الجدل العقيم

     لا مراء في أن ثورات الربيع العربي قد أطلقت عقال الأفواه المكممة ردحا من الزمن، ومنحت الشعوب العربية مساحة من حرية التعبير لم تكن تحلم بها من ذي قبل، وكسرت الحواجز الوهمية المصنوعة بين العامة والخاصة، أو بين الدهماء والقيادة. 

     كل ذلك، وغيره أضحى بارزاً للعيان، بيّناً لا تخطئه عين ولا أذن، وهو بلا شك منجز عظيم، لا يمكن لأحد تقزيمه أو التهوين من شأنه، وقد دفعت الشعوب من أجل الوصول إليه دماء زكية، وقدمت أرواحا بريئة. 

    ولكن، وفي غمرة هذا الإنجاز العظيم، تسلل إلينا مرض اجتماعي خطير، بدأت تظهر بوادره في دول الربيع العربي، وفي سائر الدول العربية الأخرى، ذلك هو المراء والجدل في كل شيء، وعلى كل شيء، وحول كل شيء. 

    فمن الواضح أنه قد صاحبَ هذه الثورات هرج ومرج بين مؤيد ومعارض، تحول فيما بعد إلى مادة ثرة للحوار والنقاش، فالجدل والمراء، فالخصومة والفجور. 

    ومما زاد الطين بلة في الثورة السورية بالذات طول المدة، وتعدد التيارات والجماعات والأهواء، وتمَتْرس كل فريق وراء رؤاهم وانتماءاتهم وإيديولوجياتهم. 

     وقد يقول قائل: إن ذلك فرْز طبَعي إبّان طفولة الأمم وتكونها، وأثناء التحولات الضخمة التي تمر بها الشعوب والمجتمعات. أقول: نعم، قد يحدث ذلك وأكثر، ولكنْ أنْ ينفلت الأمر ليتجاوز الحدود المعقولة من أبسط قواعد الحوار والجدل، فعند ذلك يغدو مرضا ينخر في جسم المجتمع الضعيف، ويمزق ما تبقى من لحمته المهترئة، وينذر بخطر داهم، ويؤسس لمستقبل مظلم، لا يكون فيه الحوار مجرد كلمات فحسب. 

      إن أخطر ما في الأمر هو تداخل الاختصاصات، واعتمار العامي عمامة الشيخ، وحمْل الطباخ سمّاعة الطبيب، ورفع المقاتل مطرقة القاضي، ولبس المحامي ثوب الصيدلاني، وامتشاق القصّاب مشرط الجرّاح. هذا التداخل العجيب لا يمزق المجتمع فحسب، بل ينقض العلاقات المبنية بإحكام بين الأفراد والمؤسسات، ويؤسس لخلاف دائم، وانشطار مستمر، وهوّة واسعة بين أبناء المجتمع الواحد. وفي ظل أجواء مسممة كهذه الأجواء ينمو الجدل العقيم،  وحوار الطرشان، وينتشر التجريم والتخوين والتكفير، وعندها ستندحر الكلمات، ويتوقف الحوار الراقي، ويصبح الرصاص آنئذ هو اللغة الفضلى للتفاهم بين الناس.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين