مفاسد الاستبداد

 

زالت أنظمة الاستبداد السياسي من العالم كلّه وبقيت مزدهرة متغطرسة في البلاد العربية وبعض الأقطار القليلة سيئة الذكر الأخرى مثل كوريا الشمالية وزمبابوي ، ولعلماء الاجتماع السياسي أن يحلّلوا وينقّبوا ليفسّروا هذه الظاهرة العجيبة التي تلتصق بالعرب دون غيرهم من الأجناس ، تجعلهم ضحايا هذا الكابوس المروّع رغم نضالهم السلمي وثوراتهم المتعددة وآخرها ثورات الربيع العربي.

 والاستبداد هو – بمنطق الانسانية - الشر الأكبر – وبمنطق الشرع - الذنب الأشنع ، هو أشد على الانسان من كلّ شرّ لأنه نقيض الانسانية ، وهو أشدّ على  المسلم من الكفر لأنه الكفر الأعظم ، فهو مصدر الظلم  والفساد المادي والأخلاقي ، كما أنه ضد إنسانية الانسان وكرامته ، يدفعه كرها إلى أدنى مراتب الحيوانية ، يمحق معاني الحرية ( التي هي أساس التكليف والمسؤولية ) ويكرهها ويعاديها ويسدّ منافذها ، حتى وهو يرفع شعارها نفاقا وتضليلا ، وقد ابتدع بعض رموزه الأكثر إمعانا في التسلّط والجور شعار " لا حرية لأعداء الحرية " يؤصّل به لظلمه ويجعل من نفسه ونظامه الفاسد مقياسا للحرية ، وهو يسوق الأمة المنكوبة بالسياط ويملأ السجون والمقابر بأحرارها من المناضلين والدعاة والشعراء والكُتاب ونحوهم ، وقد أفتى أن ليس للناس حاجة إلى التفكير فهو- أي أربابُه من ملوك وأمراء ورؤساء وجنرالات - يفكّر مكانَهم وهو بالضرورة الأكثر إلهامًا ونظرا وفهما وإدراكا وتدبيرا، وفاءً للشعار الستاليني الشهير " لا حاجة إلى التفكير فالكرملين هو الذي يفكر " ،  والاستبداد كما يتبرّم من المطالبين بالحرية والشغوفين بها يبتهج بالعبيد الذين يرضون بالاستخفاف والرق ويروّجون أن الحرية بدعة غربية منكرة ، لأن الحاكم الملهم لم يختره الناس وإنما اصطفاه  الله  أي نعم ، الله هو الذي اصطفى الرويبضة الظالم !!! ولا حاجة للتشويش عليه لأن كل ما خطر بِبَالك فصاحب الجلالة أو السموّ أو الفخامة منبَّه لذلك !!! فخيرٌ لك أن تسلم له قوادك وتدع النقد والمطالب وتنتظر عطاياه فهو كثير الإحسان للقطيع إذا التزم الهدوء والطاعة داخل الزريبة المسيّجة ، يُطعمهم ويسقيهم ويوسع عليه في بعض المناسبات ، فلماذا إزعاجه ؟

وكما يتضايق نظام الاستبداد من دعوة الحرية التي هي نقيضه فهو شديد الاشمئزاز  من معاني الشورى والديمقراطية لأنها هي الأخرى من أنصع نواقضه ، كان قديما يعتمد دستوريا على الرأي الواحد فيحتكر الصواب ، وكلّ صوتٍ مخالف هو بالضرورة صوتُ خائنٍ للوطن عميلٍ للعدوّ رجعيٍ اجتمعت فيه سلبيات الدنيا ومفاسدها وهو بالتالي من ألدّ أعداء الشعب والوطن ، لا يستحقّ سوى التغييب  ، وهذا ردّ فعل طبيعي من نظام سياسي يكره تعدد لألوان  وخاصة الزاهية منها لذلك انتفض بكلّ قوة وبأخبث الطرق وأبشعها  على الربيع أينما ازدهر ، بدءا بتشكسلوفاكيا وانتهاء بالعرب.

ويكون الاستبداد  أسوأ عندما يتزيّن بمظاهر الديمقراطية ، فيسمح بتعدّد الأحزاب بشرط أن تكون مهمتها الأولى التسبيح بحمده والمزايدة عليه في الفساد ومضايقة الأحرار ، كما يجري انتخابات كثيرة وعلى أكثر من صعيد على أن يتولى هو إعداد قوائم المترشحين وتحديد النتائج بدقة بحيث يحصل دائما على حصة الأسد ويوزع بطريقته الفتات على منافسيه في مسرحية سخيفة ممجوجة يصفق لها عبيده في الإعلام والمساجد والمنابر المختلفة ، وقد رأينا في بلدنا كيف وعى العسكر دروس الديمقراطية فقرّر منذ استيلائه على السلطة ألاّ يخسر أي انتخابات ...و وفّى بعهده.

ما أكثر المجالس " الشعبية " في ديار العرب ، بعضها منتخب بالأساليب المعروفة وبعضها عيّنه الحاكم لا لينصحه ولكن ليلبّي رغباته ويستبقها ويزايد عليها ، ومن المضحكات المبكيات أن البرلمان السوري " الديمقراطي " دُعي للتصويت على تعديل الدستور لتوريث الحكم لابن الجنرال الهالك فوافق بالإجماع كما كان منتظرا إلا صوتا نشازا واحدا فنالَه من زملائه " النواب " ما ناله من الشتم والتجريح والاتهام بالخيانة ، وأقصوه من عضوية مجلسهم فورا ، ولعلّه انتهى إلى سجن  صيدنايا المشهور .

والاستبداد أشد سوءا عندما يتذرع بالدين كما كان في أوروبا في القرون الوسطى وكما هو عليه الحال فيبعض البلاد العربية الآن ، فهنا لا يكتفي بإفساد الأرض ومن عليها ولكن يشوّه تعاليم السماء ويأخذ – في واقع الحال – مكان الله تبارك وتعالى ، فهو – رغم بشاعته واستجماعه لأصناف المفاسد – موجود بإرادة الله الذي أعطاه جميع الصلاحيات وعصمه من الخطأ ومن المحاسبة ، فما يقوله ويقرّره هو الحق بالضرورة ولو انتهك الأعراض والأعراف ونهب الموال وباع قضايا الأمة للصهاينة وكان خادما لفرنسا أو أمريكا ، ومن حدثته نفسه بشيء من الريب فعُلماء السلطان له بالمرصاد يؤصلون للحكم الشمولي الفاسد ، يحرّمون على " الرعية " أدنى احتجاج على السياسات المتبعة مهما كان انحرافها ، لأنها – في منطقهم المعوج – تعارض الله تعالى وتخرج على شرعه ، هكذا يرهبون الناس من جهة ويُنشئون جيلا من العبيد الذين لا يعرفون معنى للحرية والكرامة والإنسانية ، في هذا السياق حرّموا عبر فتاوى دينية ملزمة جميع أشكال التظاهر والاعتصام والإضراب مهما كانت سلمية لأنها محرّمة لذاتها !!!

هؤلاء العلماء الذين يسبحون بحمد الطاغية  ويطوفون حول مرضاته جزء أساسي وضروري في بناء الاستبداد واستمراره ، فتجدهم يدعون له في المنابر بطول البقاء بينما يئنّ الألوف من الأبرياء في معتقلاته بغير حق ويقبع الملايين في سجون كبيرة غابت عنها نسائم الحرية ، يسمح لهم فيها بالتقاط الفتات المتساقط من موائده الخاصة ، في حين تنعم القلة من المداهنين بالخيرات المادية والمعنوية.

 والغول الاستبدادي لا يشيع الظلم فحسب بل ينتظر الالتفاف حوله ضد المظلوم " الخارجي المارق الارهابي المفسد " ، لذلك يستعين بالحاشية الفاسدة ويعتمد عليها كثيرا لأنها تشيع ثقافة العبودية للاستبداد وتعادي الحرية والعدل والكرامة حتى قالوا " هذه مفردات وافدة من الغرب الكافر "  وتناسوا أن هذا الغرب لم يتقدم على المستوى العلمي والتقني حتى تخلّص من نظم الاستبداد ، وفي دُوله من الحرية والعدل ما بَهر المسلمين القابعين تحت وطأة الديكتاتورية وأغراهم بالهجرة إليه ، ومهما اختلفنا حول الثورة الفرنسية فلن يستطيع عاقل إنكار أفضالها على البشرية في العصر الحديث لأنها خلصت جزءا منسكان المعمورة من مفاسد الاستبداد ، وقد فعل الاسلام ذلك قبلها عندما أنهى الحكم باسم التكليف الإلهي وجعله شورى بين الناس.

ولا يجوز أن يغترّ حرّ أبيّ بمزاعم توفير المستبدّ للأمن في المجتمع ، ذلك أن الأمن الحقيقي ما كان مبنيا على العدل لا على الخوف.

إنّ معاناتنا من الاستبداد يقتضي حشد الطاقات لعلاجه كوضع مرَضي خطير ، والخطوة الأولى في العلاج هي التنشئة على بُغضه والمفاصلة الشعورية معه ورفض الالتقاء معه في منتصف الطريق أو التنازل له جزئيا ، فقد جربت أحزاب وأطراف هذا الترقيع فجرفها أخطبوط الاستبداد وغدَت من خُدامه .

ورسالة الاسلام لا تعلّم الناس جزئيات دينية أو أذكارا أو أشكالا تستوعب جميع أوقاتهم وإنما تحررهم أولا من الرق الفكري والنفسي ليصبحوا بشرا لأن الاسلام تاجٌ يوضع على رؤوس الأحرار لا يستحقه العبيد ولا يحتملونه... وسيُزهر الربيع في مستقبل قريب إذا نبذ العرب الاستبداد كما ينبذون الكفر.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين