الخوف من الله تعالى والتخويف بالله سبحانه

الرغبةُ والرهبةُ إحساسان يتحكَّمان في تصرُّفات الإنسان، ويَضبطان سلوكَه فيما يَأخذ أو يَدَع من أمور... فبالرغبة يُقبل المرءُ على هذا الشيء أو ذاك، وبالرهبة يُعرضُ عن هذه الوجهة أو تلك.. وقلَّ أن يَصدر أمرٌ إرادي عن غيرِ رَغْبةٍ أو رَهْبةٍ.

لهذا كان من مَناهج التربية الحكيمة رعاية هذين الإحساسين في كِيان الإنسان، وتزويدهما بالغِذاء الصالح لكل منهما، وفقاً لمقرَّرات الأخلاق الكريمة وأوضاع الحياة الطيِّبة الناجحة، كي تكون رغباتُ المرء ومُيولُه دافعةً به إلى الخير، مُوجِّهةً له إلى الإحسان، وكي تكون رهباته ومخاوفه ممسكةً به عن نوازع الشر ودوافع العُدْوان، فإذا أقبل؛ أقبل عن رغبةٍ في خير، وطَمَعٍ في معروف، وإذا أعرض؛ أعرضَ عن خوف من هَلَكة أو إشفاق من مكروه.

لِمَ يُجهِدُ المرءُ نفسَه في الحياة؟! لِمَ يجوِّدُ صَنْعَتَه ويتقنُ عملَه؟ لِمَ يَعْطِف على الفقير ويساعد الضعيف؟ لِمَ يقول الصدق ويؤدي الأمانة؟ لِمَ يحرِصُ على أداء الواجب ورعايته؟ إنَّ وراء هذه الأمور كلها ثمرات طَيبة تُغري بالسعي إليها والجد في طلبها.

ربما كان المال، والجاه وحُسْن الأحدوثة، بعض هذه الثمرات.

ولِم يمسك المرءُ يدَه عن السرقة أو القتل؟ ولِمَ يحبس لسانَه عن الكذب وقول الزور؟ لِم لا يشتمُ هذا ويَسُبُّ ذاك؟ لِم لا يَلقى الناس مجرَّداً من ثيابه؟ إنَّ آثاراً سيئة يتوقَّاها بالإعراض عن هذه الأمور التي لو فعلها لساء مصيرُه ووخمت عاقبته، فكان في المنبوذين أو الهالكين.

تدورُ الحياةُ كلُّها في هذين المدارين، مدار الرغبة، ومدار الرهبة. سواء في هذا من استملى حياتَه من دينه، واستوحاها من عَقيدته، ومن جرى في الحياة على أسلوب المادَّة البحت، يُريد العاجلة من غير أن يعملَ للآخرة حساباً، أو يرجو عند الله تعالى ثواباً.

والمدار الدنيوي لرغبات الإنسان ورهباته مدار ضَيِّقٌ مُظلِم ليس فيه مجال للضمير، ولا مكان للوجدان، وليس فيه نفحة جمال، ولا قبسة أمل.

إنَّ الذي يُدير حياته في هذا المدار شقي، لاهثُ الأنفاس، ظامئٌ أبداً، لا يجدُ بردَ الراحة، ولا يحس أُنس الطمأنينة والاستقرار. إنَّه أشبه بالآلة تدور في قُوَّة وعُنف من غير أن تندى بقطرات من (الزيت) تُلطِّف حَرارتها، وتمسكُ بها أن تحترق!.

وفي الدين عُصارات طيبة هي التي تجعل لأعمال الإنسان طَعماً، وتقيم لها في ضميره وزناً، وتوسِّع في آمادِ الأملِ المعقودِ عليها، والثمر المرجو منها.

فكم من أعمال نضنى لها، ونحتمل الأذى في سبيلها، ثم لا يحصل في أيدينا منها ثمرة عاجلة، أو نفع مُرتقب، فلا يدفع عنا مرارة الحسرة والخيبة، إلا ما نرجو من ثوابٍ عند الله ومغفرةٍ في الآخرة.

إنَّ كثيراً من الأعمال الخيِّرة الصالحة التي تدور في هذه الحياة إنما يقومُ مَدارُها على طمعٍ في رضوان الله تعالى وخوفٍ من عِقَابه سبحانه، وإن لم يحصل المرء منها على شيء في يديه أو يجد لها أثراً في حاضرِه... ولولا شعورُ الخوف من عِقَاب الله تعالى، والرغبة في ثوابه سبحانه لأصبحت حياةُ الناس امتداداً لحياة الحيوان في الغابات لا تجري أعمالهم إلا في دائرة النفع الذاتي العاجل الذي لا يحكمه عقل، ولا يتحكَّم فيه ضمير، فلا يفعل إنسان خيراً إلا إذا عاد عليه هذا الفعل بخير عاجل يَضُمُّه إليه، ولا يحجم عن شَرٍّ إلا إذا توقَّع قصاصاً عاجلاً ينزل به.

من أجل هذا جاءت الأديان السماوية ففتحت لأعمال الإنسان آفاقاً جديدة قائمة وراء هذه الحياة الدنيا، يعمل لها ويجني ثمرةَ عمله فيها، فإن فاته أن يجني ثمرةَ غرسه في الدنيا فلن يفوتَه في الآخرة، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر: [فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ] {الزَّلزلة:7-8}.

لهذا يعتمد الدين في دعوته إلى المعروف ونهيه عن المنكر على الرجاء في ثواب الله تعالى، والتخويف من عقابه جلَّ وعلا: [فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ(19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ(20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ(21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ(22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ(23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الخَالِيَةِ(24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ(25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ(26) يَا ‎لَيْتَهَا كَانَتِ القَاضِيَةَ(27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ(28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ(29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ(30) ثُمَّ الجَحِيمَ صَلُّوهُ(31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ(32) إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللهِ العَظِيمِ(33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ(34) فَلَيْسَ لَهُ اليَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ(35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ(36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الخَاطِئُونَ(37) ]. {الحاقَّة}.

وفي القرآن الكريم صُور مُتعدِّدة، ومواقف مختلفة لآثار الخوف من الله سبحانه لاجتناب محارمه، وتوقي عذابه، وهي صورٌ ومَواقف تنخلعُ لها القلوب وتذهل لها العقول، كما أنَّ في القرآن الكريم صوراً رائعة، ومواقف محبَّبة للترغيب في جناته والتشويق إلى ما فيها من نعيم مُقيم. 

وعلى الخوف من الله سبحانه والرجاء في ثوابه ورحمته تدورُ أوامر الشريعة الإسلامية ونواهيها فما نَهى الله عنه فهو حِمًى من استباحه فقد أغضبَ الله تعالى واستحقَّ عقابه، وما أمرَ الله به فهو شريعة من وفَّى بها فقد أرضى ربَّه ودخل جنته: [فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ(6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ(7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ(8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ(9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ(10) نَارٌ حَامِيَةٌ(11)]. {القارعة}.

وتأخذ الشريعة الإسلامية دائماً جانبَ الاعتدال والحكمة في الترهيب والترغيب من غير إسراف هنا أو تقصير هناك، فإذا أطمعتْ في رحمة الله حذَّرت من عذابه، وإذا فتحت أبواب الجنَّة وعرضت نعيمَها وقصورها وحورها، فتحت في جانب آخر أبوابَ جهنم يتسعَّرُ سعيرها، ويتلظَّى لظاها: [إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا(21) لِلطَّاغِينَ مَآَبًا(22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا(23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا(24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا(25) جَزَاءً وِفَاقًا(26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا(27) وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كِذَّابًا(28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا(29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا(30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا(31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا(32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا(33) وَكَأْسًا دِهَاقًا(34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا(35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا(36) ]. {النَّبأ}، ذلك ليعمل أهلُ الجنَّة للجنَّة وليعمل أهل النَّار للنَّار.

وننظر فنرى أنَّ تَربيتنا الدينيَّة لا تأخذ بهذا الأسلوب الحكيم من التزام جانب الاعتدال في الترغيب والترهيب، بل إنَّها لتعتمد أكثر ما تَعتمد على جانب الترهيب والتخويف حتى ليكاد ذلك يَبلغ مبلغ الفزع الذي يسدُّ على الإنسان مَنافذ الأمل والرجاء في كل وجهٍ يتَّجه إليه.

ينشأُ الطفل من أطفالنا وفي خياله صورةٌ مخيفة مُفزعة عن الله تعالى؛ إنَّ كل أمر جلَّ أو صغر محاسبٌ عليه من ربه، إن ضرب أخاه الصغير (فربُّنا سيعاقبه)، إن لم يشرب الدواء (فربنا) سيكرهه. إن لم يَنَمْ (فربنا)يغضب منه. إن لم يذهب إلى المدرسة (فربنا) يدخله النار. 

وهكذا يتَّخذ الآباءُ والأمهات من (الرب) (بعبعاً) يخيفون به الأطفال، فينشأ الطفل وفي نفسه صُور كثيرة لهذا الرب المخيف الذي لا يَراه الطفل إلا مَارداً جَبَّاراً مُكَشِّراً عن أنياب مخيفة مرعبة، ثم تظلُّ رواسب هذه الخيالات تعملُ في كيان الطفل وتؤثر في سلوكه مهما جهد في التخلص منها.

إنَّه حين يكبر يتلقَّى أوامرَ الدين ونواهيه من جهة لا يتصل بها إلا عن طريق الخوف والفزع الرهيب! إنَّه يتلقاها تلقي الأسير لما يُلقي إليه سجناؤه من تعليمات. 

إنَّه يُصلي – إن صلى – على خوف، ويَصوم – إن صام – على خوف، ويعطي – إن أعطى – على خوف، إنَّ الخوف يتبعه في كل حركة ويملي عليه كل عمل!.

إنَّها صور من الأعمال يؤديها من غير أن تتَّصل بقلبه أو تحتك بأشواقه، فلا ينقدح منها شرارة الحبِّ التي لا يَثمر عمل إلا إذا نشأ في ظله وتربى في حِجْره.

وفي مجالس الوعظ لا يَسمع السامعون إلا شهيق جهنم وزفيرها، يُلقي إليهم بغير حساب. جهنم ولا شيء غير جهنم، لقد فسد الزمان وساء الحال، وأصبح الناس جميعاً في ضلال لا يطهرهم منه إلا عذاب الجحيم!.

فذلك بعضُ ما يسمع الناس في مجالس الوعظ حتى لقد أصبحت هذه العبارات من كثرة تردادها مجرد أصوات فقدت مدلولاتِها التي كانت لها.

وكلا... فإنَّ هذه ليست تربية الإسلام ولا منهج الشريعة. إنَّ شريعة الإسلام أن نخاف الله ولا نخوِّف به، ونرجوه ولا نيأس من رحمته.

إنَّ على الآباء أن يُروا أبناءَهم الله تعالى في صُور الجمال والكمال، والحنو والرحمة، هذه الزهرة الجميلة.. هذه الشجرة المثمرة.. هذه الدوحة المظلة.. هذه الفراشة المعجبة.. كلها هدايا طَيِّبة قدَّمها الله تعالى لنا لنستمتعَ بها، ونفرح بالنظر إليها.

هذه الشمس الساطعة.. وهذا القمر المنير.. وهذه النجوم السابحة.. وهذه السحب الماطرة.. كلها من نعمِ الله سبحانه جعلها لنا مَتَاعاً وبلا ثمن!.

بمثل هذا تَنبعث في أعمال الطفل أشواقٌ إلى الله تعالى وترتسم في خياله صورٌ جميلة محبَّبة عن الله سبحانه الذي يُعطي هذه العطايا الكثيرة العظيمة من غير أن نطلبها، ومن غير أن نبذل لها ثمناً!.

إنَّ الطفل حين يَكبر تَكبر معه هذه الأحاسيس الطيِّبة المشبعة بعواطف الحب والإجلال للخالق العظيم.. وحينئذ يتلقَّى أوامر الدين التي تُلقى إليه وكأنها أناشيد مَنغومة يؤديها كما يُؤدي الطير تسابيحَ الفجر وأهازيج المساء.

ثم إنَّ على الوعاظ أن يَقْتدوا بالرسل فيكونوا مُبشِّرين ومنذرين؛ فذلك هو الذي يجعل لنا رباً نحبُّه، وديناً نخلص له، وشريعة نرعاها، ونجد السعادة في ظلالها.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

 

المصدر: (مجلة لواء الإسلام، السنة السادسة عشرة، ربيع الأول 1378 - العدد 3).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين