بين حلب وستالينغراد

 

في عام 1986م صدرت الطبعة الأولى لكتاب "ستالينغراد ملحمة العصر" لمؤلفها فاسلي إيفانوفيتش تشويكوف المولود في 12 من شهر فبراير سنة 1900 والمتوفى 18 من مارس سنة 1982م، والذي كان قائداً للفرقة 62 المدافعة عن مدينة (ستالينغراد) في معركة  هي إحدى أهم المعارك الكبرى والفاصلة التي شهدتها الحرب العالمية الثانية، واستمرت قرابة 6 أشهر بين 21 أغسطس 1942م و 2 من فبراير 1943م.

لقد وصف هذا المارشال تلك المدينة (فولغوغراد اليوم) وأهلها بأنهم ضربوا أسمى التضحيات دفاعاً عن الحق والعدالة وحرمة الأرض، مسجلين بذلك صفحةً خالدةً في تاريخ حركة التحرر الوطني العالمية، وأنَّ ستالينغراد ستبقى رمزاً للصمود الإنساني، وتعبيراً عن الإرادة الحرة لكل مواطن شريف يدافع عن حقه أمام قوى البغي والعدوان.

وكتبت في حينها صحيفة نيويورك هيرالد تريبيون كبرى الصحف الأمريكية واصفةً تلك المدينة الصامدة أمام الحصار الألماني بقولها: "في هذه الأنقاض، التي لا يمكن تخيلها بسبب الحرائق المتتابعة، وغيوم الدخان الكثيف، بسبب الانفجارات، وتدمير المباني، والجثث المبقرة. كان المدافعون يقاتلون من أجل مدينتهم بصلابةٍ مذهلة ليس عن طريق الموت، إذا كان ضرورياً، وليس بالدفاع الذي كان عليهم القيام به، ولكن عن طريق الهجوم، كلما كان ممكناً، دون النظر للتضحيات من أجلهم، ومن أجل أصدقائهم، ومن أجل مدينتهم، مثل هذه المعارك لا تنشب بحسابات استراتيجية، ولكنها كانت تدور بحقد عارم، وتفانٍ لم تعرفه لندن، حتى في أصعب أيامها، وخلال أعنف الغارات الجوية الألمانية، وبمثل هذه المعارك تكسب الحرب".

وكتبت صحيفة رينولدز نيوز البريطانية في 29 من أيلول سنة 1942م قائلةً: "مرتين في جيل واحد، تُصبح ستالينغراد رمزاً لإرادة الحياة للشعب الروسي".

واليوم لا أظن أنَّ تشويكوف لو كان حياً وهو من عايش تلك المأساة سيقفُ متفرجاً على مأساة مدينة حلب السورية دونَ أن يصُبَّ جام غضبه على من يُحاصر تلك المدينة الجميلة، ومن يُمطرها ليلاً ونهاراً بأبشع ما أنتجته البشرية من الصناعات الحربية وأخطرها، حتى غدا الحديثُ عن حلب الشهباء  والتي تُعد من أقدم مدن الدنيا حديثاً عن مدينة ملؤها الأشباح. 

لقد كان الأولى بآلة الحرب الروسية أن تقف في صف الحرية والعدالة واضعةً حصار ستالينغراد نصب عينيها وهي من ضاقت مرارة الحصار وويلاته، مع الاعتقاد الجازم أنَّ كل الحديث عن ذلك الحصار المشؤوم قد توازيه صورةً واحدة تلتقطُ عبر الأجهزة الحديثة لتصور مأساة أهل حلب سواءً النازحين منها والذين بلغت أعدادهم الألآف أو المئات ممن علقوا تحت الركام أو لتلك المشافي التي تعاني النقص في كل المواد الطبية وترفل تحت القصف اليومي للبراميل المتفجرة.

إنَّ المفارقة بين الكارثتين أنَّ الأولى كانت بيد عدوٍ غاشم استعدى الناس محاولاً سلب أراضيهم في مواجهة جيشٍ نظامي قد استعد لمعركة المصير آخذاً لها أهبتها، بينما الآخر وهو الأشدُ نكايةً هو من يحاول أن يسلب الناس حريتهم وحقهم في البقاء بعتادٍ الغدر والبطش مواجهاً شعباً أعزل يتوارى خلف شخصه الضعيف.

وإذا مات الضمير الانساني، أضحت القيم والمبادئ محل استحلالٍ لقوى الشر، وهذا ما يُشاهد في كل يوم في مدينة الأشباح، وإذا كان تشويكوف قد صور يوم 14 من تشرين من ذلك العام بأنه يوم الأهوال، فما عساه أن يُسمي أيام حلب التي كلها أهوال، والتي باتت تختصر لنا المسافات في الدلالة على مأساة أمةٍ بأكملها وليست مدينةً واحدة. بل لا يُعرف في التاريخ المعاصر الحديث مأساةً قاربت كارثة ستالينغراد بل وفاقتها في البعد الإنساني كهذه الكارثة.

وبقدر هذا التخاذل المنظم لهذه المدينة العطرة وأهلها، تبقى الحقائق التي لا تغيرها نفوس الشر ودوافع الحقد الباطن، فكما انتصرت تلك الحرية والعدالة في (فولغوغراد)، ستنتصر في حلب الشام، وبقدر تلك المآسي تُستنطق روح الحياة وإرادة النصر العظيم، وسوف يحتفل أهلها والشرفاء الذين ناصروها كفرحة يوم 2 من فبراير عام 1943م وهو اليوم الذي أُطلقت فيه آخر طلقة على مدينة الملحمة معلنةً انتصار الصمود وهزيمة الجبروت. 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين