عظمة القدر

 

لا توجد عقيدة تنازع فيها النّاس : مؤمنهم و كافرهم ، قديماً و حديثاً _ و سيظل الأمر كذلك _ كعقيدة القضاء و القدر !! فلا عجب أن كانت هذه العقيدة إحدى ركائز الإيمان في المنظومة الإسلاميّة ، إذ تظاهرت الآيات القرآنيّة و الأحاديث النبويّة على جوهريّة هذه العقيدة ، حتّى صارت من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة . يقول الحق عزَّ وجل : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } [القمر:49] . { وَ كَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا} [الأحزاب:38] . { ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى } [طه:40] . و قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ] كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات و الأرض بخمسين ألف سنة [ . و قال أيضاً صلى الله عليه وسلم : ] إنّ أول ما خلق الله القلم ، فقال : اكتب ، قال : ما أكتب ؟ قال : اكتب القدر ما كان و ما هو كائن إلى الأبد [ . قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه : « القدر نظام التوحيد ، فمن وحّد الله و آمن بالقدر تمَّ توحيده ، و من وحّد الله و كذّب بالقدر نقض تكذيبُه توحيدَه » .

و لقد علم المتربصون بهذا الأمة شرّاً القيمة الفعّالة لعقيدة القدر في الإسلام و حيويّتها الدّفاقة و فاعليّتها العميقة في شخصيّة المسلم و طبيعة علاقته بحركة التاريخ ، فحرصوا بكل حيلة على تشويهها في عقله و وجدانه ، خاصة بعد أن بهت و خفت وهجها لديه عبر التاريخ بسبب عوامل مختلفة في مقدمتها ما يسمى بـ " علم الكلام " و اتجاهاته و صراعاته !!

و لأنّ هذه المقالة ليست موضوعة لتتبع تاريخ عقيدة القضاء و القدر لدى مختلف المدارس و الاتجاهات ، و كشف سياقاتها و عواملها و آثارها ، سيكون البحث _ إن شاء الله _ قاصراً على تقديم باقة إرشادات تساعد المسلم المعاصر على تبصّر جمالية هذه العقيدة و تذوق روعتها و فهم أبعادها .

الخلل المنهجي الذي وقع فيه كثيرون و هم ينظرون في القضاء و القدر ، أنّهم لم يحددوا الإطار الكلي الذي يجب دراسة عقيدة القضاء و القدر أي علاقة الخالق بالمخلوق في مجاله و سياقه ، بل انطلقوا لفهم هذه العلاقة المركزيّة من مقرّرات بعيدة عن معطيات الوحي الرباني في شموليّتها و تكاملها !!

من أجل ذلك ، فإنّي أعتقد أنّ القضاء و القدر يجب دراسته انطلاقاً من الحقائق الثلاث التاليّة :

  1. الحقيقة الأولى : وجود الله تعالى . قدّمت العقيدةُ الإسلاميّة اللهَ تعالى على أنّه الإله الخالق ، له الكمال اللانهائي في ذاته و صفاته . و هذا يعني أمرين :

  • الله تبارك شأنه غني عن العالمين كافة ، و غناه يُحيلُ بشكل مطلق أن يظلم أدنى ظلم .

  • العقل الإنساني يستحيل استحالة مطلقة أن يحيط علماً بالله تعالى في ذاته و صفاته . 

  1. الحقيقة الثانيّة : مهمّة الإنسان . حصرت العقيدةُ الإسلاميّة مهمّةَ الإنسان في شيء واحد هو : العبوديّة لله تعالى بمفهومها الواسع ، الشامل ، و المتكامل . و هذا يعني أمرين :

  • الدنيا ليست عالم صفاء و هناء ، بل دار امتحان و بلاء ، إذ هي فانية زائلة .

  • يتحرّك الإنسانُ في إطار منظومة متشابكة من الضوابط و الأسباب و الآثار .

  1. الحقيقة الثالثة : المصير الأبدي . كشفت العقيدةُ الإسلاميّة عن أنّ مصير الإنسان بعد الموت هو الاستمرار في الوجود بشكل أبدي ، إما الجنة أو النّار . و هذا يعني أمرين :

  • الإنسان مخلوق للأبد السرمدي ، إما في مسار السعادة أو مسار الشقاء .

  • مصير الإنسان في عالم الخلود مرتبط جوهريّاً بمدى أدائه لمهمّته الأصلية في الدنيا .

إذن في إطار هذه الحقائق الثلاث يجب أن ننطلق لفهم طبيعة القضاء و القدر .

و من هنا يمكننا أن نقول : العلاقة بين الله تعالى و الإنسان علاقة تفاعليّة . هذه التفاعليّة الثنائيّة تحتفظ للألوهيّة بعظمتها و كمالها ، كما أنّها تمنح الإنسانيّة قيمتها و معناها . إذ لو كان الأمر جبريّة مطلقة لما كان لمسؤوليّة الإنسان معنى ، و لو كان الأمر حريّة مطلقة لما كان للألوهيّة قيمة !!

بعد هذا البيان المجمل ، سأضع هنا مجموعة ضوابط كليّة تعصم _ إن شاء الله تعالى _ المسلم المعاصر من الوقوع في شَرَك الحيرة و الشكوك التي يحرص الملاحدة و غيرهم على إيقاعه فيها . فأقول :

  • الضابط الأول : الله عزَّ وجل متصفٌ بالكمال المطلق .

معنى هذا الضابط ، أنّ الحق تبارك شأنه لما كان هو الخالق ، و كان شرط الخالقيّة في ضرورة العقل هو الكمال اللانهائي في العلم و القدرة و الرحمة و الحكمة و الإرادة ، و غير هذا من الصفات ، استحال استحالة مطلقة أن تتطرّق أدنى أشكال الظلم المتوهمة في العقل إلى أحكامه و أفعاله . إذ لو أمكن ذلك ، فهو نقص و عجز و جهل و عبث ، و كمال الألوهيّة و عظمة الخالقيّة منزّهة عن كل ذلك .

  • الضابط الثاني : الله تعالى  خلق الإنسان و الكون خلقاً خاصّاً .

معنى هذا الضابط ، أنّ الحق تبارك و تعالى لما كان هو الإله الخالق ، خلق الوجود بما فيه من أشخاص و أشياء بإرادته الكاملة ، كان هو وحده جل مجده أعلم بسرّ تشكيل الكون و الحياة و الإنسان على هذا النحو . إذ إنّ خلق الوجود على هذا الشكل مرتبط جوهريّاً بكمال الحكمة الإلهيّة و ما لا نعلمه من الصفات الأخرى التي يتصف بها الله تعالى .

  • الضابط الثالث : القدر الإلهي له اعتبارات متشابكة ترتبط بالدنيا و الآخرة .

معنى هذا الضابط ، أنّ الله تعالى في شتّى صور و أشكال أقداره في حياة الإنسان يراعي اعتبارات هائلة و متشابكة لها صلات وثيقة بطبيعة عالم الدنيا ، و طبيعة مهمة الإنسان و شخصيّته ، و طبيعة مصيره في عالم الآخرة ، و غير هذا من الأسرار المعتبرة . و هذا ما يؤكد استحالة الإحاطة بهذه الاعتبارات علماً و تصوّراً على أي مخلوق ، إذ كل مخلوق فهو محدود .

  • الضابط الرابع : الإنسان مجبر على الكليات مخيّر في الجزئيات .

معنى هذا الضابط ، أنّ الله سبحانه خلق نظاماً كونيّاً معيّناً ، فالإنسان يستحيل على الإنسان أن يخرج من دائرة هذا النظام . لكن داخل النظام أعطاه اللهُ تعالى الحريّة ليختار ما شاء من الخيارات التي ضمّنها الله تعالى الإطار الكلي . مثال : قرّرتَ أن تأخذ قطاراً من نقطة (أ) إلى نقطة (ب) هنا أنت مجبر و مختار :

  • مجبر على قبول سلوك القطار للسكة التي وضعها المهندسون ، سواء كانت مستقيمة أو منعرجة ، و لا يحق لك أن تعترض على مسارها ، لأنّ الجواب منهم سيكون : هذا ليس من شأنك !!

  • مختار داخل القطار فقط : تستطيع أن تقطع الرحلة واقفاً أو ماشياً ، جالساً أو نائماً .. إلخ ، و لن تجد أحداً يرغمك على البقاء وقوفاً مثلاً ، بل فقط ستجد إرشادات لراحة أكبر !!

و لهذا أقول : لا وجود للحرية المطلقة . فالحرية المطلقة تناقض صفة المخلوقيّة في الإنسان . بمعنى لو أنّ الإنسان حرٌّ بشكل مطلق إذن فهو إله ، و ليس مخلوقاً ، إذ كان معنى الحريّة المطلقة هو أن يفعل الفاعل ما يشاء بلا قيود و لا حدود ، و هذا يقتضي أوّلاً مجموعة هائلة و متشابكة من الصفات التي يجب أن يكن متصفّاً بها بشكل لانهائي كالعلم و القدرة و الإرادة و الحكمة . و ما من شك في أنّ هذا مستحيل في حق المخلوق !! و خير برهان على أنّ الإنسان ليس حرّاً حريّة كاملة ، أنّه يعيش في بيئة حتميّات مطلقة لا يمكنه أن يجادل فيها ، مثاله : حتميّة قواعد اللغة التي اختار أن يتحدث بها . حتميّة المناخ البيئي الذي اختار أن يعيش في حدوده . و قس على هذا !!

يبيّن هذا المعنى الضابط التالي :

  • الضابط الخامس : الإنسان مخيّر في الأسباب مجبر على النتائج .

معنى هذا الضابط ، أنّ الله تبارك شأنه في النظام الوجودي الذي أراده ، جعل من معالمه و قوانينه : الأسباب و النتائج ، فكلُّ سبب يؤدي إلى نتيجة معيّنة ، لكن إذا كان الله تعالى هو خالق السبب و النتيجة ، فقد منح الإنسانَ حرّية التحكم في السبب و منعه حريّة التحكم في النتيجة . و هذا مثال هذا الضابط : أنت مخير أن تقف أمام القطار أو ترفض ، لكنك إذا قرّرتَ الوقوف و دهسك القطار ، فأنت مجبر و مرغم على قبول النتيجة و هي : الموت . أنت مخير أن تمارس الجنس في الحلال أو الحرام ، لكنّك أنت مجبر على قبول النتيجة و هي : الحمل . أنت مخير في شرب العصير أو السم ، لكنك إذا اخترت السم ، فأنت مجير على قبول النتيجة و هي : الموت . أنت مُخيّر في الركض أو المشي العادي ، لكنك إذا اخترتَ الركض فأنت مجبرٌ على قبول النتيجة و هي : العرق و التعب .

إذن فالأسباب فعل الإنسان أما النتائج فهي فعل الله تعالى وحده ، إلا ما أعطاه من القدرة في التدخل فيها ، كحبوب منع الحمل مثلاً ، لمنع تحقق النتيجة : الحمل . بل حتّى هذا الهامش الضيّق للتحكم في النتيجة تترتب عليه نتائج تكون أسباباً لنتائج أخرى سلبيّة ، مثل التحكم في الحمل نتج عنه انتشار الزنا ، فنتج عنه شيوع أمراض خبيثة و هشاشة الشخصيّة و تفكك أواصر المجتمع .

 إعطاء الحريّة للإنسان للتحكم في السبب مع منعه من التحكم في النتيجة ، إلا في هامش ضيّق كما قلنا ، هو الذي يضفي على نشاط الإنسان و حياته معناها و قيمتها و مسؤوليّتها .

  • الضابط السادس : التكليفات مرتبطة بالاختيار دون الاضطرار .

معنى هذا الضابط ، أنّ الحق تبارك و تعالى لما كان قد خلق الإنسان للآخرة ، و جعل مصيره فيها « الجنة أو النار » مرتبطاً بمدى قيامه بالمهمّة التي خلقه لأجلها ، مهمة العبوديّة : } وَ مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ { [الذاريات:56] : عقيدة و سلوكاً و تعبّداً و تشريعاً ، و جعل النظام الكوني ثنائيّاً : كليّات قاهرة و جزئيات حرة . في إطار كل هذا ، كان التكليف الشرعي الذي يترتب عليه الحساب عند الله تعالى مرتبطاً بدائرة الاختيار لدى الإنسان دون دائرة الاضطرار . إذ ما يفعله الإنسان مختاراً يكون قد فعله بوعيه و إرادته الكاملة ، و لهذا وجب أن يتحمّل مسؤوليّته و عواقب اختياراته . و أمثلة هذا الضابط كثيرة جدّاً منها : الله تعالى لا يحاسب العبدَ على لونه و جنسه و مكان ميلاد و زمانه ، لأنّ هذه تقع في دائرة الاضطرار أي كانت خارجة نطاق الفعل الإنساني . الله سبحانه يحاسب عبده على عصيانه و شركه و إلحاده و ظلمه و جرائمه ، لأنّ هذه تقع في دائرة الاختيار أي هي داخلة في نطاق الفعل الإنساني ، فكل إنسان يجد من نفسه القدرة على الايمان أو الكفر ، على الاستقامة أو الانحراف ، على محاسن الأخلاق أو مفاسدها .

إذا فهمنا هذه المعطيات ، سنفهم بالضرورة أنّ كل ما يقوله الملاحدة عن وجود الشرور في الحياة ، و بالتّالي يرتبون عليها نفي و إنكار وجود الخالق تبارك و تعالى ، ليس سوى تهافتاً شنيعاً و ثرثرة فارغة . و ذلك أنّ هذه الشرور و الآلام ( كالتشوهات ، الجرائم ، الحروب ) التي يحتج الملاحدة على وجودها ، لم تأت من فراغ ، بل الإنسان تدخل في حدوثها ، أما الإله الخالق فقد سمح بحدوثها فقط ، في إطار طبيعة النظام الكوني الذي خلقه لتحقيق المقاصد العليا التي أرادها . أي إنّنا علميّاً عندما نبحث في أسباب هذه ( الشرور ) سنجد دائما الإنسان هو السبب ، هو الفاعل . أما الإله الخالق فهو فقط سمح بحدوث ذلك كما قلت . المشكلة عند الملاحدة _ و كثير من المؤمنين ينسون ذلك _ أنّهم يعتقدون أنّ الدنيا هي النهاية و الموت هو آخر الرحلة ، فطبيعي للغاية أن تثور ثائرتهم على وجود هذه الشرور ، لكن لو فهموا أنّ الحياة الدنيا محطة في رحلة طويلة و أنّ الموت ليس النهاية ، بل وراءه حياة أخرى سيتحدد مصير الإنسان فيها حسب ما فعل في الدنيا من الخير أو الشر ، لو فهموا هذه الحقيقة البسيطة لكان لهم موقف آخر . و لكن كم للجهل من ضحايا !!

نخلص من هذا البيان المختصر للقول :

لكل عقيدة يعتقدها الإنسان ثمار و نتائج و آثار ، تظهر في طريقة تفكيره ، و طبيعة سلوكيّاته ، و مساراته حياته بعلاقاتها و أهدافها . و القدر بحكم أنّه عقيدة يعتقدها كل النّاس ، مؤمنهم و كافرهم ، بالضرورة يكون لها ثمار و آثار . و لا شك أنّ الفهم الصحيح لهذه العقيدة كما وضح المنهج الإسلامي حقائقها ، يورث المسلمَ نتائج طيّبة و ثماراً يانعة ، نلخصها في التّالي :

  • على مستوى الفكر و العقيدة : إخلاص التوحيد لله تعالى . و ذلك أنّ المسلم يدرك أنّ الله تعالى له السلطان المطلق و الحكم الكامل في الوجود و الحياة و الإنسان . فلا يحدث في حياة الإنسان و جنبات الكون و الحياة شيءٌ خارج قدرة الله تعالى و علمه و هيمنته المطلقة : } وَ مَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ { [التكوير:29] . } أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ { [الحج:70] . و بهذا ينجو المسلم من الوقوع في حمأة الشرك و الكفر ، كما وقع فيه من أعرض عن منهج الله تعالى ممن اعتقد أنّه يكون في الوجود ما لا يريد الله تعالى ، فراراً من نسبة الشرور إليه جل جلاله !!

  • على مستوى النفس و الشعور : وُجدان الراحة و الطمأنينة . و ذلك أنّ المسلم يدرك أنّ الله تعالى يتصف بصفات العلم المطلق و الرحمة الشاملة و الحكمة البالغة و القدرة اللانهائيّة ، و أنّه تبارك و تعالى يحب لعبده المسلم الخير و الرضى و السعادة : } يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ { [البقرة:185] . } لِّيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ { [سبأ:4] . و من ثمَّ يطمئن لكل أقدار الله تعالى ، حتّى و إن كانت على غير هواه ، فهو رابح على الله تعالى في جميع الأحوال : إن أصابته سرّاء شكر فكان خيراً له ، و إن أصابته ضرّاء صبر فكان خيراً له : } لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَ أَنفُسِكُمْ وَ لَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَ إِن تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ { [آل عمران:186] . و بهذا لا ييأس ، و لا يتشاءم ، و لا يسخط ، كما لا يعجب بنفسه ، و لا يغتر ، و لا يتكبر بحوله و قوته و ذكائه، ذلك لعلمه أنّ ما أصابه من شر فبمعصيته لله و هذا عدل الله : } وَ مَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُو عَن كَثِيرٍ { [الشورى:30] ، و ما أصابه من خير فبتوفيق الله و هذا فضل الله : } وَ مَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ { [النحل:53] . بل يجدد علاقته بخالقه و ينطلق في مسارات الحياة و مواجهة تحديّاتها و هو ممتلئ بالحب ، و التفاؤل ، و الإيجابيّة ، و التواضع و الخشوع ، لأنّه يكون موصولاً بالله تعالى و عالم الخلود الجميل ، متحرّراً من سجون الشهوات و ضغوط الأوهام التي يتنفس فيها البُعداء عن الله تعالى .

  • على المستوى السلوك و الممارسة : الاستقامة و اليقظة . و ذلك أنّ المسلم يعلم أنّ كل عمل يأتيه له تأثير معيّن على شخصيّته أوّلاً ، و على مجتمعه ثانيّاً ، و على علاقته بالله ثالثاً . و من هنا يكون حريصاً على الاستقامة في نشاطات حياته كافة على منهج تعاليم الله تعالى . فلا يطلق من الرزق إلا الحلال ، و لا يضع من الأهداف إلا ما ينسجم مع شرع الله تعالى ، و لا يعامل الآخرين الذين تربطه بهم علاقة معيّنة إلا بما حدّد الله تعالى ، لأنّه يعلم أنّ مسؤول ، و سيحاسب على مسؤوليّته عن نفسه ، عن أسرته ، عن كل ما في دائرة سلطته ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ] لا تزول قدما العبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع : عن عمره فيما أفناه , و عن شبابه فيما أبلاه , و عن ماله من أين اكتسبه و فيما أنفقه , و عن علمه ماذا عمل فيه [ . كما يكون يقظاً لنشاطات المجتمع ، فهو مسؤول _ في حدود سلطته _ أن يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر ، أي أن يمارس " النقد الاجتماعي " . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ] إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه ، أوشك أن يعمهم الله بعقابه [ ، و قال الله تعالى عن بني إسرائيل : } لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّ كَانُوا يَعْتَدُونَ . كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ { [المائدة:79] .

و بهذا يكتسب مفهوم القدر في عقل و وجدان الإنسان المسلم قيمته و جماليّته . فلا يتعامل معه بشكل سلبي ، بل بصورة إيجابيّة ، لأنّه يتخذه قوة دافعة له في الحياة ، و هذا هو سرّ قوة المسلم و حيويّته ، كما تجلّى ذلك بأروع صوره و أعمق معانيه في حياة الصحابة و الجيل الأول من المسلمين ، الذين حققوا من النتائج في شتّى المجالات ما أبهر أمم العالم ، قديماً و حديثاً . و لهذا قال بعض الصحابة لما سمعوا أحاديث القدر ، و أنّ كل شيء مكتوب عند الله تعالى ، و أنّ على المسلم أن يعمل ما ينفعه و يورثه رضوان ربّه ، فكلٌّ ميسر لما خُلق له : « ما كنتُ بأشد اجتهاداً منّي الآن » . و الله أعلم .

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين