ما يجب على كل مسلم تعلمه-2-

 

 

ما يفترض تعلُّمه على سبيل الكفاية: 

هناك من العلوم ما يُعدُّ طلبه فرض كفاية على الجماعة، بحيث إذا قام به واحد أو عدد كافٍ سقط الحرج عن باقي الجماعة، وإلا أثِمت الجماعة عامَّة، وأولو الأمر فيها خاصَّة.

يقول الإمام ابن حزم: " ثم فرض على كلِّ جماعة مجتمعة في قرية أو مدينة أو دسكرة أو حلة أعراب أو حصن، أن ينتدب منهم- لطلب جميع أحكام الديانة أولها آخرها ولتعلم القرآن كله، ولكتاب كلِّ ما صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم، من أحاديث الأحكام أولها عن آخرها، وضبطها بنصوص ألفاظها، وضبط كل ما أجمع المسلمون عليه، وما اختلفوا فيه- من يقوم بتعليمهم، وتفقيههم من القرآن، والحديث، والإجماع، ويكتفى بذلك على قدر قلَّتهم أو كثرتهم".

يعني أن الواجب طلب جميع ما ذكره ابن حزم، إن لم يستوعبه جهد الطالب.

واستدلَّ ابن حزم لما ذكره بقوله  تعالى :[وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ] {التوبة:122} . فالنفار المذكور فرض على الجماعة كلها، حتى يقوم بها بعضهم فيسقط عن الباقين.

 ثم قال: وفرض على جميع المسلمين أن يكون في كلِّ قرية أو مدينة أو حِصْن من يحفظ القرآن كلَّه، ويعلمه الناس ويُقرئه إيَّاهم، لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقراءته ([6]). 

والظاهر أن فرض الكفاية هنا: هو كل ما تحتاج إليه الجماعة المسلمة في دينها أو دنياها، من التبحُّر في علوم الشرع أو التَّخُصُّص في علوم الكون: من طب، وهندسة، ورياضة، وفلك، وكيمياء، وطبيعة، وإحياء، وجيولوجيا أو غيرها، من كل ما تتطلبه حياة الناس الاجتماعيَّة في هذا العصر مدنياً أو عسكرياً.

بل كل ما يحتاج إليه المسلمون من العلوم، ليُحقِّق لهم التفوق على غيرهم، وتكون لهم القوة على عدوِّهم، فهو فرضٌ عليهم على الكفاية، والتفريط فيه يصيب الأمة كلها بالحرج والإثم.

 وقد يتعيَّن فرض الكفاية في حقِّ بعض الناس إذا دعاه إليه من له الأمر ولا عذر عنده أو كان عنده من الأهليَّة ما ليس عند غيره، وعَلم ذلك من نفسه، ولم يحل دونه حائل.

والأصل في ذلك: أنَّ كلَّ ما يُؤدِّي إلى ضعف الأمة، يجب دفعه قبل وقوعه، ورفعه إن وقع. وأنَّ كل ما يؤدِّي إلى قوة الأمة واستقرارها، وحمايتها من الأخطار الداخليَّة والخارجيَّة، يجب تحصيله عليها بالتضامن، وأنَّ ما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب.

ويقول الإمام الغزالي في بيان العلم الذي هو فرض كفاية:

"اعلم أنَّ الفرض لا يتميَّز عن غيره إلا بذكر أقسام العلوم، والعلوم بالإضافة إلى الغرض الذي نحن بصدده تنقسم إلى شرعيَّة وغير شرعيَّة، وأعني بالشرعيَّة: ما استفيد من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، ولا يرشد العقل إليه مثل الحساب، ولا التجربة مثل الطب، ولا السماع مثل اللغة.

 فالعلوم التي ليست بشرعيَّة تنقسم إلى ما هو محمود، وإلى ما هو مذموم، وإلى ما هو مباح.

 فالمحمود ما يرتبط به مصالح أمور الدنيا، كالطب والحساب، وذلك ينقسم إلى ما هو فرض كفاية، وإلى ما هو فضيلة وليس بفريضة.

أما فرض الكفاية فهو كل علم لا يُستغنى عنه في قوام أمور الدنيا كالطب؛ إذ هو ضروري في حاجة بقاء الأبدان، وكالحساب، فإنه ضروري في المعاملات، وقسمة الوصايا، والمواريث وغيرهما. وهذه هي العلوم التي لو خلا البلد عمَّن يقوم بها حرج أهل البلد، (أي: أثموا)، وإذا قام بها واحد كفى وسقط الفرض عن الآخرين.

 فلا يتعجب من قولنا: إنَّ الطب والحساب من فروض الكفايات، فإنَّ أصول الصناعات أيضاً من فروض الكفاية كالفلاحة، والحياكة، والسياسة، بل الحجامة والخياطة. فإنه لو خلا البلد من الحُجَّام، تسارع الهلاك إليهم، وحرجوا بتعريضهم أنفسهم للهلاك. فإنَّ الذي أنزل الداء أنزل الدواء، وأرشد إلى استعماله، وأعدَّ الأسباب لتعاطيه، فلا يجوز التَّعرُّض للهلاك بإهماله.

 وأما ما يُعدُّ فضيلة. لا فريضة، فالتعمُّق في دقائق الحساب، وحقائق الطب، وغير ذلك ممَّا يُستغنى عنه، ولكنه يفيد زيادة قوة في القدر المحتاج إليه.

وأما المذموم: فعلم السحر، والطلسمات، وعلم الشعوذة والتلبيسات.

 وأما المباح منه: فالعلم بالأشعار التي لا سخف فيها، والتواريخ والأخبار وما يجري مجْراه([7]). أ.هـ.

وفي بعض ما ذكره الإمام أبو حامد هنا نظر، بالنسبة لعصرنا. فإن اتِّساع نطاق العلوم اليوم، وانقسام كل منها إلى فروع، وكل فرع إلى تخصُّصات دقيقة، يخالف ما اعتبره الغزالي من باب التَّعمُّق المُستغنى عنه في دقائق الحساب، وحقائق الطب، وعدَّه بذلك فضيلة لا فريضة.

فالواقع أنَّ هذا التعمُّق اليوم أصبح لازماً لكل طب ناجح، أو محاسبة ناجحة، وقد تطوَّر علم الطب، والعلوم التي تخدمه تطوراً كبيراً، وكذلك علم الرياضيات، وكذلك علوم الطبيعة التي ذكر الغزالي نفسه في مقام آخر أنه لا حاجة إليها!! بخلاف الطب فإنه محتاج إليه([8]).

وربما كان الإمام الغزالي رحمه الله معذوراً فيما ذكره من العلوم والرياضيات في عصره، فقد كانت ممزوجة بالفلسفة، غير منفصلة عنها، وكان للغزالي رأيٌ في تلك الفلسفة وقضاياها، مُسجَّلة في كتابه المعروف " تهافت الفلاسفة "، وقلَّ من يقرأ الجانب العلمي والرياضي من الفلسفة دون أن يتأثَّر بالجانب الإلهي منها كما أشار إلى ذلك في "المنقذ من الضلال".

 والجانب الإلهي من تلك الفلسفة خليط من الوثنيَّة اليونانيَّة ومن شطحات العقل البشري فيما لا تُعرف حقيقته إلا بالوحي المعصوم.

وكذلك ما ذكره عن العلم بالأشعار التي لا سُخف فيها، وتواريخ الأخبار، وما يجري مجْراه، حيث عدَّها من قسم المباح فحسب، والذي يبدو لي أن معرفة الشعر والأدب العربي عامَّة، ومعرفةَ التاريخ الإسلامي على الخصوص، والإنساني على العموم، من الواجبات الكفائيَّة فلا يجوز أن تخلو الجماعة المسلمة عمَّن يُحسنها ويوجِّهها وجهة الحق، ويرد على من يستخدمها في سبيل الباطل، كما نرى ذلك بين أتباع اليمين واليسار.

وهي كذلك سلاح من الأسلحة الثقافية للداعية([9]) المسلم.

بل أرى أنَّ واجباً على الجماعة الإسلامية أن يكون فيها من يتخَصَّص في جميع ألوان الدراسات الإنسانيَّة المختلفة (علم النفس، والاجتماع، والتربية، والاقتصاد، والسياسة وغيرها)، حتى يدرسها ويعرضها من منطلق إسلامي أصيل، وفي إطار إسلامي مأمون، ولاسيما أنَّ هذه العلوم الإنسانيَّة والاجتماعيَّة، هي التي تصنع فكر الأمة وذوقها. وتلوِّن اتجاهها وسلوك أفرادها بلونها، فلا يجوز أن يعدها المسلمون مُجرَّد مباح يجوز فعله وتركه، إنما يجب عدُّ ذلك من فروض الكفاية.

ولو رأى صاحبَ "الإحياء" رحمه الله ما رأينا من خطر هذه العلوم، وتسلط حَمَلتها على عقول الشباب، واستغلال اليهود لها في كثير من جامعات الغرب، ومراكز بحثه، لغيَّر رأيَه واجتهاده، وقضى بما قضينا، ولكلِّ عصر ظروفه وأحكامه.

الحلقة السابقة هـــنا

من كتاب: " الرسول والعلم" 

------------------

 ([6]) الإحكام لابن حزم ص690-691. 

([7]) إحياء علوم الدين للغزالي – جـ1 ص16.

([8]) الإحياء جـ1/22.

([9]) أنظر: كتابنا "ثقافة الداعية" فصول: الثقافة اللغوية والأدبية والتاريخية والإنسانية. 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين