ضوء على تفكيرنا الديني

 

بعض المرضى يحتاج إلى صدمات كهربائية لتصحيح وعيه، وإيقاظ ما تخدَّر من حسّه.. والمسلمون يحتاجون إلى أمثال هذه الصدمات كي يُحسنوا الخلاص مما حلَّ بهم.

والسير على نهج يشبه أو يُقارب نهج الراشدين من أسلافهم!!

إنَّ أمَّتنا الآن جزء كبير من العالم النامي.. تخلفها الحضاري لا ريب فيه..

ومظاهر التقدم المجلوبة من هنا ومن هنا عارية قد تسترد، إنها ليست إفرازا لكيانها الخاص، ولا أثراً لنشاطها الأصيل.

ما الذي أوصلنا إلى هذا الدرك؟

إن التقدم والتأخر ليس حظوظاً عمياء!! إنَّ ما نزل بنا هو نتائج لمقدمات طال عليها الأمد.. وعِلل هدَّت قواناً جيلاً بعد جيل!..

وبعض الأجسام يصيبها في سِن مُبكرة مرض شديد.. ولكن عافية الشباب تهزمه. فتكمن الجرثومة متربصة الفرص السوانح لتثب عندما تريد.. ملحِقة بالجسم ما تشاء من عطب..! وأمتنا الكبيرة تعرضت لأدواء وبيلة خلال عصورها الخوالي.. وقد قاوم كيانها الصلب هذه الأدواء، وبدا للعين المجردة كأنه سليم معافي.. ولكن الجراثيم الخانسة برزت من مكانها خلال القرون الأخيرة.. فلما اصطدمت بنا القوى المعادية للإسلام فضحتنا المعارك في كل ميدان، وسقط المسلمون بين المحيطين الأطلسي والهادي وبين أواسط أوروبا وآسيا شمالاً، وجزائر إندونيسيا والفليبين والمحيط الهندي وأقطار ما تحت الصحراء الكبرى جنوباً...

إنَّ هذا الكيان الإسلامي تهاوى تحت ضربات المغيرين، وأصبح بين عشية وضحاها أسيراً تُدميه القيود، ويرهقه الإذلال.. لقد حدث هذا.. وكان لابدَّ أن يحدث.. لأن المسلمين فقدوا أسباب التمكين في الأرض فعصفت بهم الرياح الهوج.. إن الرياح مهما اشتدَّت لا تنقل الجبال.. ولكنها تنقل كثبان الرمال..

وإذا كنا على أبواب نهضة حقَّة فلندرس بدقَّة وبصيرة أسرار ما أصابنا.. فإن العافية لا تتيسر بدواء مرتجل.. والنصر لا يجيء باقتراح مرتجل.. إن الأسلاف تصدروا قافلة العالم بجدارة.. والأخلاف ملئوا ذيل القافلة بجدارة أيضا.

وقد تأملت في أحوال ناس يعملون في الحقل الإسلامي، ويتحمسون لنصرة دينهم.. ولكنهم يحملون في دمائهم جراثيم الفوضى القديمة، والجهالة المدمرة.. فأدركت أن هؤلاء يتحركون في مواضعهم، وأنهم يوم يستطيعون نقل أقدامهم فسيتجهون إلى الوراء لا إلى الأمام، وسيضيفون إلى هزائمنا الشائنة هزائم قد تكون أنكى وأخزى.

من أجل ذلك رأيت استثارة الهمم لبدء نهضة واعية هادية، تعتصم بالوحي الأعلى، وتتأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم  وصحبه، وتنتفع بتجارب القرون الأربعة عشر التي مرت بنا.

قد تقول: وهل يخالف أحد في هذا حتي تتناوله بالغمز واللمز؟! وأجيب: إن أحداً لن يجرؤ على هذه المخالفة بقوله.. ولكنه بفراغ فكره، أو فساد باطنه قد يجر الكوارث على الكتاب والسُّنة، ولا يزيد الطين إلا بلة..

***

الفساد السياسي مرض قديم في تاريخنا، هناك حكام حفروا خنادق بينهم وبين جماهير الأمة.. لأن أهواءهم طافحة.. وشهواتهم جامحة.. لا يؤتمنون على دين الله، ولا دنيا الناس.. ومع ذلك فقد عاشوا آمادا طويلة. وقد عاصرت حكاماً تدعو عليهم الشعوب، ولا نراهم إلا حجارة على صدرها توشك أن تهشمه.. انتفع بهم الاستعمار الشرقي والغربي على سواء، في منع الجماهير من الأخذ بالإسلام والاحتكام إلى شرائعه.. بل انتفع بهم في إفساد البيئة حتى لا تنبت فيها كرامة فرديَّة. ولا حريَّة اجتماعيَّة.. أيَّاً كان لونها. ومع هذا البلاء فقد رأيت منتسبين إلى الدعوة الإسلامية يصورون الحكم الإسلامي المنشود تصويراً يثير الاشمئزاز كله.. قالوا: إن للحاكم أن يأخذ برأي الكثرة، أو رأي القلة، أو يجنح إلى رأي عنده وحده...!

أهذه هي الشورى التي قررها الإسلام؟ فما الاستبداد إذن؟!.

معايب الدساتير الموضوعة:

ووضع بعضهم دستوراً إسلامياً أعطى فيه رأس الدولة سلطات خرافية لا يعرفها شرق ولا غرب.. وعندما تدبرت هذا الكلام وجدت أن معايب ثلاثاً تلتقي فيه:

الأول: سوء فهم لمعنى الشورى، وغباء مطلق في إنشاء أجهزتها المشرفة على شئون الحكم.

الثاني: عمى عن الأحداث التي أصابت المسلمين في أثناء القرون الطوال. والتي نشأت عن استبداد الفرد.. وغياب مجالس الشورى.

الثالث: جهل بالأصول الإنسانية التي نهضت عليها الحضارة الحديثة، والرقابة الصارمة التي وضعت على تصرفات الحاكمين.

فإذا استقبل المسلمون القرن الخامس عشر وفهم عدد منهم لوظيفة الحكم لا يتجاوز هذا النطاق العقيم.. فكيف تسير الأمة، وأين تتجه؟؟!

إن الفقه الدستوري في أمتنا يجب أن تنحسر عنه ظلال الحجاج وعبيد الله بن زياد.. وملوك بني العباس.. وسلاطين آل عثمان.. ويجب أن يمنع عن الخوض فيه شيوخ يقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم  افتات على الصحابة في عمرة الحديبية.. فمن حق غيره أن يفتات على الناس ويتجاوز آراءهم.

إنَّ ذلك الضلال في تصوير الإسلام يفقد الإسلام حقَّ الحياة.

والمعروف أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم احترم الشورى، ونزل على حكمها فيما لا وحي فيه، وأن قصة الحديبية تصرف فيها الرسول صلى الله عليه وسلم على النحو المروي لما حبس ناقته حابس الفيل.. وأحسَّ أنَّ الله تعالى يلزمه بمسلك يجنب الحرم ويلات حرب سيئة.

فكيف يجيء من يعطي الرؤساء حق الحرب والسلام.. بعيداً عن الشورى.. لأن الرسول صلى الله عليه وسلم فعل ذلك يوماً ما في مكة التي يعلل القرآن منع الحرب فيها بقوله: [وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَالهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا] {الفتح:24-25}.

وظاهر أن الرسول صلى الله عليه وسلم  اتَّجه مع توجيه السماء له. وظاهر كذلك أن الشورى تكون حيث لا نصٌّ يوجه.

وأن الأمة هي مصدر السلطة حيث لا نص بداهة، ويؤسفني أن الكلام عن تكوين الدولة عندنا تعرض له أقوام على حظ كبير من الطفولة العقلية. أو على حظ من الزلفى يكسبون به الدنيا ويفقدون به الإيمان. وإصلاح أداة الحكم وأصله الأول يحتاج إلى فقهاء أتقياء أذكياء..

* * *

والأوضاع الاقتصادية في عالمنا الإسلامي تحتاج من أعصار طويلة إلى النظر الفاحص والقلب النقاد.

وكثيرا ما تساءلت: إلى متى يظل التنفير من الحرام شغل واعظ ناصح، أو وصيَّة مرب مخلص بصورة تدعو إلى اليأس أو الزهد في الدنيا.. لتظل هذه الدنيا فقط في أيدي أعداء المسلمين؟؟

ما أقل جدوى ذلك الكلام في مواجهة الغرائز المريضة والأماني السيئة!! لو أننا جئنا إلى كل ميل مربع من الأرض الممهدة للزراعة، أو المعدة للبناء، وتساءلنا: أمن الحلال تم تملكه أم من الحرام؟ لكان الجواب مفزعاً.

إن تاريخ التملك أو واقعه المعاصر يشهد بأن كفَّة الشر أرجح، وأن المسلمين من أفقر أهل الأرض إلى قوانين صارمة تحرس قيمهم الدينية.. ونصوصهم السماوية. وما يقال في ملكية الأرض يطَّرد في سائر الأموال..!!

ثم لماذا تبقى محاربة البطالة.. والبأساء والضراء خاضعة لتطوع أفراد بأداء الزكاة وبذل المعونة؟ لقد كان من أول أعمال الدولة الإسلامية - بعد حراسة الإيمان - أخذ الزكاة.. وهذا ما عزم عليه الصديق رضي الله عنه.. وتابعه فيه بقية الصحابة رضوان الله عليهم.

ومعنى الأخذ من الأغنياء أن الدولة هي التي تتولي الإنفاق في المصارف المقررة.. وأنها مسئولة عن رعيَّتها أمام الله تعالى، وأمام جماعة المسلمين.

وسؤال آخر له خطره . وتجاربنا نحن المسلمين مع الزمن توحي بتوجيهه إلى كل ذي لب.. هل راقبنا سير المال في المجتمع وطرق تداوله بين شتى الطبقات، ومساوئ تكدسه في ناحية وإقفار ناحية أخرى منه، أو نواح كثيرة؟

وهل أدركنا آثار الترف المادي في انتهاء الوجود الإسلامي بالأندلس مثلاً، وعملنا على تكرار المأساة..

إنَّ المال قوام الحياة وسياج المروءة.. وعندما يكون دُولة بين جماعة من الناس.. فإن نتائج ذلك مدمِّرة.. إذ الجوع كافر، وحقد المحرومين قاتل. وهل انتشرت الشيوعية إلا مع هذه الخلخلة التي أحدثها العصيان لأوامر الله سبحانه، واعتداء حدوده؟! فحتى متى يسترسل المسلمون مع أخطاء قديمة؟! لقد رأيت في أوروبا وأمريكا دولاً شتى تُشرِّع قوانين دقيقة لضبط سياسة المال والحكم.. وذلك لأنها تعرضت لنزوات الجور والأثرة والطغيان، وكما قال الشاعر:

والظلم من شيم النفوس=فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم!!

 فإذا وجدنا مجتمعات بشريَّة حصنت نفسها من هذه المآسي.. فلماذا لا نقتدي بها، أو نقتبس منها. قال لي البعض: هذا ما نخافه منك.. إنك تستورد الإصلاح من منابع بعيدة عن ديننا وتراثنا.. ونحن أغنياء عن مقترحاتك تلك..! قلت: تمنيت لو كانت غيرتك هذه في موضعها! إنني معتز بديني ولله الحمد.. ولكن ليس من الاعتزاز بالدين أن أرفض الجهاد بالصواريخ والأقمار الصناعية لأنها بدعة.. إن التفتح العقلي ضرورة ملحة لكل من يتحدث في الفقه الإسلامي. إننا في صمت نقلنا تسجيل كل مولود في دفاتر خاصة، واستعنا بذلك على تحصينه من الأمراض، وإلحاقه بمراحل التعليم، واقتياده للجيش كي يتم تدريبه وإعداده للقتال.. وذاك إجراء نقلناه عن دول أخرى دون حرج.. فماذا يمنع الفقيه المسلم من قبول كل وسيلة أصيلة أو مستوردة لتحقيق الغايات التي قررها دينه؟

إن النقل والاقتباس في شئون الدنيا، وفي المصالح المرسلة، وفي الوسائل الحسنة ليس مباحاً فقط، بل قد يرتفع الآن إلى مستوى الواجب.

 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

المصدر : كتاب الفساد السياسي 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين