العلم المذموم في القرآن -1-

• العلم الذي يضر ولا ينفع "السحر":

العلم المذموم في القرآن يأخذ عدة صور، أُولاها: العلم الضار. 

فقد وجَّه القرآن "الطاقة العقلية" لدى الإنسان إلى تحصيل العلوم النافعة، والمعارف المفيدة له وللمجتمع من حوله، وحفّزه على طلب العلم النافع بأعظم الحوافز المُرغِّبة والمُرهِّبة والباعثة. 

ولم يقبل أن تُوَجَّه هذه الطاقة إلى العلوم التي لا تجنى من ورائها ثمرة للفرد ولا للأُمة. وذلك مثل "علم السحر". 

بل بيَّن القرآن: أنَّ تعلم هذا العلم يضر ولا ينفع، فشأنه أن يُستخدم في الإفساد وتقطيع الروابط بين الناس، كالتفريق بين المرء وزوجه، وهو ممَّا يبغضه الله تعالى، ويحبُّه الشيطان، ولهذا كان من كبائر الإثم.

عرض القرآن لهذه القضية في قصة هاروت وماروت في سورة البقرة، فقال تعالى في شأن اليهود وما ارتكبوه من ألوان الانحراف والفساد: [وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ] {البقرة:102}.

ولقد اختلف علماء المسلمين في حقيقة السحر ما هي: أهو أمر حقيقي مؤثر في الواقع؟ أم هو مجرد إيهام وتخييل وسحر للأعين فحسب؟ 

ذهب المعتزلة إلى الثاني، مستدَّلين بما جاء في القرآن في قصة موسى وسَحَرة فرعون، كما في قوله تعالى:[قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ] {الأعراف:116}. 

[قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى] {طه:66} 

وذهبَ أهل السُنَّة إلى الرأي الأول، وأن للسحر حقيقة، وأن له تأثيرًا، ولهذا قال تعالى:[ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وَزَوْجِهِ]البقرة102 ، وقال:[ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ] [البقرة: ???].

ولهذا أيضًا أُمرنا بالاستعاذة من شرِّ السَّحَرة الذين ينفثون في العُقَد، فقال تعالى:[قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ(1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ(2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ(3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي العُقَدِ(4) ]. {الفلق}.

وأيّاً كانت ماهيَّة السحر وحقيقته، فهو علمٌ يضر ولا ينفع، ولا يجوز للمسلم تضييعُ  وقته وجهده في تعلمه. فما أحوج هذا الجهد وهذا الوقت أن يُنفقا في تحصيل ما ينفع من العلم. 

* *

• التنجيم شُعْبةٌ من السحر:

وقد وردَ في الحديث النبوي اعتبار "التنجيم" شُعْبة من السحر، وهو الذي يقوم على التنبؤ بالغيب بواسطة النجوم، وادِّعاء قراءة المستقبل من خلالها. 

فقد روى ابن عباس عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم  أنه قال: "مَن اقتبس علمًا من النجوم، اقتبس شُعْبة من السحر، زاد ما زاد"(1).

قال الإمام الخطابي في "معالم السُنن": "علم النجوم المنهي عنه هو: ما يدَّعيه أهل التنجيم من علم الكوائن والحوادث التي لم تقع، وستقع في مستقبل الزمان، كإخبارهم بأوقات هبوب الرياح، ومجيء المطر، وظهور الحر والبرد، وتغيُّر الأسعار، وما كان في معانيها من الأُمور، يزعمون أنهم يدركون معرفتها بسيْر الكواكب في مجاريها، وباجتماعها واقترانها،  ويدَّعون لها تأثيرًا في السُّفْليات،  وأنها تتصرَّف على أحكامها، وتجرى على قضايا موجباتها.

وهذا منهم تحكُّم على الغيب وتعاطٍ لعلم استأثر الله سبحانه به. لا يعلم الغيب أحد سواه.

فأما علم النجوم الذي يُدْرك من طريق المشاهَدة والحسّ، كالذي يُعرف به الزوال، ويُعلم به جهة القِبْلة. فإنه غير داخل فيما نهي عنه. 

وذلك: أن معرفة رَصْد الظل ليس شيئًا بأكثر من أن الظل ما دام متناقصًا فالشمس بعدُ صاعدة نحو وسط السماء من الأُفق الشرقي. وإذا أخذ في الزيادة فالشمس هابطة من وسط السماء نحو الأُفق الغربي. 

وهذا علم يصحُّ دّرْكه من جهة المشاهدة، إلا أن أهل هذه الصناعة قد دبَّروه بما اتَّخذوا له من الآلة التي يستغنى الناظر فيها عن مراعاة مدته ومراصده. 

وأما ما يُستدلُّ به من جهة النجوم على جهة القِبْلة: فإنما هي كواكب أرصدها أهل الخبرة بها، من الأئمة الذين لا نشك في عنايتهم بأمر الدين ومعرفتهم بها، وصدقهم فيما أخبروا به عنها. مثل أن يشاهدوها بحضرة الكعبة، ويشاهدوها في حال الغيبة عنها فكان إدراكهم: الدلالة عنها بالمعاينة. وإدراكنا لذلك بقَبولنا لخبرهم، إذ كانوا غير متهمين في دينهم، ولا مقصِّرين في معرفتهم"(2).

ولا يدخل في علم "التنجيم" هذا: ما يَذاع في نشرات الأخبار من هيئات الأرصاد الجويَّة في الأقطار المختلفة، من توقع حركة الرياح، ونزول الأمطار أو عدمها، ودرجات الحرارة والبرودة، ونحو ذلك؛ لأن هذا ليس من التنبؤ بالغيب المطلق، الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، بل هو مبنيٌّ على مشاهدات وتجارب معروفة، مبنيَّة على سنن الله في الكون، وشبكة الأسباب والمُسبَّبات. وينبغي أن يكون ذلك على سبيل التوقُّع، لا على سبيل الجزم والقطع، فقد يُحْدث الله تعالى ما ليس في الحسبان. ولهذا يختم كثير من المؤمنين من مقدِّمي نشرات الأخبار الجويَّة حديثهم بقولهم: هذا والعلم عند الله تعالى. 

فهذا ليس من عمل المنجمين الذين قيل فيهم: (كذب المنجمون ولو صدقوا)! 

وكذلك ليس من علم التنجيم ولا من عمل المنجمين: ما يتعلق بـ "علم الفلك" الذي كان للمسلمين فيه يدٌ طولي، أيام ازدهار الحضارة الإسلامية، والذي استبحر في عصرنا، ووصل إلى غايةٍ من الدقة حتى سمعت من بعض علمائه: أنَّ احتمال الخطأ فيه 1 : 100.000 (واحد إلى مائة ألف) من الثانية، وعلى أساسه وصل الإنسان إلى القمر، وغزا الكواكب. 

والقرآن الكريم يشير إلى هذا العلم في قوله تعالى:[هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالحِسَابَ مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالحَقِّ يُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ] {يونس:5}.

أعتقد أن القوم "الذين يعلمون" هنا، والذين فصَّل الله لهم الآيات هم الذين يعلمون علم الفلك. 

ويؤيِّد ذلك قوله تعالى:[وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ البَرِّ وَالبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ] {الأنعام:97}.

وقال تعالى:[وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالحِسَابَ] {الإسراء:12}   .

-------------------

(1) رواه أحمد (2840)، وقال مخرجوه: إسناده صحيح، وأبو داود في الطب (3905)، وابن ماجه في الأدب (3726)، وصححه إسناده النووي في رياض الصالحين (1671)، وصححه الألباني، صحيح سنن أبي داود (3305).
(2) انظر: معالم السنن للخطابى،  مع مختصر المنذري وتهذيب ابن القيم – في شرح الحديث (3754) : 5 / 371، 372 – طبعة المكتبة الأثرية بباكستان، المصورَّة عن طبعة السُّنَّة المحمديَّة بالقاهرة.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين