مذاق العبادة في أيام المِحَن

 

إنّ العبادة الحَقَّة، تلكُمُ التي تحمل بين ثناياها صدقَ التوجه إلى الله تبارك وتعالى، حيث تَهيمُ الروحُ في معارج الحب، وتتخلص الذات الإنسانية من ضجيج المادة وصخَب الدنيا، فتعود إلى كينونتها اللدُنِّيَّة النقية من الشوائب، والصافية من العوالق، والخالصة في وَجدِهَا، والهائمةِ في سعادتها، حيث لا تحجبُها سدود، ولا تعوقها حدود، تنطلق مُسَبِّحَةً الخالق العظيم، الكريم الرحيم، اللطيف الودود، ذا العرش المجيد، أليست هذه العبادة عبادة نبي الله داوود عليهالسلام ؟حين انطلق في ترانيمه الخاشعة، بصوته الشجي، يرتل مزاميره، ففاضت على الكائنات من حوله فشاركته هيامه، وسبَّحت معه، وأضحى الكونُ كله ترنيمة شجية، انزاحت من خلالها الحواجز الصلبة، وانساحت معاني العبودية النقية، ولقد وصف القرآن الكريم عبادة داوود عليه السلام حيث قال تعالى: 

(وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [سبأ: 10-11]

وقال تعالى:

(وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ * وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ) [ص: 17 - 20].

 

ولعل مَلمَحًا هامًا يجب الانتباه إليه، ألا وهو الحذر من انحصار الأذهان في الطقوس، وانحباسها في الأشكال، رغم أن الشكل في العبادة واجبٌ لا بد منه، لكن الاقتصار عليه معزولا عن تلكم النفحات، بعيدا عن هاتيكُمُ الإشراقات.. يعزلُهُ عن إدراك شفافية اللقاء، ويحجبه عن تذوق طعم الإيمان، (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَ?كِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى? مِنْكُمْ) [الحج: 37].

 

فحقيقٌ بنا في أيام المحن، أن نعيد لعباداتنا مذاقَهَا، ولصلواتنا ترنيماتها، ولسجودنا وركوعنا هيامه، نستمد من هذا الرحيق الطاهر مددا ربانيا، وعطاءا رحمانيا، وإرادة إيمانية، نكسر بذلك حواجز القلق، ونبدد سحُب اليأس، ونغرس روح الأمل، ونخطط لإتقان العمل، راجين نصرًا مؤزرًا وفرجا قريبا، (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ? إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ? قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) [الطلاق: 3].

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين