قضية المرأة -1-

 

 

-1-

لم تتعرَّض نصوص الإسلام وشرائعه للزراية والتحريف والتهجُّم الحاقد في قضية من القضايا كما تعرَّضت في هذه القضية.

والمرأة – كما لا ينكر أحد من العقلاء – ذات رسالة سامية في الحياة لها مكانتها في نفوس الرجال، ولها احترامها وتقديرها، أماً، وزوجاً، وأختاً، وبنتاً.

ولئن كانت القوانين الوضعيَّة في مختلف العصور، والأمم عُنيت بالنص على ما ينبغي أن تعامل به المرأة، من البرِّ، والإكرام، والتقدير، والاحترام، وعنيت بإعطائها حقها وتمكينها من أداء رسالتها، فإنَّ الشرائع السماوية قد عنيت بكل ذلك على أتمِّ وجه وأعدله.

والإسلام – بخاصة – من بين هذه الشرائع بلغ في ذلك ما لم تبلغه شريعة سماوية ولا قانون وضعي.

وآية واحدة في كتاب الله تعالى تُبيِّن المدى الواسع، والمُنْزَل الكريم الذي وضع الله فيه بنات حواء، وتشير – مع إيجازها – إلى غاية ما تطمح إليه كل امرأة عاقلة مؤمنة بربها، خبيرة برسالتها، بصيرة بما يضرُّها وبما ينفعها، تلك هي قوله تعالى: [وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ] {البقرة:228}.

وكما نهج القرآن الكريم لأتباعه طريقة سمحة كريمة في مُعاملة المرأة كان الرسول صلى الله عليه وسلم يكثر من الوصاة بالنساء خيراً، حتى روي أنَّ آخر ما أوصى به صلى الله عليه وسلم، ثلاث كان يتكلَّم بهن حتى لجلج لسانُه، وخفي كلامه، وهو يحتضر، وهذه الثلاثة هي: الصلاة، والرقيق، والنساء، وقد بدأ وصيَّته بالنساء بقوله: (اللهَ اللهَ في النساء) وهو أسلوب يشعر بمدى اهتمامه عليه السلام بهذه الوصيَّة.

عرض الإسلام لكلِّ شأن من شؤون النساء في قضايا كليَّة واضحة، ومسائل جُزئيَّة واضحة أيضاً، فجاء في القرآن الكريم وفي السنَّة النبويَّة المطهرة نصوص تبيِّن ما للمرأة، وما عليها.

كل ذلك حق، ولكن فريقاً من المنحرفين والمنحرفات، يتنكَّرون لنصوص الإسلام، أو يحاولون التخلُّصَ منها، أو تحريفَها حين يخوضون في هذه القضيَّة.

فمنذ ما يقرب من عشرين عاماً بلغت الجرأة بعالم أزهري يطرح الدين بعيداً عن قضية المرأة، فأرسلها دون وعي أو استحياء، إنَّه (ليستحي أن يقحم الدين في مسألة نفض يده منها!) هكذا جاء على لسان أحد الكُتَّاب، وما نظنُّ إلا أنه نادم الآن على كل ما قاله.

الدين نفض يده من قضيَّة المرأة، كأنَّ الإسلام أنزل للرجال دون النساء، وكأنه – كبعض النظم الوضعيَّة الفاسدة – لا يعترف للمرأة بوجود في هذه الحياة، وهذا شرُّ ما يرمى به نظام من النظم سواء كان من وضع البشر، أو من وضع السماء، فكيف نتَّهم به الإسلام، وهو الدين الخالد الذي جاء من العليم الخبير، الحكم العدل؟!.

وهذا المؤلف الذي استحى أن يقحم الدين في قضية المرأة – بادئ ذي بدء - عاد فتمسَّح بالدين في آخر الحديث، فقال: على أنَّ هناك حجَّة حاسمة تغنينا عن كل حُجَّة ودليل، هي ذلك التفويض المطلق الذي منحه الدين للناس حين قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أنتم أعلم بشؤون دنياكم) [أخرجه مسلم وغيره]، أليست هذه الحقوق السياسيَّة من شؤون الدنيا!.

وعجيب أمر هؤلاء الذين يفسِّرون الإسلام بأهوائهم كلما واجههم قائل في شأن من الشؤون بنصوص تضيق بها صدورهم، فيلجأون إلى هذا الحديث: أنتم أعلم بشؤون دنياكم، وهم يعرفون - إن أحسنا الظنَّ بهم – المناسبة التي قيل فيها الحديث، والمدى الذي لا يمكن أن يتعدَّاه ما يشير إليه ولكنهم يجهلون، أو يتجاهلون.

حقوق المرأة السياسيَّة من شؤون الدنيا ! كأنَّ المرأة حين تمارس هذه الحقوق تمارسها في مَعْزِل عن المجتمع، وتقوم بها بعيداً عن الرجال، وكأنَّ الإسلام لم يحدَّ لظهور المرأة بين الرجال حدوداً، ولم يضع لتصرفاتها ووظيفتها في الحياة تعاليم، وشرائع، وكأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقلْ في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري: (لن يُفلحَ قومٌ ولَّوا أمورهم امرأة)، وكأنَّه لم يقل: (إذا وُسِّد الأمرُ إلى غير أهله فانتظر الساعة) [أخرجه البخاري]. 

ولكن المؤلف لا يعترف إلا (بالتطوُّر) فكل ما وصلت إليه المرأة استجابةً لقانون التطور، من نحو السفور المعيب، والاختلاط المريب هو – عند المؤلف – (الفضيلة) فهو يقول: (ليس هناك إثم أشد ولا خطيئة أفحش من مُقاومة التطور) وهكذا بدون قيد ولا شرط، فلا بأس أن يكون التطوُّر إلى أسوأ، وأن يكون مجافياً للتعاليم الإسلامية وللفضائل الإسلامية.

هذا في الحقيقة – أنموذج فقط للانحراف في هذه القضية، وإنما عُنينا بهذا الأنموذج – على قدمه نوعاً – لندلَّ على المدى الذي بلغه الكائدون للإسلام من بلبلة الأفكار، وإشاعة الشكِّ في نصوص الدين، فالمؤلف عَالم، ومُتخرِّج من الأزهر الشريف، فإذا صدر منه مثل هذا القول كان من الخطورة بمكان.

ولا أظن أنَّه يذهب عن أكثر هؤلاء المشرِّعين فيما يتعلق بالأحوال الشخصية أنَّ جماهير المسلمين تنفر من كل حكم يضعف مُستنده من الدين.

إني أَعُدُّ قانون الأحوال الشخصيَّة الذي تعمل به المحاكم الآن قانوناً ميتاً في ضمائر المسلمين، ولطالما استفتاني رجال، وكان كل منهم يطلب إلي مع توجيه سؤاله ألا أفتيه بما تسير عليه المحاكم الشرعية الآن، فقلبه لا يطمئنُّ به، وقليل من الناس من يتقبل هذه الأحكام ربما للضرورة القصوى، وربما لأنه يستهين بعامَّة أحكام الدين.

إنَّ مسألة كمسألة الطلاق ينبغي أن نلتزم فيها رأيَ جمهور الفقهاء، فإنَّ ذلك أصون للعلاقة الزوجيَّة، وأنظف لها في ضمير الرجل والمرأة على السواء، ولقد رأيت من النساء من استبدَّ بها القلق على حياتها الزوجيَّة الطاهرة؛ لأنَّ زوجها يُعاشرها بعد طلاق استند في الخلاص منه إلى رأي ضعيف من آراء بعض الفقهاء.

ثم نرى الخَلْط والخبط، والانحراف، والجرأة، والضلال، والسفه.

فهذا مُستشار يعجب لماذا لا تأخذ المرأةُ في الميراث نصيباً كنصيب الرجل، وينادي بذلك ويدعو إليه وهو بطبيعة عمله – يعرف تمام المعرفة النصَّ الواضح الصريح الذي جاء في القرآن الكريم خاصاً بهذا الحكم، كأنه يقول لنا: لا داعي للتمسُّك بنصوص القرآن.

ولا بأس عليه فقد سمعنا عالماً كبيراً يذيع على الناس: إنَّه من حقِّنا أن نهمل النص إذا اقتضت المصلحة إهماله!.

وهذا عالمٌ يرى أنَّ ضربَ الرجلِ امرأتَه للتأديب (وحشيَّة) وينسى أو يَتَناسى أنَّ القرآن الكريم جعل هذه العقوبة إحدى الوسائل لإصلاح المرأة في نَصٍّ لا يحتمل التأويل.

وكاتب يرى أنَّ قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في النساء أنهنَّ (ناقصات عقل ودين) [متفق عليه] من الأقوال (البشعة)!.

وكاتبة ترى أنَّ القرآن لم يفسَّر إلى الآن بمعانيه الحقيقيَّة وينبغي أن ينشط علماء العصر، وأن يفسروه بهذه المعاني حتى تأخذ المرأة كلَّ حقوقها.

وكاتبة أخرى ترى وجوب المساواة التامَّة بين الرجل والمرأة، فإذا قيل لها: إنَّ الطبيعة والنصوص الدينية تأبى كلها هذه المساواة فالله سبحانه وتعالى يقول: [وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ] {البقرة:228}. ويقول: [الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ] {النساء:34}، أجابت بأنَّ (الميثاق) كفل للمرأة هذه المساواة، ونسيت أنَّ (الميثاق) قرَّر بعد مبدأ المساواة، كما قرَّره الإسلام، وأنَّه ما كان للميثاق، وهو عمل حكومة مُسلمة لأمَّة مسلمة، أن يخرج عن أصول الدين.

والحق أنَّ الكاتبات المتطرِّفات يسئنَ إلى الميثاق بمثل هذا المنطق حين يدَّعين أنَّه أعطى لهنَّ ما لم يعطه الإسلام، والميثاق بريء مما يَهْرِفن.

فهل الميثاق أعطى للمرأة حق أن تطلق زوجها متى أرادت؟، وهل الميثاق أعطى لها حق أن تتزوج من اثنين في آن واحد؟ وهل الميثاق فرض عليها أن تقوم بنفقة زوجها وأولادها؟.

إنَّ عيب الكاتبات المتطرِّفات عندنا – مع جهلهنَّ بأحكام الدين – أنهنَّ لا يتورَّعن أن يطوعنَ لرغباتهنَّ كل القوانين وكل النظم، وينسين المدى الذي يستطعن أن يَتَساوين فيه مع الرجال لتصلح حياة الأسرة، وحياة المجتمع.

ونعود إلى قصَّة (ضرب المرأة) ذلك أنَّ امرأة ضربها زوجها، ورُفع الأمر إلى القضاء فأدانها القاضي قائلاً: إنَّ للزوج حقاً في تأديب زوجته جسمانياً وضربها، فثار أحد الكُتَّاب لذلك، واعتبره مظهراً من (مظاهر إهدار حقوق المرأة، والتفنُّن في ظلمها)، وإنَّ المرأة (لذلك تريد أن تمارس حقَّها السياسي لترفع الإصر والأغلال التي عليها وتقضي على الفوارق الظالمة، المتعسِّفة)!.

وإذن، فمن حق المرأة – عند هذا الكاتب وأمثاله، ومثيلاته – أن تؤدِّب زوجها بالهَجْر والضرب، حتى لا تكون هناك فوارق ظالمة مُتعسِّفة، ونسي الكاتب أو تناسى أنَّ القاضي الفاضل إنما استمدَّ حكمه من قول الله تعالى: [وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي المَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا] {النساء:34}.

ولو تأمل المجاملون للمرأة، و(المتملِّقون) لها و(الواقعون تحت سلطانها) هذه الآية جيداً، ثم نظروا في نصوص الشريعة لرأوا أنَّ هذا (الضرب) لابدَّ منه في بعض الحالات، وأنه يكون في أضيق الحدود.

فالآية الكريمة بُدئت بأمر يخشى منه على كيان الأسرة، وهو (النشوز) من المرأة طبعاً، ثم ذكرت لهذا الداء الوبيل ألواناً من العلاج، لا يلجأ إلى ثانيها إلا بعد إخفاق أولها، فالوعظ، ثم الهجر في المضجع، ثم الضرب، وقد فسَّره العلماء بالضرب الخفيف، ثم لم يقف النص عند هذا الحد، بل نهى الرجال أن يكون لهم سبيل إلى إيذاء النساء متى أطَعْنَهم، وعدلنَ عن هذا النشوز الذي يُهدِّد حياة الأسرة، ثم ذكَّر الرجال بأنَّ الله عليٌّ كبير، فإذا كان منهم من يخدعه سلطانه وقوامته على بيته، ويظنُّ في نفسه العلو، والاستكبار فليتذكَّر أنَّ الله أعلى وأكبر وأنَّه مُحاسب إذا بغى وتجبَّر.

على أنَّ الضرب لم يشرع إلا في حالات خاصَّة، ولنوع خاص من النساء، وقد بيَّن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أنَّ الضرب أمر توجبه الضرورة، وأنَّ على الإنسان أن يَتَفاداه ما استطاع، فإذا لم يجد حيلة للإصلاح إلا الضرب فلا حيلة إلا اللجوء إليه.

وينبغي أن يعترفَ أنصارُ المرأة، بل المتطرِّفات من المناديات بمساواة المرأة للرجل بحقيقة مُشاهدة ملموسة، وهي أنَّ من النساء من لا يصلحها إلا الضرب، ولولا خوفها من بطش زوجها لفسدت، وأفسدت وإنَّ الإسلام لو حظر على الرجل هذا الحق لتعذَّر على ربِّ الأسرة أن يقوم حقاً على بيته.

على أنَّ المؤسف، أن هذا الأمر ليس خاصاً بالجاهلات أو الساكنات في أجواف الصحارى، وعلى قمم الجبال، بل أن من النساء المتعلمات المتحضرات من لا يقيمها على الجادة، إلا الخوف من رجلها. 

وصدق الله العظيم، ورَغِمت أنوفُ المكابرين والمكابرات، والمنحرفين والمنحرفات.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (كتاب تيارات مُنحرفة في التفكير، ص: 70).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين