القدر والأسباب 1-3

 

إذا كان القدَر معناه: أنَّ الله عَلِم الأشياء وأرادها قبل وقوعها، فهي ستقع لا محالة، وَفْق علمه وإرادته، وإلا تخلَّف علمه، وانتقضت إرادته سبحانه؛ فهل يعني ذلك اطِّراح الأسباب، ونبْذ الوسائل الموصلة إلى الغايات والنتائج، فإنَّ ما قدَّره الله كائن نافذ، لا رادَّ لقضائه، ولا معقِّب لحكمه، ولا معارض لقدره؟

فإذا قُدِّر للمريض أن يشفى، وأن تسري في أوصاله العافية، فإنه لا بد سيتحقق له الشفاء، سواء عرض على الطبيب أم لا، وسواء تناول الدواء أم لا!

وإذا قُدِّر للمحارب أن ينتصر، فإنَّ النصر سيأتيه لا محالة، وإن لم يعدَّ العدة ورباط الخيل، وإن قُدِّر له الخذلان والهزيمة، جاءته تجرِّر أذيالها، وإن اتَّخذ العدد والعتاد، وجهَّز السلاح والزاد!

هكذا يتوهم بعض الناس، فيُخيَّل إلـيه أنَّ الإيمـان بالقـدر ينافـي اتِّخـاذ الأسباب ما دامت النتائج مُقدَّرة ومفروغًا منها من قديم.

وخطأ هؤلاء قد جاء لسوء فهمهم لمعنى القدر؛ فقد ظنوا أنَّ الله يقدِّر المُسبَّبات مفصولة عن أسبابها، والنتائج معزولة عن مقدِّماتها، والآثار بغير مؤثراتها، وهو خطأ بين.

فإنَّ الله يقدر المسبَّب والسبب معًا، والنتيجة والمقدِّمة جميعًا، ذلك أنَّ القدر يتعلق بكل حادث في العالم، لا يغيب عنه شيء، ويتعلق بالأشياء على ما تكون عليه، فإذا قَدَّر الله لمريض أن يشفى، لم يقدِّر هذه النتيجة وحدها، بل يقدِّر أنه يذهب إلى طبيب، فيعرض نفسه عليه، فيكتب له دواء يتناوله، فهو يشرب دواء خاصًّا، أو يحتمي من طعام معيَّن، أو يسلك سلوكًا ما، يترتَّب عليه- حسب سنة الله- أن يبرأ من مرضه، ويشفى من عِلته.

وكذلك إذا قدَّر الله لمريض أن يموت، أو لسليم أن يمرض، فإن الله يقدِّر الأمور مقرونة بأسبابها، فإنها كلها داخلة في القدر.

ومن الإنصاف أن نقول: إنَّ هذا الخطأ أو الوهم في معنى القدر، قد وقع فيه بعض الناس منذ عهد الرسول والصحابة، ولكنهم وجدوا من يصحح لهم الفهم ويطرد الوهم، ويردهم إلى الصراط، فقد قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله، أرأيت أدوية نتداوى بها، ورُقى نسترقي بها، وتُقاة نتَّقي بها، هل تردُّ من قدر الله شيئًا؟ فقال: "هي من قدر الله"(1 ).

وما أبلغ هذه الكلمات النبوية: "هي من قدر الله!".

فالمسبَّبات من قدر الله، وأسبابها من قدر الله.

والآثار والنتائج من قدَر الله، والمؤثِّرات والمُقدِّمات الموصلة إليها من قدر الله أيضًا.

ولما كان عمر رضي الله عنه في طريقه إلى الشام، ثم علم بوقوع الطاعون فيه، استشار المسلمين، ثم قرر الرجوع إلى المدينة بمن معه من الصحابة، حتى لا يتعرضوا لوباء الطاعون، فقال أبو عبيدة: أتفرُّ من قدر الله يا أمير المؤمنين؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة! نعم، نفرّ من قدر الله إلى قدر الله.

كره عمر لمثل أبي عبيدة- في جلالته وسابقته- أن يفوته مثل هذا المعنى في فهم القدر، فبيَّن له أن القدر محيط بكلِّ شيء، فالذي يفرُّون منه قدر الله، والذي يفرُّون إليه قدر الله، فالطاعون قدَر من الله، والوقاية منه قدَر من الله كذلك.

ثم ضرب عمر له مثلا فقال: أرأيت إن كانت لك إبل، وكانت أمامك أرض خصبة، وأرض جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ فقال أبو عبيدة: بلى. قال عمر: فذلك كذلك( 2).

إنَّ قدر الله حقٌّ، وقدر الله نافذ، ولكنه ينفذ من خلال السنن التي أقام الله عليها نظام الكون، ومن خلال الأسباب التي خلقها سبحانه وشرعها، ليستقيم عليها أمر الوجود ونظام التكليف، فهذه السنن والأسباب جزء لا يتجزأ من قدر الله الشامل المحيط.

القدر والعمل الصالح:

 ومن فروع الوهم السابق ما دخل على أذهان كثير من الناس: أنَّ الإيمان بالقدر ينافي السَّعيَ في الطاعات وعمل الصَّالحات، فما علمه الله في الأزل، وسبقت به المقادير، وخطَّه القلم في الكتاب المكنون، لا بد أن يحدث، ولا مفرَّ من وقوعه، وإلا انقلب العلم جهلًا.

فإذا كان في علم الله أنَّ زيدًا من الناس من أهل الشقاوة، ومن أصحاب النار؛ فلن يستحيل هذا الشقيُّ إلى سعيد، ويصبح يومًا من أهل الجنَّة.

وإذا كان في سابق العلم الإلهي أنَّ عَمْرًا من الخلق من أهل السعادة، ومن أهل الجنَّة؛ فهو لا محالة من أهلها، ولن يصير يومًا من أهل الشقاوة، ومن أهل النار.

ولهذا قيل: السعيدُ من سعد في بطن أمِّه، والشقيُّ من شقيَ في بطن أمِّه، والسعيدُ لا يشقى، كما أن الشقيَّ لا يسعد، فلا فائدة إذن من العمل وتعب النفس، والقدر نافذ، والمكتوب واقع لا مَحالة.

وهذا يدلُّ على جهل شديد، وضلال بعيد، من وجهين: 

أولًا: أنَّ علم الله سبحانه يتعلَّق بالأشياء على ما هي عليه في الواقع، وكذلك يكتبها ويقدِّرها على ما هي عليه، فإنَّ العلم يطابق المعلوم، وهو سبحانه قد علم وقدَّر أن المكوِّنات تكون بأسبابـها؛ لأن ذلك هـو الواقـع، فمـن زعـم أنَّ الله يعلـم أو يقدِّر النتائج بدون مقدِّماتها، والمسبَّبات بدون أسبابها، فقد قال على الله الباطل.

إنَّ الله يعلم ويكتب في لوحه المحفوظ: أنَّ فلانًا يؤمنُ ويعمل صالحًا، فيدخل الجنَّة مع السعداء، وأنَّ فلانًا يعصي ويفسق، فيدخل النار مع الأشقياء. كما علم وكتب: أنَّ فلانا يتزوَّج فلانة، ويدخل بها، فيأتيه ولد، وأنَّ فلانا يأكل فيشبع، ويشرب فيرتوي، وأنَّ آخر يغرس شجرة، فيجتني منها ثمرة.

فمن قال مِن الناس: إن كان قد سبق لي أني من أهل الجنة، فأنا أدخلـها، ولـو بـلا عمل! كان هذا مناقضًا لما علمه الله وقدره.

ومثال ذلك من يقول: إن كان الله قد قضى لي بولد، فسيأتيني، ولو لم أتزوَّج وأدخل بالمرأة التي قدَّر الله أن تكون أم الولد.

فقائل ذلك لا ريب أنه جاهل أحمق، فإنَّ الله إذا كان قدَّر له أن يرزق بولد، فقد قدَّره بسببه، فانتظار المُسبَّب المُقدَّر المكتوب، بدون السبب المُقدَّر المكتوب معه، لا يكون إلا حُمقًا وضلالًا بعيدًا.

ثانيًا: أنَّ الشيء إذا عُلم وكُتب، وأُخبر عنه بذلك، لا يكفى ذلك في وجوده، ولا يوجب الاستغناء عمَّا به يكون من الأسباب والعلل، التي لا يتمُّ إلا بها، كالفاعل وقدرته ومشيئته وآلاته.

ذلك أن العلم ليس سببًا موجبًا بنفسه لوجود المعلوم، بـل هـو مطابـق لـه علـى ما هو عليه، ولا يُكسبه صفة، ولا يكتسب منه صفة.

والعلم بالمستقبل والخبر عنه، كالعلم بالماضي والخبر عنه، وذلك كعلمنا بالأمور التي كانت قبلنا وإخبارنا عنها، كالموجودات التي كانت قبل وجودنا، كعلمنا بالسماوات والأرض. بل كعلمنا بالله تعالى وأسمائه وصفاته، فإنَّ هذا العلم ليس له تأثير في وجود المعلوم بالإجماع، بل بالضرورة.

وبهذا نتبيَّن: أن القول بأنَّ السعيد لا يشقى، والشقيّ لا يسعد، كلام صحيح، لكن من قدّر الله سعادته، يكون سعيدًا بالأعمال، التي جعلها الله أسباب السعادة وربطـها بـها، والشقيُّ لا يكون شقيًّا إلا بالأعمال التي جعلها الله من أسباب الشقاوة، ومن جملتها الاتِّكال على القدر السابق، وترك العمل الواجب.

وفي الصحيحين- واللفظ للبخاري- عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقعد وقعدنا حوله، ومعه مِخْصَرة، فنكس، فجعل ينكُت مِخْصرته، ثم قال: "ما منكم من أحد، ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب مكانها من الجنة والنار، وإلا قد كُتِبت شقية أو سعيدة". فقال رجل: يا رسول الله، أفلا نتّكل على كتابنا وندع العمل؟ فمن كان منا من أهل السعادة، فيصير إلى عمل أهل السعادة، وأما من كان منا من أهل الشقاوة، فسيصير إلى أهل الشقاوة. قال: "أما أهل السعادة، فيُيَسَّرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فيُيَسّرون إلى عمل أهل الشقاوة". ثم قرأ: [فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى(5) وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى(6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى(7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى(8) وَكَذَّبَ بِالحُسْنَى(9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى(10) ]. {الليل}.

وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: "قيل يا رسول الله، أعُلِم أهل الجنة من أهل النار؟". فقال: "نعم". قيل: ففيمَ يعمل العاملون؟ فقال: "كلٌّ مُيسَّر لما خُلق له"( ). 

وفي بعض روايات البخاري: "كلٌّ يعمل لما خُلق له". أو: "لما يُسِّر له" .

فدلَّت هذه الأحاديث ونظائرها على أنَّ القدر سابق لا يمنع العمل، ولا يوجب الاتِّكال عليه، بل يوجب الجدَّ والاجتهاد؛ ولهذا لما سمع بعض الصحابة ذلك قال: ما أنا أشد اجتهادًا مني الآن( ).

وهذا ممَّا يدلُّ على جلالة فقه الصحابة رضي الله عنهم، فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أخبرهم بالقدر السابق، وجريانه على الخلق بالأسباب، فإنَّ العبد ينال ما قُدِّر له بالسبب الذي أُقْدر عليه، ومُكِّن منه، وهُيِّئ له، فإذا عمل بالسبب، أوصله إلى القدر الذي سبق له في أمِّ الكتاب.

إنَّ المكتوب في القِدَم: هو سعادة السعيد بما يُسِّر له من العمل الصَّالح، وشقاوة الشقيِّ بما يُسِّر له من العمل السيِّئ، ليس المكتوب أحدهما دون الآخر.

فما أُمر به المكلَّف من واجبات، أو ما نُهِيَ عنه من محظورات، هو من الأسباب التي ينال بها السعادة، والمقدَّر المكتوب هو مجموع السعادة والعمل الذي تنال به السعادة.

وإذا ترك المُكلَّف ما أُمر به، مُتَّكِلًا على الكتاب السابق، كان ذلك من المكتوب المُقدَّر الذي يصير به شقيًّا، وكان قوله ذلك بمنزلة من يقول: أنا لا آكل ولا أشرب، فإنَّ الله قدَّر لي الشبع والرِّي، فسأشبع وأرتوي، أو يقول: لا أتزوج ولا أقرب النساء، فإن قدر لي ولد فسيكون!

 

------------

 ( ) رواه أحمد (15472) وقال مخرجوه: إسناده ضعيف على خطأ فيه، والترمذي (2065) وقال: حسن، وابن ماجه (3437)، كلاهما في الطب، وحسنه الألباني في تخريج مشكلة الفقر (11)، عن أبي خزامة.

 ( ) متفق عليه: رواه البخاري في الطب (5729)، ومسلم في السلام (2219).

  - متفق عليه: رواه البخاري في الجنائز (1362) ، ومسلم في القدر (2647).

  - متفق عليه: رواه البخاري في التوحيد (7551) ، ومسلم في القدر (2649).

  - رواه البخاري في القدر (6596).

  - الإبانة لابن بطة (3/156).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين