدريباً، وعلى عكس الحروب التي خاضتها تركيا في السابق، وتعد حرب البلقان من أقصر الحروب العالمية في التاريخ، فقد دامت قرابة 5 أسابيع انجلت عن تركيا مهزومة مندحرة من كل الأراضي الأوربية، فقد استطاعت بلغاريا هزيمة الجيش التركي في تراقيا، وحاصرت قواتها أدرنة ووصلت إلى ضواحي استانبول، أما الصرب فاكتسحوا مقدونيا وحاصروا شقدورة ووصلت قواتهم إلى الجبل الأسود، وتسابق جيشا بلغاريا واليونان أيهم يصل أولا إلى سالونيك أهم مدينة في مقدونيا، وسبق إليها الجيش اليوناني لتصير من حصتهم، ويبدأوا في التقدم نحو إيوانينا، وجرت معارك كذلك بحرية محدودة كانت في مجملها لصالح اليونان وبلغاريا، ونجحت اليونان في ضرب حصار على مضائق الدردنيل، ونجح أسطولها في منع العثمانيين من إنزال قواتهم وإمدادتهم على الشواطئ ما بين جاليبولي وسالونيك للمشاركة في القتال، وبعد عدة مواجهات خاسرة اكتفت السفن الحربية التركية بانتهاج مواقف دفاعية بدلا من الهجوم.

 

وأثناء سير القتال كان هناك اهتمام كبير لدى الرأي العام الأوروبي والأمريكي بحرب البلقان الأولى ومجرياتها، وتأييد كبير لدول عصبة البلقان، ثم ارتياح واضح لنتائج الحرب وهزيمة تركيا الساحقة، كما ينبغي أن نذكر أن فرقاً من المتطوعين قاتلت في صفوف بلغاريا واليونان وتكون أغلبها من رعايا الدولة العثمانية من البلغار واليونان والأرمن، مع عدد من الجنود والضباط من أمريكا وبعض دول أوربا، فقد كان كثيرون في الغرب ينظرون للحرب على أنها تخليص طال أمده لليونان مهد الحضارة الإغريقية من النير التركي المسلم.

 

وبرز استبسال الجنود والقادة الأتراك في عدة معارك ومواقف، ولكنها ما كانت لتغير من سير الحرب، وأصيب الأتراك بخيبة أمل كبيرة من السلبية التي لم يتوقعوها من الألبان المسلمين الذين تعاونوا مع القوات الغازية، لتطلعهم إلى إنشاء دولة ألبانيا المستقلة.

 

وبعد هذه الهزيمة المذلة استقالت الحكومة التركية التي كان يترأسها أحمد مختار باشا وجاءت حكومة جديدة ترأسها محمد كامل باشا طلبت من القوى الكبرى التدخل وإنهاء الحرب، وأعلنت الهدنة رسمياً في 3/12/1912، ولشدة ضعف تركيا رفضت اليونان أن تنضم لاتفاق الهدنة، ورغم سرور روسيا بنتائج الحرب وارتياح الدوائر الاستعمارية لها، إلا أننا ينبغي أن نستثني من ذلك بلداً واحداً هو النمسا، جارة صربيا التي كانت تخشى كثيراً من الطموحات الصربية التي بلغت أوجها آنذاك، والتي كانت تتطلع لبناء صربيا الكبرى التي تسيطر على البلقان وتتمتع بنفوذ قوي في اليونان، ولتحرم صربيا من الوصول إلى سواحل البحر الأدرياتيكي، شجعت النمسا الألبان على الاستقلال، رغم أن أراضيهم كانت محتلة من قبل الصرب واليونانيين، فاجتمع 83 مندوب منهم في فالونا، وأعلن رئيسهم إسماعيل جمال استقلال ألبانيا وذلك في 18 ذي الحجة سنة 1330= 28/11/1912، وعلى الفور أيدت النمسا وإيطاليا استقلال ألبانيا تأييداً قوياً، وكانت إيطاليا تطمع في أن تضم ألبانيا لها في المستقبل، ولذا أيدت استقلالها وفصلها عن صربيا حتى يكون ذلك سبيلاً لتنفرد بها، وهو ما ستفعله في سنة 1939.

 

وأدى إعلان ألبانيا استقلالها وتأييد النمسا وإيطاليا لها إلى اختلال التوازنات داخل دول العصبة البلقانية التي كانت قد تأسست بغرض أن تتقاسم دولها الأراضي الألبانية، فلما بدا أن ألبانيا صعبة المنال، وحيل بين الصرب وبين الوصول لسواحل الأدرياتيكي، ظهرت الخلافات الشديدة بين دول العصبة، وبدأت في الأفق نذر حرب بينها، كان من المؤكد أن تدخلها النمسا كذلك وتهاجم صربيا، فقامت بريطانيا بالدعوة إلى مؤتمر في لندن سمي بمؤتمر لندن للسلام، تناقش فيه هذه القضايا بغرض حلها سلمياً، ويترأسه وزير خارجية بريطانيا السير إدوارد جراي، ويشارك فيه ممثلو الدول العظمى في لندن، ودول العصبة البلقانية ومعها اليونان.

 

بدأ المؤتمر أعماله في 12/1912، وكانت دول العصبة البلقانية تطالب تركيا بتعويضات عن الحرب، وأن تتخلى تركيا عن كل أراضيها الأوربية باستثناء استانبول وشبه جزيرة جاليبولي، أما تركيا فكانت تريد أن ألا تخسر أدرنة عاصمة الخلافة التي احتلتها بلغاريا، واتضحت في المؤتمر مواقف الدول العظمى، فقد أيدت النمسا وإيطاليا بقوة استقلال ألبانيا، وأيدت روسيا صربيا والجبل الأسود، أما ألمانيا وبريطانيا فبقيتا على الحياد، وبعد قرابة شهر من انعقاده وقع الانقلاب العثماني في استانبول وأطاحت جمعية الاتحاد والترقي بحكومة كامل باشا، وصار أنور باشا الرجل الأقوى في تركيا، فأصدر أوامره للمبعوث التركي بالانسحاب من المؤتمر.

 

وأدى هذا إلى استئناف دول البلقان حملاتها العسكرية المنتصرة، بعد 10 أيام، فاستولت اليونان على إيوانينا، وسقطت شقدورة في يد الصرب، وهجمت بلغاريا على أدرنة التي استسلمت حاميتها في 26/3/1913، وحقق القيصر البلغاري فرديناند الأول ما لم يراوده حتى في أحلامه، فلم يعد لتركيا سوى شريط صغير في أوروبا يضم استانبول، وكانت كارثة لم يسبق لها مثيل، أن تهزم دويلات بلقانية صغيرة إمبراطورية عثمانية دان لها الجبابرة، وخلد هذه الحرب وسقوط أدرنة فيها أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدته الطويلة المشهورة والتي عنوانها؛ الأندلس الجديدة:

 

يا أُختَ أندلسٍ عليكِ سلامُ ... هَوَتِ الخلافَةُ عنكِ والإِسلامُ

نزل الهلالُ عنِ السماء فليتَها ... طُوِيَت وعَمَّ العالَمينَ ظلام

جُرحانِ تَمضي الأُمَّتانِ عليهِما ... هذا يَسيلُ وذاكَ لا يَلتامُ

لم يُطوَ مأتَـمُها وهذا مَأتَمٌ ... لبِسوا السوادَ عليك فيه وقاموا

ما بين مصرعها ومصرعِكِ انقضت ... فيما نحب ونَكرَهُ الأيامُ

والدهرُ لا يألو الممالك مُنذِراً ... فإِذا غَفَلنَ فما عليـه مَلامُ

مَقدونِيا والمسلمونَ عشيرَةٌ ... كيف الخُئولةُ فيك والأعمامُ

أرأيتِ كيف أُديلَ مِـن أُسـدِ الشَرى ... وشهِدتِ كيف أُبيحَتِ الآجامُ

زَعَموكِ هَمّاً للخلافة ناصِباً ... وهَلِ الممالك راحَةٌ ومَنامُ

وَهمٌ يُقيِّد بعضهم بعضاً بِهِ ... وقيودُ هذا العالمِ الأوهامُ

ولقد يُقامُ مِنَ السيوف وليس من ... عَثرات أخــلاقِ الشعــوبِ قيامُ

بِالأمسِ أفريقا تولَّت وانقَضى ... مُلكٌ عَلى جيدِ الخِضَمِّ جِسامُ

نظمَ الهلالُ بِه مَمالك أربعاً ... أصبحنَ ليس لِعِقدهِنَّ نظامُ

واليومَ حُكمُ الله في مَقدونيا ... لا نَقضَ فيه لنا ولا إِبرامُ

كانت من الغربِ البقيةُ فانقضَت ... فعلى بني عُثمانَ فيه سَلامُ

 

ثم يتحدث شوقي عن الحرب التي شنتها العصبة البلقانية بروح دينية محضة تحمل الصليب في راياتها، ليكون شاهداً على الفظائع التي ارتكبوها في المناطق التي استولوا عليها، وقد رأينا في عصرنا جانباً من ذلك في سريبرنيتسا وغيرها في البوسنة، فيقول:

 

أخَذَ المدائنَ والقرى بخناقها ... جيشٌ من المتحالفين لُهامُ

تمشي المناكرُ بين أيدي خيله ... أنى مشى، والبغيُ، والإجرام

ويحثه باسم الكتاب أقِسةٌ ... نشطوا لما هو في الكتاب حرام

عيسى سبيلك رحمة ومحبةٌ ... في العالمين وعصمة وسلام

ما كنت سفاك الدماء ولا امرأً ... هان الضِّعافُ عليه والأيتام

يا حامل الآلام عن هذا الورى ... كثُرت عليهم باسمك الآلام

واليوم يهتف بالصليب عصائبٌ ... هم للإله وروحه ظُلاَّم

خلطوا صليبك والخناجرَ والمُدى ... كلٌّ أداة للأذى وحِمام

أوما تراهم ذبَّحوا جيرانهم ... بين البيوت كأنهم أغنام

 

ثم يتحدث عن التهجير العرقي والتدمير الذي لحق ممتلكات المهجرين في هذه الحرب الدامية:

 

ومهاجرين تنكرت أوطانُهم ... ضلوا السبيل من الذهول وهاموا

السيف إن ركبوا الفِرار سبيلُهم ... والنِّطعُ إن طلبوا القرار مُقام

يتلفتون مودعين ديارَهم ... واللحظ ماءٌ، والديارُ ضِرام

 

ثم يخاطب شوقي ساسة تركيا في استانبول ويناشدهم أن يكفوا عن تفرقهم وتخاذلهم، وينتقد منهج الدولة العثمانية في سلوكها منهج القوة طريقاً وحيداً، في أبيات حقها أن تكتب بماء الذهب:

 

يا أمة بفَروق فرَق بينهم ... قَدَرٌ تطيش إذا أتى الأحلام

فيم التخاذل بينكم ووراءَكم ... أمم تُضاع حقوقها وتضام

تقضي على المرء الليالي، أو له، ... فالحمدُ من سلطانها والذَّام

من عادة التاريخ ملءُ قضائه ... عدل، وملءُ كنانتيه سهام

ما ليس يدفعه المهند مصلتاً ... لا الكتب تدفعه ولا الأقلام

إن الألى فتحوا الفتوحَ جلائلاً ... دخلوا على الأُسدِ الغياضَ وناموا

رفعوا على السيف البناء، فلم يدم ... ما للبناء على السيوف دوام

أبقى الممالكَ ما المعارفُ أُسُّه ... والعدل فيه حائط ودِعام

إن الغرور إذا تملك أمة ... كالزهر يُخفي الموتَ وهو زؤام

لا يعدلن الملك في شهواتكم ... عَرَضٌ من الدنيا بدا وحطام

ومناصب في غير موضعها، كما ... حلت محل القدوة الأصنام

الملك مرتبة الشعوب، فإن يفت ... عزُّ السيادة، فالشعوب سَوام

ومن البهائم مشبَعٌ ومُدلَّلٌ ... ومن الحرير شكيمة ولجام

وَقفَ الزمانُ بكم كموقف طارق ... اليأس خَلفٌ والرجاء أمام

الصبر والإقدام فيها إذا هما ... قَتلا فأَقتلُ منهما الإحجام

يحصي الذليل مدى مطالبه، ولا ... يحصي مدى المستقبل المِقدام

 

وتمخض المؤتمر في لندن بعد 5 شهور عن معاهدة فرضتها الدول الكبرى فرضاً على دول العصبة البلقانية والدولة التركية، وتضمنت النقاط الأساسية التالية:

 

·       تتنازل الدولة العثمانية إلى دول العصبة البلقانية عن كل الأراضي الأوربية الواقعة غرب الخط الذي يصل بين إينوس على بحر إيجة وبين ميديا على البحر الأسود.

 

·       تتنازل الدولة العثمانية عن جزيرة كريت إلى اليونان، وتقرر الدول الكبرى مصير الجزر الأخرى في بحر إيجة.

 

·       تحدد الدول الكبرى حدود ألبانيا وكل القضايا المتعلقة بها.

 

ولكن المعاهدة لم تتطرق لكيفية تقسيم الأراضي البلقانية على دول العصبة، وخلفت عدة إشكالات، أهمها نقاط ثلاث:

 

·       غموض وضع الأراضي التي ادعتها دولة ألبانيا الوليدة، والتي كانت احتلتها آنذاك صربيا والجبل الأسود واليونان.

 

·       وضع سنجق نوفي بازار الذي كان رسمياً تحت الحماية النمساوية منذ اتفاقية برلين سنة 1878

 

·       تقسيم الأراضي الأخرى التي احتلها الحلفاء وهي كوسوفو ومقدونيا وتراقيا

ورفضت صربيا الانسحاب من الأراضي التي تحتلها وتنفيذ نصوص معاهدة كانت قد وقعتها مع بلغاريا قبل سنة واتفقتا فيها كيف ستتقاسمان البلقان، فقد رأت صربيا أن المكاسب البلغارية من الحرب كانت كثيرة جداً وعلى حسابها وحساب اليونان، فقد اشتكى من المعاهدة الجائرة سكان ألبانيا الجنوبية من اليونان، الذين يطلقون عليها إيبروس الشمالية، وجرت ترضيتهم بأن جُعل إقليمهم إقليماً ذا حكم ذاتي ضمن ألبانيا، وكذلك لم يرض الألبان عن المعاهدة لأنها حرمت دولتهم الوليدة من نصف الأراضي ذات الأغلبية الألبانية، حيث أعطيت كوسوفو لصربيا وإيوانينا لليونان، وبالطبع احتجت بلغاريا لأن المعاهدة جعلت عدداً كبيراً من البلغار يعيشون تحت الحكم الصربي أو اليوناني في مقدونيا وسالونيك، .

 

وتصاعد التوتر بين هذه البلدان، وخشيت بلغاريا من قيام تحالف يوناني بلغاري سيلحق بمصالحها الضرر، فشنت هجوماً استباقيا مفاجئاً على صربيا واليونان في 16/6/1913، لتبدأ حرب البلقان الثانية.

 

وانضمت إلى اليونان وصربيا دولتا الجبل الأسود ورومانيا، وألحقوا ببلغاريا هزائم متلاحقة قوية، واستغلت الحكومة التركية هزيمة بلغاريا فشنت هجوماً استعادت فيه أدرنة وبعض المناطق حولها، وانتهت الحرب باتفاق سلام نهائي حملته معاهدة بوخارست في 12/8/1913 ثم تلتها بعد شهر معاهدة استانبول، وتضمنت هذه المعاهدات مكاسب كبيرة لصربيا واليونان، فقد أخذت صربيا شمال مقدونيا وقُسِّم نوفي بازار بينها وبين الجبل الأسود، وحصلت اليونان كذلك على مناطق واسعة شملت سالونيك وإيبيروس وإيوانينا، وقبلت هذه الدول أن تترك للأتراك المناطق التي انتزعوها من البلغار، أما رومانيا فعادت إليها دوبرجا الجنوبية.

 

وكان العهد بالحروب في السابق أن تخوضها جيوش الدول الإمبراطورية، ولكن حروب البلقان كانت أول حروب القرن العشرين التي حاربت فيها جيوش الدولة الوطنية، وكانت فكرة الوطنية أساس تجييش هذه الجيوش وتأجيج حماستها وجعل مقاتليها يقدمون أقصى ما يستطيعون في سبيل الوطن، وكانت كذلك من أول الحروب التي استخدمت فيها الطائرات، وإن كان ذلك بدرجة محدودة ولأغراض الاستطلاع، ومن جانب آخر، كانت حروب البلقان حروباً طالت ويلاتها السكان المدنيين الذي لقوا معاملة قاسية من الجيوش المحاربة، ورحل بسببها عدد كبير عن أراضي آبائهم وأجدادهم، وتعرضوا للسلب والتعذيب والقتل والاغتصاب.

 

وكانت حروب البلقان أول حروب تخوضها الدولة العثمانية بجيش يضم كل الديانات والقوميات التي تنضوي تحت لوائها بعد أن كان ذلك مقتصراً على المسلمين منهم، وقامت حكومة الاتحاد والترقي بتسويق مبدأ الأمة الواحدة؛ الملة العثمانية، لتحل القوميةُ العثمانية ذات الصبغة العلمانية المبهمة محلَ الوجهة الدينية الإسلامية، ولكن الاتحاديين تخلوا عن هذا بعد هزيمتهم في الحرب، وانفضاض الأقليات الدينية من حولهم، وبخاصة أن نتائج الحرب وخسارة البلقان غيرت التركيبة السكانية تغييراً واضحاً، فقد صار المسلمون يشكلون سواد مواطني الإمبراطورية العثمانية، وهاجر إلى الأناضول وتراقيا التركية حوالي 400.000 لاجئ مسلم من الأراضي التي استولت عليها العصبة البلقانية، ومعهم عدد من يهود سالونيك.

 

ولم تكن حكومة الاتحاد والترقي في معزل عن التأثر بفكرة الوطنية، فبدأ في صفوفها تحول واضح نحو النزعة التركية بدلاً من الهوية الإسلامية، وبخاصة بعد أن خذلها في هذه الحرب المسلمون الألبان في البلقان ولم يقفوا بجانبها، وهي النزعة التي ستظهر واضحة بعد 5 سنين في الحرب العالمية الأولى، وستصل ذروتها بعد 10 سنوات في أيام أتاتورك وإلغائه الخلافة، معلناً دولة تركيا الحديثة.

 

أما صربيا فخرجت من حرب البلقان الثانية منتصرة قوية، بروح وطنية عالية، وأصبح لديها جيش كبير ومتمرس بالقتال، فصار خطرها أشد، لأن إحباطها بلغ أشده تجاه النمسا التي أوجدت ألبانيا لتحول بين صربيا وبين تحقيق وحدة الشعوب السلافية تحت زعامتها، وبدأ الوطنيون الصرب في مهاجمة الأهداف النمساوية في صربيا، وهو ما ندعوه اليوم بأعمال إرهابية، وزاد هذا من تخوف النمسا التي باتت تتربص الفرص لتحجيم صربيا وخضد شوكتها، وجرى ذلك كله في الوقت الذي كان الروس يتطلعون لزيادة نفوذهم في البلقان من خلال الشعوب السلافية والكنيسة الأرثوذكسية.

 

وأصبح الوضع أخطر من ذي قبل، فلو أن النمسا هاجمت الصرب فلا شك أن روسيا ستساعدهم، وسيقود هذا ألمانيا لمساعدة النمسا، وسيجر هذا لحرب كبيرة في قلب أوربا، وهو ما كانت الدول الأوربية الكبرى تريد تجنبه، ولذا أجبرت الدول المتحاربة على تنفيذ معاهدة لندن مع الاعتراف الضمني بإمكانية تعديل بعض الترتيبات التي تضمنتها بعد أن تهدأ الأوضاع ويزول شبح الحرب.

 

ولكن ما لبثت الحرب العالمية الأولى أن نشبت في رمضان سنة 1332= 28/7/1914، وقدح شرارتها ناشط صربي اغتال ولي عهد النمسا في سراجيفو، فاتهمت النمسا صربيا أنها وراء الجريمة، وأعلنت الحرب عليها ولحقت بها ألمانيا، وتحولت إلى حرب عظمى وقفت فيها تركيا إلى جانب أعداء صربيا: ألمانيا والنمسا، على أمل أن تأثر لكرامتها التي أهدرت وتستعيد أراضيها التي فقدت، ولكن كانت نتيجة دخول الحرب وبالا على تركيا، ففد خسرت مزيداً من الأراضي، واحتل البريطانيون والفرنسيون والإيطاليون عاصمتها، وأشرفوا على مرافقها، ونزل اليونانيون في إزمير طامعين في أن يحتلوا المناطق الخصيبة حولها، فكانت أزمة أشد من سابقتها، فنهد لمواجهتها مصطفى كمال واستطاع هزيمتهم وإنقاذ تركيا بعد أن كانت على شفير الهاوية.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين