الولاء والبراء ,, عن المفهوم ,, عن الاستدلال ,, عن التبعات

 

لاحظت أن إحدى المدارس الاسلامية المعاصرة يتمحور كل خطابها حول مقولات : الولاء للمؤمنين والتبرؤ من الكافرين ( وهي مقولة حق لكن المشكلة في اسقاطاتها والغلو فيها) ربما يريدون به إعلان الحرب على كل خصومهم مستفيدين من أوضاع الأمة المؤلمة وكون هذا يناسب ما هو متجذر في طبع كل من عنده حماس ثوري سواء أكان مسلما أم ملحدا !! . 

ولأكثر ما آلمني أني رأيت بعضهم لا يحفظ إلا قوله تعالى :

(( قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنّا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده ..)) .

وأحياناً كثيرة يحفظها لوحدها دون بقية السورة : سورة الممتحنة  !!! 

العجيب في الموضوع هو منهج الاستدلال الخاطئ , لأنه لابد من أن يفسر القرآن بعضه بعضاً كما هو معروف في قواعد تفسير النصوص , فقوم نبي الله ابراهيم أعلنوا عليه الحرب صراحة , ولم يتركوا له أي مجال آخر بدليل قوله تعالى :

(( قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ .. )) الأنبياء : 62 .

وإذا عدنا لآية الممتحنة نجد أن السياق يوضح المقصود , حيث أتى بعدها قوله تعالى : (( عسى اللهُ أن يجعلَ بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودةً والله قديرٌ.. )) و ( عسى ) في القرآن غالباً ما ترد للتحقيق وليس للترجي وهنا حكمة دعوية كبيرة لها فوائد , ثم مباشرةً يأتي قوله تعالى : 

(( لا ينهاكمُ اللهُ عن الذين لم يقاتِلُوكُم في الدين ولم يُخرِجُوكُم من ديارِكُم أن تَبَرُّوهُم وتُقسِطُوا إليهم إنّ اللهَ يحبُّ المقسطين )) .

وكلمة ( البِر ) بهذا المعنى ذُكرت في القرآن هنا وللوالدين .. 

وبعد ذلك يحدد سبحانه في نفس السورة من هو " العدو " بقوله : 

((إنما ينهاكم اللهُ عن الذين قاتَلُوكُم في الدين وأخرَجُوكُم من ديارِكُم وظَاهرُوا على إخرَاجِكُم أن توَلَّوهُم ومن يَتَوَلَّهم فأولئك همُ الظالمون )) .

إذا لابد من ربط النص بسياقه وموضوعه ، ولا يجوز اقتطاع نص من هنا ومن هناك لتكوين حكم شرعي يناسب طباعنا الشخصية الحادة !!

 

وهنا أجد من المناسب ذكر حديث البخاري الذي أخرجه تحت عنوان : ( بَابُ إِذَا وَكَّلَ المُسْلِمُ حَرْبِيًّا فِي دَارِ الحَرْبِ، أَوْ فِي دَارِ الإِسْلاَمِ جَازَ ) والتي تذكر كيف قدّر بعضُ سلفنا الصالح " المصلحة " وكيف فهم معنى (الولاء والبراء ) .. 

تقول الرواية: ( سأشرحها بالمعنى لأجل السهولة ) إنّ عبد الرحمن بن عوف ( وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة ومن السابقين الأولين – وهذه نقطة مهمة - ) بعد أن ترك مكة مهاجراً خاف على أمواله فيها , لذا كاتب أُمية بن خلف (رأس الكفر , أي لم يكن كافراً عادياً هو وشأنه ، إنما من أكبر أعداء الاسلام وقد استمات في فجوره ضد الدعوة منذ نشأتها ) على أن يحمي أمواله في مكة مقابل حماية مصالح أُمية في المدينة .. 

وأثناء كتابة العقد ذكر اسمه الذي سماه إياه النبي عليه السلام: (عبد الرحمن ) فقال أمية : لا أعرف (الرحمن )، كاتبني باسمك الذي كان في الجاهلية ، فاستجاب وكتب (عبد عمرو )...

وفي أثناء غزوة بدر خشي عبد الرحمن بن عوف على حياة أمية بن خلف لأنه إذا قُتل ضاعت أمواله .. فقام في الليل يبحث عنه لكي يحميه ، فأبصر بلالُ رضي الله عنه أميةَ (وكان قد عذبه سابقاً ) فصاح في الأنصار :

" أمية بن خلف لا نجوت إن نجا .." فلحقوا به ، هنا قام عبدُ الرحمن بتهريب أميةَ بعيداً وأشغلهم بابن الأخير ريثما يبتعدا , إلا أنهم قتلوه ثم أكملوا اللحاق بهما ، وعندما وصلوا إليهما قال عبد الرحمن لأمية :

" أُبرك على الأرض " ( وكان سميناً ), ثم ألقى نفسه عليه ليمنعهم من قتله ، إلا أنهم تحللوه بالسيوف من تحته، فقتلوه مما أدى إلى إصابة سيدنا عبد الرحمن بجروح، وكان يُريها لتلامذته فيما بعد أثناء روايته للحادثة .

وفي رواية أخرى ذكرها ابن القيم في " زاد المعاد " يقول فيها عبد الرحمن لأتباعه : 

" يرحم اللهُ بلالًاً، ذهبت أدراعي ، وفجعني بأسيري " .

 

بمثل هذا مضافا مع الموقف الشهير للصحابي الجليل حاطب بن أبي بلتعة عندما راسل المشركين يخبرهم ببعض أسرار الدعوة مقابل مصلحة شخصية , فتجاوز عنه النبي عليه السلام (( وقد أصل موقفه بشكل رصين الإمام الشافعي في كتابه " الأم " تحت فصل : [الْمُسْلِمُ يَدُلُّ الْمُشْرِكِينَ عَلَى عَوْرَةِ الْمُسْلِمِينَ] )) يتبين أن في السياسة الشرعية مجالا تقدر فيه المصلحة في ( إظهار العداوة ) مع أناس دون أناس أخرين , مع وجود العداوة القلبية ..

فالشرع أجاز لنا أعمالا (ظاهرية) من بر وقسط مع من ( لم يقاتلنا في الدين .. ) وفي نفس الوقت حـرَّم علينا أن (نوده بقلوبنا ) خاصة إذا كان ( محادا لله ورسوله ) , وهكذا لتجتمع (عدم مودة) قلب مع ( مودة ) عمل .. 

مع التنبيه أن أحيانا حتى المودة القلبية تظهر كحال الزوج المسلم مع زوجته الكتابية ..

 

الموضوع طويل , إلا أن هناك مسألة مهمة وهي أنه غالبا ما يكون مصطلح ( الولاء والبراء ) تعبيرا عن موقف سياسي رافض إنما بصبغة عقائدية !! , ولعل هذا ما يفسر موقف بعض علماء الدعوة النجدية ( الذين أكثر من أصّل هذا المفهوم وقد اعتمد المعاصرون على تراثهم ! ) من الدولة العثمانية في معرض الصراع بين الطرفين كالمثال الذي تذكره الموسوعة التاريخية عن الجزيرة العربية ذي الثماني مجلدات : "تذكرة أولي النهى و العرفان بأيام الله الواحد الديان وذكر حوادث الزمان" حين قال شخص في أحد مساجد نجد بأن الدولة العثمانية قد ارتفعت، وأعلامها انتصرت، وجعل يثني عليها .. فقام الشيخ عبد الله بن محمد بن سليم ، وتكلم بموعظة بليغة وجعل يذم العثمانيين، ويذم من أحبهم ومن يثني عليهم حتى قال : 

" على من قال تلك المقولة التوبة والندم، وأي دين لمن أحب الكفار وسرّ بعزهم وتقدمهم ؟! فإذا لم ينتسب المسلم إلى المسلمين فإلى من ينتسب ؟! " . انتهى .

وفي نفس العصر ألف الشيخ حمد بن عتيق (توفي حوالي 1881 م ) كتابا بعنوان : ( سبيل النجاة والفكاك من موالاة المرتدين والأتراك ), مذكورا فيه : 

" .. (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ )) وكذلك من تولى الترك فهو تركي " . انتهى .

بالمناسبة لمعرفة المعنى الصحيح لهذه الآية - التي جعل أخرها موقع (منبر التوحيد والجهاد ) عام 2005 شعارا له مما أدى لاستباحة الدماء الغزيرة في العراق - فليُنظر تفسير ومجلة " المنار " كلاهما للسيد السلفي محمد رشيد رضا ، وأشدد على كلمة ( السلفي ) لأن مقبل الوادعي – من الطرف الآخر ! - ينفيها عنه كعادة مدرسته !  

أخيراً أنصح بالاطلاع على أبحاث  د.عبد العزيز الحميدي، رئيس قسم العقيدة في جامعة أم القرى ، فهي قيمة في هذا الموضوع .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين