ثورة السوريين ليست على هويتهم الدينية

 

بدأت تُسمَعُ منذ البدايات الأولى للثورة السورية أصواتٌ مختلفةٌ ظاهرُها تأييد ثورة السوريين في ثورتهم على واقعهم الفاسد، وباطنها دعواتٌ خفية ـ أو جلية ـ للثورة على الشخصية السورية، والانقلاب على ملامح الهوية الدينية لأهل بلاد الشام.

واستغلّت هذه الأصواتُ الاصطفافَ المخزيَ لمؤسسات وهيئاتٍ دينية سورية كبيرة في صفّ النظام السوري، وانجرافَ أعلامٍ بارزين من العلماء والمشايخ في موجة مناوأة الثورة  السورية، وما أدى عقبَ ذلك من نقمة شعبية عليهم.

واستمرت تلكم الأصوات في تسخير ما تيسر لها من المنابر الإعلامية، ووسائل التواصل الاجتماعي، وفُرَص الاحتكاك المباشر مع الشعب السوري في استغلال الواقع الجديد في محاولةٍ حثيثة منها لتغيير ملامح الهوية الدينية السورية، مصوِّرةً هذه الهويةَ وكأنها من نتاج «المنطلقات النظرية لحزب البعث العربي الاشتراكي»، أو أنها من منجزات «الحركة التصحيحية»!

ولا ريب أن كل تُربة يُقتلع ما نبتَ فيها تُصبح مؤهلة لاستنباتِ بدائلَ جديدةٍ، وهذا ما أُريد له أن يكون في التركيبة البنيوية للشعب السوري. 

وفي ظلال ما فرضه تحوّلُ الثورة السورية من ثورة سلمية إلى ثورة مسلحة، وما نتج عن ذلك من حرب ضَروس يشهدها التراب السوري؛ فإن الهوية البديلة عن الهوية الدينية السورية القائمة قد وجدَت نفسَها جاهزةً للحلول محلّ الهوية الأولى، بل دخلت في صراع لم يعد خفياً معها.

والمفارقة المؤلمة أنّ الهوية الجديدة هي ـ في ظاهر الحال ـ هويتان متناقضتان غاية التناقض، إلا أنهما ـ في الحقيقة ـ عُملةٌ يتساوى وجهاها في القيمة؛ برغم التباين الظاهري بين «الطرة والنقش» منها، وهذه الهوية الجديدة هي الجامعةُ بين التطرف والتشدد من جهة، وبين الانحلال والتمييع بدعوى التجديد وتطوير الخطاب الديني ـ الذي ربما يرتع في حمى الإلحاد في بعض صُوره ـ من جهة أُخرى! وكلا وجهَي هذه الهوية الطارئة دخيلٌ على ثقافة السوريين وهويتهم الدينية، ولو حاول كلٌّ من هذين الوجهين أن يتصف بالصفة الشرعية، وطفق يخصف عليه من ورق الجنة.

إن الطرح الفكري والنتاج الأدبي لوجهَي الهوية الوافدة يعجز عن التفريق اللازم بين الممارسات المخطئة والسلوكيات الفاسدة للمنتمين للمدرسة الدينية السورية التقليدية، وبين المبادئ والمفاهيم التي نشأت منها، وقامت عليها، أو هو لا يعجز ولكنه لا يُريد، بل يتعمد الخلط بين هذين الأمرين خلطاً عجيباً غريباً مريباً، مع تنكُّب مدهشٍ عن المنهجية العلمية اللازمة في سلوك المُصلحين، وهي: تقديم مُخرَجات مُحدَّدة يرى الناقدُ نقداً بنّاءً أنها غير سليمة، أو مخطئة، أو فاسدة... ثم يقدِّمُ توصيفاً دقيقاً، وتشخيصاً مفصَّلاً، وعلاجاً حصيفاً ناجعاً.

إن الإصرار على مهاجمة الملامح القائمة الأصيلة للهوية الدينية العريقة برُمّتها، وما يُرى من فتح النار عشوائياً على المفاهيم والمبادئ والثوابت دون التمييز بينها وبين نقد الممارسات والسلوكيات والمؤسسات والعقليات وآليات العمل، مع الابتعاد عن تحديد أشياء سلوكية تكون مدار بحثٍ تتمُّ فيه مناقشةُ هذه الأشياء؛ ذلك كله مما لا يستطيع المرءُ إلا أن يعتبره مظهراً قبيحاً من مظاهر التسلق على ظهر الثورة لأجل الترويج للبضائع المستورَدة!

وإذا أراد الباحث المنصف سلوكَ طريق الإنصاف بهدف الإصلاح فيستطيع ـ مع كثير من التجوُّز والافتراض ـ أن يتخيل القيام بعملية هدم واستئصالٍ لجميع المدارس والجماعات والمؤسسات والشخصيات التي وُجدت خِلالَ حُكم البعث، وأن يعود بتفكيره إلى ما قبل هذه الفترة المشؤومة، ثم لينظرْ ممعناً إلى ملامح الهوية الدينية قبل حكم البعث، وليسأل نفسه بعدها: هل ما يوجهه من سهام النقد هو في نحور الممارسات الفاسدة التي ترعرعت في مستنقع البعث، أم إنها مسددة في مقاتل ملامح الهوية الدينية الشامية العريقة نفسها؟ ثم ليُجبْ على هذا السؤال بإخلاصٍ مع ربه، وصدق مع نفسه.

إنّ هذا التصور «الفجّ» أصلَحُ في إحداث المقاربة المطلوبة لواقع الحال، ومانعٌ من سلوكيات التسلق على الثورة للوصول إلى تسويق مفاهيم دخيلة تهدد الهويتنا الدينية الشامية، ذلك لأن الهوية الشامية إسلامية سنية عريقة ناصعة راسخة، بل هي في طليعة الهويات الإسلامية عبر التاريخ رسوخ قدم، وعمق جذور، وبسوق قامة، ونضارة أغصان، ووفرة ثمار؛ بسبب أن بلاد الشام كانت  عبر الأزل حاضرةَ الإسلام العلمية والسياسية، وأن الهوية الدينية التي تبلورت فيها قرناً بعد قرن لا يُمكن القبول بزعزعتها ومحاولة هدمها لمصلحة فكرٍ هو التربة الخصبة للتيارات المتطرفة، والجماعات الإرهابية، أو لمصلحة فكر مقابلٍ هو البيئة الممهدة لسلخ الناس عن دينهم بالكلية أو بالتدريج. 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين