النص النبوي ثابت مكين -1-

 

لم تخلُ الأحاديث النبويَّة الكريمة من شبهات ظالمة تحيق بها بين الحين والحين إذ يرجف بها قوم لم يبلغوا من أصالة العلم حداً يقف بهم موقف المطمئنّ الواثق، فيُسرعون إلى تسطير ما تهجس به نفوسهم دون تَريُّث، ولكن الراسخين في العلم من ذوي البصر الثاقب بتاريخ الحديث والمحدِّثين كانوا ولا يزالون يؤدُّون حقَّ الله تعالى في تحميص الحقائق، وإزالة الأراجيف، فما يهتف شاكٍ بقول مخطئ حتى تجد السنة المطهَّرة أنصارها، الغُيَّر من قوم علموا الحقَّ فأذاعوه ورأوه الباطل فناوَءوه. 

ومن الطبيعي في تاريخ العلم أن تنشأ بعض الشكوك حول بعض مُقرَّراته، وهي مما لا تَضيق بها صدور قوم يعلمون أنَّ الشك طريق اليقين، وأنَّ من حقِّ المتشكك أن يُفصح عن خباياه ليجد الدواء الناجع في شفائه، فإذا عرف الحقيقة وأشاح عنها مُتعَسِّفاً غير منصف، فلا علينا منه، وحسب المنصفين أن يطمئنوا إلى مُعتقدهم الصحيح!.

وقد كان الخوارجُ وبعضُ غلاة الرافضة ممن أباحوا لأنفسهم تجريح بعض الصحابة، ووراء ذلك تجريح ما يَرْوونه من بعض الأحاديث، ثم قام بعض رؤوس الاعتزال يجاهرون بالشك في حُجِّيَّة السنة بأدلة يَرونها موضع السداد والتوفيق، ولكن الله قد قيَّض للسنة من يدحض أدلة الاعتزال حيث فسح الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في (الأم) مجالاً واسعاً لعرض آراء الناقدين والإتيان على بُنيانها من القواعد، وقد سبق ذلك مساق الجدل في حوار هادف يردُّ الحقَّ إلى نصابه. 

ثم مضت العصور وما تزال حجج الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في أدلتها الملزمة وإفحامها الملجم موضعَ القبول والإعجاب ممن لا يَعتقدون الرأي عن هوى مريب.

أما ما افتراه الزنادقة والملاحدة حول السنة المطهَّرة فما أسرع أن تَبدَّد ظلامُه في ضياء الحقائق، وكان صدوره عن ذوي الرِّيَب مدعاةً للنفور منه بادئ ذي بدء، إذ هناك فرق بعيد بين أن يرجف بالسنة مُعتزلي شبه عليه وجه الحق وهو بعدُ صادقُ السريرة عظيم الإخلاص، جهير الحجَّة، وبين أن يرجف بها زنديق يُلحد في آيات الله ويتعمَّد مواطن الريب، لينسج من وهيها المتآكل ستاراً يضلُّ البصائر الكليلة، ويُرضي النفوس العَليلة، لذلك كانت الأسماع تَنأى عن مُفتريات الزنادقة الكاذبة عن الحديث وغيره من أصول التشريع وإن كان ذلك لم يمنع علماء الإسلام من تفنيد شبهاتهم الواهية من أقرب طريق!.

وإذا كان لكل عصر شكوكه وأوهامه فإنَّ المعركة لا تَزال قائمة، إذ دلف إلى الميدان فريقٌ من المستشرقين تسلَّحوا بسعة الاطلاع، وادَّعَوا أصالةَ المنهج في التبويب والتحرير، وعكفوا على المخطوطات المجفوَّة يَنشرون مُهْمَلَها، ويُفسِّرون نصوصها، ثم خَدعوا بعض الناس لدينا، وأكثرهم قد تتلمذ عليهم في بلادهم، ولم تكن لديه دراية إسلامية بصيرة قبل الاتصال بهم، فحين قرأ بحوثهم المغرضة وقَرَ في فهمه أنَّها آية الآيات في سلامة المنهج وصحَّة الاستقراء ودقَّة الاستنباط، ثم وفد إلينا مع رفاقه ليبشروا بآراء أساتذتهم وفيهم من أصاخ إلى الحقِّ من علمائنا بعد النقاش والتصويب فبان لديه الزيف، ومن مضى في غلوائه، فظلَّ يُردِّد ما نقل، ثم ترجمت إلينا نصوص هؤلاء، فقرأ طلاب العلم دوائر مَعَارفهم الإسلاميَّة، ونصوص مؤلفاتهم الدينيَّة، وقد مَزجت السمَّ بالدَّسَم، فكان واجباً أن تنشب المعركة من جديد، لاسيما أنَّ الأحاديث النبويَّة قد ظفرت من افتراء الاستشراق بأوفى نصيب.

وإذا كانت دائرة المعارف الإسلامية قد تُرجمت إلى العربية تحت عناية وزارتي التربية والثقافية، فأتيح لها أن تصل إلى كل مكتبة عربية في المدارس والكليات والمجامع العلميَّة فإنَّ مما يفاجأ القارئ أن يجدَ بها في مادة الحديث هذه الأسطر المريبة:

(لا يمكن أن تعدَّ الكثرة الغالبة من الأحاديث وصفاً تاريخياً صحيحاً لسنة النبي، بل هي على عكس ذلك تُمثِّل آراء اعتنقها بعض أصحاب النفوذ في القرون الأولى بعد وفاة محمد ونسبت إليه فقط)!.

والحق أنَّ سياسة الاستشراق التبشيريَّة كانت من البراعة بحيث استطاعت أن تخفى نياتها المَرَضيَّة في هذه الناحية الهامة مُتذرِّعة بما يُوجد في بعض الكتب الدينيَّة من الأحاديث الموضوعة.

فاستقت منها مادَّتَها الخصبة للدلالة على ما تزعم، مُتطرِّقة من بابها الهين إلى الطعن في جُلِّ ما ورد، مع أنَّ المبتدئين في علم السنة يعرفون أنَّ أئمة الحديث قد أسهبوا القول في الموضوعات من الأحاديث ولم يتركوا أثراً نبوياً إلا حكموا عليه وأبانوا درجته، وتعرَّفوا سلسلة رواته وحقيقة مَتْنِه ثم بحثوا عن الوضع الكاذب ومتى بدأ؟ 

أبدأ في عهد الخلافة الراشدة أم في عهد الأمويين ومن وليهم؟ ثم ما مبررات هذا الاختلاق أهي الخلافات السياسية بين الأمويَّة والخوارج والشيعة إذ يَنتصر كل فريق بما يروج من المفتريات، أم الزندقة المتأصِّلة في نفوس قوم آمنت ألسنتهم وكفرت قلوبهم فهبوا يهدمون الإسلام، أو يحاولون بما يختلقون من أكاذيب تُنسب لصاحب الدعوة المطهرة، أم العصبية القاتلة للجنس والقبيلة واللغة والموطن، أم القصص والمواعظ التي قام بها أناس لا يرجون لله وقاراً فاستهوَوا العامَّة بغرائب الأقوال عن الجنَّة والعرش والملائكة وخلق الكون وتواريخ السابقين معزوةً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم الخلافات الفقهيَّة والكلاميَّة التي جعلت ضعاف النفوس يؤيدون أقوالهم بالمخترع الزائف دون تقوى أو خشية، أم الجهل الشائن بالدين يَدفع فريقاً من الزهَّاد والعُبَّاد إلى اختلاق أحاديث الترغيب والترهيب ظناً منهم أنَّهم تميل بالنفوس إلى الخير عن الشر، وتجتذب الغافلين إلى الاستغفار والتسبيح أم التطفُّل المباهي بالمعرفة لدى نفر يَفتخرون بعلوِّ الإسناد وغريب الحديث.

أجل عرف المبتدئون في دراسة الحديث كل ذلك، كما عَرفوا أنَّ جهوداً جَبَّارة بُذلت من كبار العلماء لمقاومة الوضع والتوثيق من الأحاديث، فنقدوا الرواة ودرسوا تاريخهم عن الثقات ليعلموا الصادق من الكاذب، ثم وضعوا قواعد عامَّة لتقسيم الحديث وتمييزه، من صحيح وحسن وضعيف، ومن مُرسل ومُنقطع، وشاذٍّ ومُنكر، ثم ذكروا علامات كثيرة للوضع في السند والمتن ملئت بها الأسفار، حتى أصبح لدينا علم خاص يُعرف بـ (مصطلح الحديث).

كما أفردوا كتباً خاصة بالأحاديث الموضوعة مثل: (اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة)، و(تمييز الطيب من الخبيث فيما يدور على ألسنة الناس من الحديث)، و(كشف الخفاء ومُزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس) لأئمة من كبار المحدثين في الإسلام، وإذا كانت سنة الله تقضي أن يعترف بالحق نفر من أعدائه، فإنَّ بعض الذين تحدَّثوا عن التاريخ الإسلامي من المستشرقين قد بَالغوا في الثناء على يقظة الفكر الإسلامي في تتبع الرواة وفحص الإسناد لدى المحدثين، وعدُّوا ذلك أدقَّ منهج علمي يَنبغي أن ينتقل من الحديث إلى التاريخ، يقولون ذلك في مَعْرِض الكلام عن التاريخ الإسلامي، ثم يلجم الغرض كثيراً منهم فلا يعترفون به في معرض الكلام عن الحديث النبوي.

(ونحن نعلم أن المستشرق المجري اليهودي الكبير (جولد زيهر) من أكبر علماء الاستشراق سعة اطلاع، وطول صبر على التنقيب في علوم الدين، وغزارة مادة، إذ أن كتبه الثلاثة عن الشريعة والعقيدة في الإسلام وعن مذاهب التفسير الإسلامي وعما سماه بدراسات إسلاميَّة تنبئ عن إلمام واسع وبحث ملحف دءوب، وتنقيب جاهد في مطاوي المخطوطات والمطبوعات، ولكن آفة الرأي الهوى لديه في جُلِّ ما كتب فهو مثلاً في باب السنة النبوية – لا يتتبع النصوص ليستخرج منها القول الصائب، ولكنه يَفترض – أولاً – الحكم المغرض افتراضاً، ثم يذهب مُتلمِّساً ما يسنده من مَبْتور الروايات ومختلق الظنون، فيأتي بكلام يظنه البعيد عن الدراسات الإسلامية سالكاً منهجاً قويماً من البحث – وما أكثر هؤلاء من مُدَّعي الكتابة والتأليف – أما البصير بتاريخ ثقافته وأصول دينه، فيضرب كفاً بكف حين يجد هذا الداهية الخطير في كتابه دراسات إسلامية – مثلاً – يقفُ أمام بعض النصوص التي تحرِّم كتابة الحديث مع ما يُقابلها من النصوص التي تَبيح الكتابة فلا يوازن بينهما بما يَعرفه أهل العلم، وبما سنشير إلى بعضه عن قريب، بل يَلجأ إلى الافتراض المتخيَّل، ويجزم في جرأة عجيبة بأنَّ هناك حزبين مُتناضلين اتخذا من تعارض الأحاديث سلاحاً يذود كل منهما به عن رأيه، فأهلُ الرأي وقد زعم أنَّهم اعتمدوا في وضع فروع الشريعة على عقولهم وأهملوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من حججهم أنَّ الحديث لم يكتب دهراً طويلاً فغابتْ مَعَالمه، وتشتَّتَ أمرُه، وأيَّدوا رأيهم بأخبارٍ اختلقوها تُثبت أنَّه لم يُكتب، أما أهل الحديث ممن يَعتمدون على النصِّ النبوي فلم يَقفوا واجمين في زعمه بل فعلوا فعلتهم، واختلقوا الأخبار تأييداً لقولهم، فنسبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أحاديث في إباحة الكتابة).

أرأيت إلى المعركة كما يتصوَّرها جولد زيهر، لقد أراح نفسه من مشقَّة الموازنة بين النصوص المتعارضة بتخيُّل مُغرض، يثبت أنَّ الفريقين من أعلام الرأي وأئمة المحدثين كذَّابون وَاضعون، كلُّ فَريق يختلقُ من الأحاديث ما يَسير مع وِجهته وكأنَّ الاختلاق عملٌ مشروع يَستبيحه كلُّ فقيه دون تحرُّج!.

وقد كان الباحث الأستاذ يوسف العش قويَّ الحجَّة حين نقل كلام جولد زيهر السابق في بحثه الخاص بنشأة تدوين العلم في الإسلام، ثم أجهز عليه بما يَنسفه نسفاً من واقع التاريخ التشريعي حيث قال بعد أن أشار إلى الاختلاف في تدوين الحديث:

(ولعل هذا الاختلاف مما دعا جولد زيهر إلى القول بأنَّ العلماء انقسموا إلى طائفتين مُتخاصمتين في شأن جواز الكتابة أو عدمها، على أنَّه لم يُصِبْ حين قال إنَّ من ادعى عدم جواز الكتابة هم أهل الرأي، وأنَّ مخالفيهم هم من أهل الحديث، فالخلاف لم يكن بين هاتين الفئتين؛ لأنَّ من أهل الرأي من امتنع عن الكتابة كعيسى بن يونس، وحمَّاد بن زيد، وعبد الله بن إدريس، وسفيان الثوري، وبينهم من أقرَّها كحمَّاد بن سلمة، وزائدة بن قدامة، ويحيى بن اليمان، ومن المحدِّثين من كَرِه الكتابة كابن عُلَيَّة، وهشيم بن بشير، وعاصم بن ضمرة، وغيرهم، ومنهم من أجازها كبقي الكلاعي، وعكرمة بن عمار، ومالك بن أنس، وغيرهم).

لقد كان على جولد زيهر أن يدرس رجال الرأي ورجال الحديث قبل أن يأتي بمزعمه الخاطئ، ولكنه يَفترضه افتراضاً ليصلَ إلى الغاية التي انتهى إليها حين ذكر في كتابه المشار إليه ما ترجمته نصاً: (إنَّ القسم الأكبر من الحديث ليس إلا نتيجةً للتطوُّر الديني والسياسي والاجتماعي للإسلام في القرنين الأول والثاني، وأنَّه ليس صحيحاً ما يقال من أنَّه وثيقة الإسلام في عهده الأول عهد الطفولة ولكنه أثرٌ من جهود الإسلام في عصر النضوج).

ثم أفاض في تعداد الموجبات لوضع الحديث ليتخذ منها الدليل على أنَّ القسم الأكبر من الحديث النبوي كان نتيجة للتطور فقط، وما جاء به من أسباب الوضع لم يكن خافياً على المبتدئين في دراسة علم الحديث ولكنه ألحَّ عليه ليستأصل به أصلاً ثابتاً من أصول التشريع، فهل جاءه أنَّ محاولة ذلك الاستئصال قد مُنيت بالخذلان أمام ما ثبت عن الرواة الثقات والحَفَظة العدول، لقد أحسن الدكتور علي حسن عبد القادر حين أعقب كلام جولد زيهر برأي صريح لزميله المستشرق فينك يردُّ به على أمثال هذه الأراجيف، إذ يقول في صراحة واضحة: 

وإذا لم يَستطع النُّقَّاد المسلمون لأسباب داخليَّة وخارجيَّة أن يُميِّزوا كلَّ الأجزاء غير الصحيحة من الحديث فإنَّه ليس من الحق أن نسلُبَهم كلَّ الثقة، ذلك أنَّ الحديث الإسلامي يحتوي على أساس صحيح، والرأي القائل بأنَّ الحديث ليس إلا من وضع أهل القرنين الأول والثاني وأنه لا يدل إلا على ما صوَّرته الأجيال الإسلاميَّة لعصر الرسول وأصحابه هذا الرأي يجهل كلَّ الجهل ما لشخصيَّة الرسول من تأثير كبير في المسلمين، والجهود التي تحاول إبطال آثار الرسول التاريخيَّة في السنة والحديث إنما جاءت من فهم تاريخي مادي، وهذا الفهم لا يريد أيضاً أن يتبيَّن ما في القرآن من أمور إلهيَّة اعتقاديَّة ويرى أنَّ ذلك إنما يَستقصي من آلاف الصور والمثل والتأثيرات المختلفة والاختلاط بالشعوب الأخرى وغير ذلك مما يؤدي في آخر الأمر إلى أن يكون تراث الإسلام مختلف الأشكال والألوان لا يصور رابطة مُتماسكة.

لقد وضع الأستاذ فينك يده على موضع الداء لدى زيهر وشيعته حين أعلن أنَّهم يقتصرون على الفهم المادي وحدَه تاركين كلَّ أثر إلهي أو نبوي يُغَذِّي العنصر الروحي في الإسلام بل يحاولون أن يجعلوا تراثَ الإسلام وليد أجيال مُتعاقبة تختلط فيها الشعور والثقافات اختلاطاً يُنشئ النصوص والعقائد إنشاء تأثيرياً لا صلةَ له في أكثره بمحمد عليه الصلاة والسلام.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة منبر الإسلام، السنة السادس والعشرون، رجب 1388 - العدد 7).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين